كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

«السيارة»

د. عبد الله حنا- فينكس:

السيارة مؤنث السيّار «القافلة» وأصلها القوم يسيرون (انظر محيط المحيط للبستاني). وجاء في القرآن الكريم في سورة يوسف: «وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه، قالوا يابشرى هذا غلام». والسيارة تعني القافلة.
وهي عبارة عن سنجق (لواء) له صاري (عمود من الحور) بطول ثلاثة أمتار عُلقت عليه قطعة نسيج قوي ذات لون أخضر موشى بخيوط الحرير الأصفر والأحمر وغيره من الألوان. وقطعة النسيج هذه بشكل هرمي قاعدته أربعة أمتار وارتفاعه لا يقل عن ثلاثة أمتار مزينة بالآيات القرآنية والكتابات الصوفية المكتوبة على خِرقٍ (قطع) من النسيج المتعددة الألوان. وكانت تلك القطعة الكبيرة من النسيج ذي اللون الأخضر تُعلق (تُثبت) رأسها وقاعدتها بتلك الصارية وتُشد أطرافها وأعلاها بأمراس قوية يمسكها رجال أشداء كي تبقى السيارة (السنجق أو اللواء) مفتوحة ومتوازنة تقاوم عبث الريح فلا تميل إلى الأمام أو الخلف أو اليمين أو الشمال. ويحمل الصارية رجل قوي البنية يتبادل حملها مع رجل آخر كلما تعب. كما يرافق (السنجق) السيارة مجموعة من الرايات يحمل كلاً منها أحد مريدي شيخ الطريقة.
وقد وجد في دير عطية أربع نوبات وهي: حسب ما ذكره السيد جميل قاسم غرة من مواليد 1918 لدى زيارتنا له، برفقة الشاعر محمد جومر، في 5-11-1998.
نوبة بيت جومر (رفاعية)، نوبة شريف التجار (قادرية)، نوبة بيت يونس (قادرية)، نوبة بيت حاج قاسم غرة (رفاعية).
يحتوي متحف دير عطية «سيارة» الطريقة القادرية في دير عطية المؤلفة من الراية الكبرى (السنجق) وسبع رايات. ونقدم فيما يلي وصفاً عاماً لهذه الرايات والكتابة المخطوطة عليها، وهي:
1ـ الراية (السنجق أو السيارة) الكبرى وهي مؤلفة من جناحين من القماش ذي اللون الأخضر يتوسطها الصاري الخشبي وفي أعلاه السنجق المعدني. ولاتزال الأمراس (الحبال الرفيعة) مثبتة في أطراف الجناحين. ويتوسط أرضية كل جناح مربع كبير من القماش الأبيض. والأرضية الخضراء موشاة بخرق من القماش ذي الألوان الحمراء والصفراء والبيضاء بأشكال مختلفة لعلها رموز صوفية كما يظن.ولم نتمكن من قراءة الكتابة، التي تحتل مساحة واسعة من الراية، والتي أزال الزمن جزءاً من معالمها ولكننا تمكنا من قراءة الجملة التي تبين هوية الراية وهي التالية: «هذه الراية للقنديل النوراني سيدي وملاذي إلى الله تعالى الشيخ عبد القادر الكيلاني 1208».
2ـ العلم أو الراية الأولى أرضيته قماش أخضر محاط بإطار أحمر وموشى بخرق تمثل الرموز الصوفية كما نظن، نقرأ على هذا العلم الكتابة التالية: «بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ماشاء الله. هذه راية الشيخ عبد القادر الكلاني. علي بن أبي طالب رضي الله عنه. النور فيه نزهة للناظر. نصر من الله وفتح قريب. لاحول ولا قوة إلا بالله العلي القدير». ونقرأ في إحدى زوايا الراية: «كتبه الفقير لعفو ربه الغفار صالح التجار سنة 1343 25 رمضان».
3ـ الراية (العلم) الثانية أرضية قماشها أبيض محاطة بإطار أحمر وموشاة برموز صوفية. ومكتوب عليها أسماء الخلفاء الراشدين وأسماء مؤسسي الطرق الصوفية، الذين ينتسبون إلى الإمام علي وفاطمة الزهراء وهم: عبد القادر الكيلاني، السيد ابراهيم الدسوقي، السيد أحمد البدوي، احمد السيد الرفاعي. ونقرأ أيضاً على الراية:
علم لروض العارفين وغيثهم
وحياضهم الباز عبد القادر
4_الراية الثالثة أرضيتها خضراء موشاة بقطعة قماش أبيض مربعة. عليها كتابة تبدأ بـ لا إله إلا الله.. وتنتهي بـ «القطب الرباني.. عبد القادر الجيلاني قدّس الله سره»، ثم عبارة: «صاحب هذا العلم مصطفى ابن اسماعيل مصطفى سنة1211».
