كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حكايات القرية.. الفصل الثالث-2

عدنان بدر حلو- فينكس

نشاطات أخرى:
في فترة الربيع كنا نتفنن في ملاحقة العصافير وترصدها لمعرفة أماكن أعشاشها. وكان الذي يعرف عشا يزوره باستمرار ليعرف متى تفقس البيضات وأين وصل نمو الفراخ.. ليقوم بعد ذلك بتشليحهم قبل أن يتمكنوا من الطيران... وكان من أهم ما في هذا التتبع أن يتم بسرية عن الآخرين حتى لا ينازعوه ذلك "الكنز"!
أما صيد العصافير بالبندقية فكان من مشاغل الجيل السابق: غسان وجوزيف وعدنان اللبس وابراهيم الزخور ويوسف الفارس.. وقد صنعوا بأيديهم بندقيتي دك (الأخمص من خشب مشمش، والسبطانة من إكس سيارة).. وكانوا يصعدون ليلا إلى مزاز النبي صالح ليسرقوا من سقفه ألواح رصاص يصبونها خردقا بواسطة علبة مسطحة فيها ثقوب يذاب فيها الرصاص ثم تدق بشكل هادىء ومتكرر فوق علبة أخرى عميقة مملوءة بالماء ثم بطبقة رقيقة من الزيت. وكان لمعظم ذلك الخردق أذناب رفيعة.
أما في جيلنا نحن فكان أولاد الرويسة شبه مكتفين باللعب مع بعضهم البعض، وقد ظهر لديهم اتجاه نحو الكسل في الحركة عندما أخذوا يقضون أوقاتا أطول بلعب الشدة في بيت مرشد.. في حين كانت لي امتدادات ولدنة أبعد من هذا الإطار، فهناك علاقتي مع أولاد الملزق أقاربي من أمي، وكذلك مع أولاد حارة بيت الصوص حيث تقيم خالتي سارة التي كنا نزورها باستمرار وازدادت زياراتنا لهناك بعد أن بدأنا النشاط الحزبي وصار لنا بين شباب تلك الحارة رفاق واصدقاء كثيرون. يضاف إلى ذلك ارتباطنا، أنا وغسان، بالجنينة على نبع العروس التي كنا نعمل فيها حفرا وسقاية وقطافا في أيام كثيرة من فصل الصيف، فارتبطنا هناك أيضا بصداقات وعلاقات رفقة مع أولاد مشتى التحتاني.
ثم كان ولعي الشديد بالصيد، وهي هواية أخذتها عن والدي الذي كانت هديته لي يوم نجحت بالسرتفيكا، بارودة دك من طرابلس – ونادرا ما كان هناك أب يجرؤ على السماح لولده في ذلك العمر بحمل بندقية واستخدامها. وهنا لا بد من وقفة مع صيد العصافير الذي كان يشغلني يوميا طوال الصيف – بعض الأحيان على موعد مع رفاق الصيد مثل مخاييل اليوسف أو ابراهيم الزخور أو جمال بشور (ابن المعلم فريد) ... وفي أحيان كثيرة وحدي –
كنت أهييء العدة من المساء: البوتاس، أي البارود الأبيض، والخردق والكبسون والبارودة المغسولة والمجففة من الداخل. وأفيق من قبل الفجر كي أغادر البيت في غبشة الصبح باتجاه التينات غربي البيت، وبالكاد تكون بعض العصافير قد استيقظت وبدأت البحث عن الطعام.. ومن هناك إلى تينة الكسارة فالزيتونة وقرطمة اليان الجبرا تحت التلة، ثم حرشة بيت زخور التي كانت تستقبلني برائحة ما أزال أعشقها حتى الآن، مع أنني لم أكن آنذاك أعرف مصدرها، وهي في الحقيقة زهور الخزامى (اللافاندر) وكانت تنبت على حياء داخل جفنة بطم في أول الحرشة من جهة التلة. ومن هناك نزولا إلى قشموط الذي ندور فيه عشرات المرات أو نرابط في أماكن محددة – إما قرطمة منير المشابك تحت الكروسة وإما قرطمة أيوب الجرجس المحاذية للدقارات، وبينهما تينات عفيف أو تينة حليم الرشيد بالقرب من جوزة عمتي عفيفة، مع غزوات سريعة على قشموط جبرا العيسى –
في بعض الأحيان كنا نغادر قشموط إلى الحاموش وأراضي بيت سلهب ومنها إلى مشتى التحتاني، او نتبع طريق حاكورة الحرش فمشتى التحتاني، ومن هناك إلى بيت زهرة، وكان ثمة قرطمة مهمة جدا بجانب بيت جودات النهوه تحت المقبرة، ثم كرم برهان ومحيط عين التقلاية تحت مزار مار الياس، وبعده نتابع إلى بستان زلخة وصولا إلى غبيط القرمة، ثم نعود بالطريق نفسه بعد الظهر... أما طعامنا في هذه الجولة فهو من أطايب البساتين وأهمها التين والعنب والبندورة. وفي بعض الأحيان نتكارم على أنفسنا فنشوي بعض العصافير على أحد الينابيع العذبة التي ما أزال أحتفظ في ذاكرتي حتى فروق طعم الماء من واحد منها لآخر.