5_ الراية الرابعة أرضيتها بيضاء وموشاة بمربع أحمر لسلطان البرايا الشيخ عبد القادر قطب الأولياء وتتوزع على الراية أسماء الخلفاء الراشدين.
6_ الراية الخامسة أرضيتها خضراء يتوسطها مربع أبيض كتب فيه: «مدد يا رسول الله مدد يا سيدي عبد القادر عبد القادر مدد».
7_الراية السادسة الأرضية بيضاء والمربع، الذي يتوسطها اخضر. ولم نستطع قراءة إلا «بسم الله الرحمن الرحيم».
8_ الراية السابعة أرضيتها بيضاء موشاة بمربع أحمر.
9_ الراية الثامنة قاعدتها خضراء.
10_ الراية التاسعة قاعدتها بيضاء محاطة بإطار أحمر تتوسطه قطعة قماش مربعة خضراء. ولم نستطع ان نقرأ إلا «بسم الله» و «عبد القادر».
11_ ولا تختلف الرايتان العاشرة والحادية عشر عن سابقتها.
***
كان موكب السيارة -ينطلق كما ذكرنا في يوم خميس المشايخ أو في عيد الخضر أو في مناسبات مختلفة- من زاوية الطريقة القادرية أو الرفاعية أو من الزوايتين معاً تتقدمه صفوف من المريدين لشيخ الطريقة وهم يذكرون الله في سيرهم جهراً. وخلف هؤلاء يسير حملة المزاهر (نوع من الدفوف) والصنوج وبينهم حامل السيارة ووراء السيارة حامل الطبل الكبير وبقية المريدين يحيطون بالشيخ وهو يمتطي فرساً ولابساً عمامة شيوخه الأوائل، التي ورثها عنهم. ويتجه الموكب شمالاً إلى «الشيخ عطية»* (مكان المتحف).
{هو بناء من اللبن فوق أكمة مؤلف من غرفة وبهو، وكان مكاناً مقدساً لدى المسلمين والمسيحين. ووفي زحمة مشاريع أبو سليم أزيل هذا البناء بصورة لا حضارية، وباءت جهودنا في الفشل في الاحتفاظ بهذا المعلم الأثري في قلب المتحف وترميمه ووضع لوحة رخامية تعرّف بتاريخ وهو رمز التعايش بين المسلمين والمسيحيين في ديرعطية}
وبعد زيارة الشيخ عطية يرجع الموكب إلى دير عطية ماراً بأزقتها باتجاه الجنوب لزيارة (النبي غيلان)**، حيث يزداد عدد المشاهدين والمشاركين في الموكب، وهم ينشدون الأذكار والاشعار، التي تشيد بمشايخ الطريقة وكراماتهم. رمما كانوا ينشدونه:
صياد يا صياد يا صيادي*
شي لله أحمد يا رفاعي
والشيخ عبد القادر البغدادي
أبو السبطين سلطان الرجالي
بعد وصول الموكب إلى النبي غيلان تتشكل حلقة واسعة للذكر يتوسطها مشايخ الطريقة وهم يكثرون من التمايل إلى الأمام والخلف والجانبين، وهم يرددون بإيقاع موسيقي خاص: الله، الله، الله… الله دايم باقي حي.. حي، حي…. الله
دايم باقي حي. وتستمر حلقة الذكر قرابة ساعة حيث تنتشي القلوب وتبتهج النفوس وتغلي الدماء في العروق. وتعتري السالكين طريق التصوف ظواهر تزداد عنفاً أو رقة حسبما يتلقى السالك من التجليات. ثم تبدأ العودة إلى البلدة بالطريقة نفسها وترديد الأذكار والأناشيد. وأثناء مرور السيارة في الأزقة ذهاباً وإياباً كانت النسوة يَقِفْنَ على أسطح المنازل ويَقُمْنَ بربط منديل في السنجق للحصول على البركة وسط التهليل والتكبير. وكانت كثرة المناديل المربوطة أو المعقودة على السنجق دليل على شعبية صاحب الطريقة ورغبة الناس في التبرك منه. وتجدر الإشارة إلى أن بعض النساء المسيحيات كنّ يشاركن أحياناً من أسطح منازلهن بعقد المنديل في السنجق تعبيراً عن روح الإخاء والمحبة بين الجميع.
قبل مغادرة النبي غيلان، وبعد أن تَجَرَدَ بعض المريدين في حالهم عن الرؤية وتعلّقت بصائرهم بالأنوار الرحمانية، تبدأ مراسم إحدى الخوارق الصوفية فيما يعرف بـ «ضرب الشيش». حيث يقوم أحد المشايخ المتقدمين في الطريقة بإدخال سيخ حديد خاص في جوانب بطن المريد، ويقوم غيره بغرس دبوس كبير في خد مريد آخر*. ويسير هؤلاء مع الموكب باتجاه مركز القرية في ساحة الشقطي.
ولدى وصول الموكب إلى ساحة الشقطي كانت تجري أحياناً مراسم «الدوسة»، حيث ينكفئ الشباب على وجوههم جنباً إلى جنب، وهم منبطحون على بطونهم فوق الأرض ومتراصون ومتلاصقون لا يفصل بينهم فاصل. ثم يمرّ (يدوس) شيخ الطريقة فوقهم ممتطياً جواده يقوده اثنان من اتباعه، فيدوسهم فوق ظهورهم وسط التكبير والتهليل وهم لا يشعرون بشيء. وإذا أحس أحدهم بألم وجهر بمشاعره فيُتهم في إيمانه ولذلك لا يتجاسر أحد على الإعلان عن ألمه إذا شعر به. وذات مرة أصيب أحد المنبطحين على الأرض بألم في ظهره بسبب دعسة حافر فرس الشيخ. وسرعان ما انتشرت إشاعة أن مرد الألم يكمن في كون المنبطح كان يُخَبّئ في جيبه «بطحة عرق» فلاقى جزاءه!
وذكر لنا عبد الله الرفاعي أن عمه الشيخ عبد المجيد الرفاعي قَدِمَ من قارة في موكب مع سيارته للمشاركة في موكب سيارة دير عطية. و أثناء مراسم الدوسة وضع أحد المسيحيين عدداً من صحون القيشاني إلى جانب المنبطحين أرضاً، فداست فرس الشيخ عبد المجيد على صحون القيشاني وهو ممتط عليها دون أن تتكسر الصحون… كما مرّت فرس الشيخ فوق المزاهر (الدفوف) وهي من الجلد فلم تُفْخَت (تمزق).. وهذا دليل عللاى كرامات الشيخ .
وبعد انتهاء الدوسة عند غروب الشمس تنتهي مراسم السيارة ويعود الناس إلى بيوتهم وهم يتحدثون عن تلك الخوارق وكرامات شيوخ الطريقة وينسجون حولها القصص والحكايا، التي تبقى حديث الناس فترة من الزمن.
ولم تخلُ مراسم السيارة من أمور لم تكن في صالح أصحاب الطريقة والهالة التي أحاطوا نفسهم بها. وقد حفظ لنا الشعر الشعبي إحدى هذه الأمور، التي لا تزال عالقة في ذاكرة مسنين ممن التقينا بهما وهما مصطفى عبده وعبد الله زرزور. فقد روى كل منهما، دون أن يعلم ما تحدث به الآخر، حادثة انكسار الصاري (الخشبة) في إحدى الاحتفالات في إحدى السنوات الأولى من القرن العشرين. فبعد خروج السيارة من الزاوية القادرية بقليل متجهة نحو الشيخ عطية انكسر الصاري، بعد أن عبثت الريح في السيارة بالقرب من حائط جنينة بيت الشاويش. فوقع السنجق في الماء الجاري على حافة الجنينة. ويقول عبد الله زرزور أن سبب انكسار السنجق هو أن خشبة الحور (ساري السيارة) كان قد نخرها السوس فلم تقوى على مقاومة الريح. وفي مساء ذلك اليوم عُقدت حلقة الدبكة على ساحة الشقطي وأنشد محمود القصاب على الدبكة البيتين التاليين:
المُلاّ عَمْ يْتلَولَق
مُشحَر يا أحمد يونس
من تعتيره انكسر السنجق
حورق سنجقكم حورق
توضيحات :
المُلا هو لقب مصطفى مليسان حامل صاري السيارة. عم يتلولق= يتأرجح في سيره ذات اليمين وذات الشمال ولا يستطيع السير بخطى ثابتة وئيدة مستقيمة. والسبب هنا هو شدة الريح، التي كانت تعبث بالسيارة.. من تعتيره = من شدة بؤسه وشقائه وقلة حظه.
مشحر من الشحار سواد الدخان، وتطلق على من أصابته مصيبة صَغُرت أم كَبُرت. وتتردد في دير عطية. يا مشحّر، يا مشحّرة، ياشحير، ياشحيرة، ياشُحاري…الخ.
أحمد يونس من مريدي الطريقة القادرية صاحبة السنجق المكسور. وكان له «مكتب» لتعليم القرآن وورث ابنه ابراهيم يونس هذه المهنة..
حورق: عطش عطشاً شديداً. هذه اشارة إلى أن السنجق كان محورقاً أي عطشاناً فوقع (نزل) إلى الماء ليشرب..
***
وإلى لقاء في حلقات جديدة مع صاحب هذه الصفحة، الذي يُطلق أحيانا على نفسه: الشيخ عبد الله الدرعطاني...
ودعاء الشيخ عبد الله مستجاب لمن يعتقد "بكراماته". فهو صريح لا يكذب ولا يماليء الحكام، يحب الخير للجميع، ويتمنى أن يعمّ الوئام والسلام كوكبنا الأرضي ومن يعيش عليه.
والسلام على المتقين