وكان لنا طريق آخر إلى المهيري يبدأ بتينات الكسارة ثم دالية الكرم فوق السهيلات فقرطمات العفشة، ومن ثم إلى مهيري الروم فبساتين المهيري بشقيها – الروم والموارنة- حيث نمضي النهار كله صعودا إلى غبيط جبرا ونزولا إلى نبع الشير، وفي المساء نعود بحصيلة النهار، وكان المعدل اليومي ما بين عشرين وثلاثين عصفورا، ترتفع في بعض الأيام وتنخفض في أخرى تبعا للتيسير، ونقوم عند عودتنا بنتف العصافير وتنظيفها ثم ننصرف إلى الساحة لاستكمال ولدنة اليوم بما تيسر من اللعب مع الرفقة الدائمة هناك.
-------------------------------------------------------------------------------------------------------
وفي مجال الحديث عن صيد العصافير أعيد نشر قطعة صغيرة عن أنواع العصافير سبق أن كتبتها مرفقة بتحية لروح الصديق المرحوم الدكتور عيسى حاماتي الذي سألني عنها مرة:
من المعروف أن منطقتنا تتمتع بطبيعة جبلية ساحرة تتنوع جمالاتها ما بين الجبال والوديان والبساتين والينابيع وغيرها.. وفي أحضان هذه الطبيعة الخلابة تمثل العصافير كنزا جماليا آخر لاسيما عندما تملأ فضاءات الربيع بتغريدها الشجي وأنغامها الساحرة.. وهذه العصافير نوعان: مقيم ومهاجر
- بالنسبة للعصافير المقيمة نعرف منها ما يلي:
الدوري: وهو معروف للجميع إذ يعيش بين البيوت ويبني أعشاشه في شقوق الجدران وسطوح القرميد.
الزكزوكة أو الحسون: وهو صغير الحجم مزركش بالألوان الصفراء والسوداء والحمراء ويعيش معظم الأوقات في مناطق الأشواك الطويلة ويتغذى على حبوبها وهو يتمتع بزقزقة جميلة ويعتبر من طيور الزينة الأكثر شيوعا.
البيوض: وهو ملون بالأسود والأبيض والرمادي ويعيش في المناطق الصخرية حيث يبني أعشاشه في الجدران وشقوق الصخور ويكثر في منطقة جبل المشتى.
القرقفان: وهو مزركش بالألوان الرمادية والزرقاء ويعيش ويبني أعشاشه في الأحراش.
الصفرون: يغلب عليه اللون الأصفر ويعيش في الأحراش لكنه يتميز باختياره رؤوس الأطراف العليا من الأشجار العالية حيث يقبع مطلقا تغريداته القوية والجميلة التي تصل إلى مسافات بعيدة.
القبر (جمع قبرة): يعيش على جوانب الطرقات البرية وله ريش مرتفع في قمة رأسه ومن هنا جاء اسمه، وهو أيضا يكثر في منطقة الجبل وكان له حضور كثيف في تلة الزعتر قبل بناء المنتجع واستيلاء الأبنية الإسمنتية على تلك المنطقة بكاملها.
الحمور: وهو طائر أكبر قليلا من العصفور يعيش على الأرض في أسفل الجفن والأدغال على حوافي الأحراش والبساتين ويميل إلى الركض والقفز السريع أكثر من الطيران، وهناك من يعتقد أنه ليس نوعا مستقلا بل هو صغار الشحرور!
البدوي أو البدوية: وهو ذو لون مخلوط من الأسود والأصفر والرمادي. معروف باختياره لشجر التوت كمساحة معيشة وتكاثر وبناء الأعشاش في جوف جذوع تلك الأشجار وقد يكون اختفى من منطقتنا مع اختفاء التوت.
قب طويزة: وهو طير مائي جميل ورشيق له ذنب طويل يتحرك باستمرار إلى فوق وتحت، يعيش على ضفاف الأنهار.
الرويهب أو البلبل العربي: وهو طائر مغرد جميل المنظر قدم حديثا إلى منطقتنا واستوطن فيها (يقال إنه قدم من العراق حيث كان يوجد بكثرة في بساتين النخيل) وهو يعيش على الأشجار المثمرة ومعروف بأنه شغوف بالكرز بشكل خاص. ومعروف بشراهته حتى أن أصحاب بساتين الفواكه يعتبرونه آفة زراعية أكثر منه طائرا.
- أما العصافير المهاجرة فهي:
البرقيطي: الذي يشبه الدوري كثيرا بشكله وحركته مع مخالطة اللون الأبيض لريشه في الجناحين والرقبة. وهو عصفور شتوي يأتينا مع بداية الشتاء ويغادرنا في الربيع.
البودس: وهو الأصغر على الإطلاق حتى لتحسبه فراشة. داكن اللون يعيش في جفن السنديان.
الفشتكة: ومنها ثلاثة أنواع فشتكة الطيون (وهي صديقة البيئة وخاصة ما تملكه من قدرة كبيرة على حماية مزارع البندورة أكثر من أي رشوش كيميائية) والفشتكة العادية ثم الفشتكة البواشقية الأكبر حجما.
البوحن: وهو عصفور صغير يأتي في الخريف ويتميز بالطوق البرتقالي في رقبته.
البومحركون: يشبه البوحن مع نقط سوداء وبيضاء في رقبته البرتقالية. ويختلف التلوين بين الأنثى والذكر.
العناب: يشبه الدوري لكنه أصغر حجما.
الشماس: مثل العناب لكن رأسه مغطى باللون الأحمر.
الخوري: مثل سابقيه لكن رأسه مغطي باللون الأسود. (وهذه العصافير الثلاثة تعتبر أهم عصافير التين).
سمنة الشوك: عصفور صغير رمادي اللون يتحرك منفردا، وهو على الغالب كثير الدهن.
البواشقي: أكبر عصافير التين التي تأتي إلى منطقتنا في فترتين: الأولى ربيعية مع موسم الفول الأخضر والتوت، والثانية صيفية تمتد من أوائل أيلول إلى أواخر تشرين الثاني وتتغذى على التين والعنب والقرطم.
الوروار: وهو طائر جميل جدا يأتي إلى المنطقة في النصف الثاني من الصيف على شكل رفوف كبيرة تتجمع قبل المساء في سماء المشتى كمهرجان للألوان والزقزقة البديعة قبل أن تفيء إلى رؤوس الأشجار العالية للمبيت.
يضاف إلى هذه العصافير بعض الأنواع القليلة التي نراها من حين لآخر مثل البولسان آكل النمل ونقار الخشب وغيرها. كما يمكن الحديث عن طيور أكبر قليلا من العصافير كالمطوق والسمن والشحرور والهدهد والدرغل والفري والحمام البري والبوزريق ودجاج الأرض وغيرها. وقبل هذه وتلك هناك الحجل ملك الطيور وأرغن الجبال.
بالطبع هذه اللائحة من الذاكرة وربما يكون لدى الأخوة معلومات أخرى نحبذ إضافتها لوضع لائحة كاملة بين أيدي أجيالنا الجديدة التي لم يبق لها مساحات كافية من البراري لتتمتع بهذه الجمالات الطبيعية الرائعة.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
وكان العصر مخصصا لمشاوير الكروسة الغربية ولعب القواميع (البولينغ المشتاوي) عند المحفارة تحت حرشة بيت زخور (مكان البريد حاليا).
وبعد أن كبرنا قليلا في النصف الثاني من الخمسينات، تطورت أمورنا وتعلمنا قيادة السيارة – بالسرقة طبعا- فانتقلنا من سرقة الحمير المربوطة قرب الساحة إلى سرقة سيارة الوالد عندما يأتي إلى المشتى ويتركها في الساحة، وكذلك سيارة ابن العم نجيب الحلو. وفي هذه المسألة كان شريكي الدائم عدنان اليوسف.. وكان لدينا مجموعة مفاتيح لا بد وأن يصلح واحد منها لفتح أي سيارة نجرب فتحها.
ومرة صادر والدي تلك المفاتيح مني ونام مطمئنا إلى أننا لن نستطيع سرقة السيارة في تلك الليلة.. لكن عدنان اليوسف اقترب منه وهو نائم في الليوان على السوفة ووجهه باتجاه الكرسي التي عليها ثيابه، وقال له مقلدا صوت أمي:
بدري.. بدري.. جلس نومتك يا عيني. وكان الوالد معروفا بالشخير ومتعودا بالتالي على تدخلات مشابهة من أم غسان، فتقلب في نومته وأدار ظهره للكرسي مما أتاح لعدنان أن يأخذ البنطلون، لنسرق منه المفاتيح ونعيده إلى محله، وبعد أن قضينا الليل كله نحزك ونمزك بالسيارة أعدنا المفاتيح بالطريقة نفسها.
وفي اليوم التالي عرف الوالد من نقص البنزين أننا سرقنا السيارة. وفي المساء كانت السهرة في بيت العم يوسف فقال لعدنان: إذا بتقلولي كيف سرقتو السيارة مبارح بردلكم المفاتيح، وبقلكم مبروكة خذوها بدون سرقة عندما تريدون.. وبالفعل روى عدنان القصة كما حصلت فضحك جميع الحاضرين، بمن فيهم الوالد الذي التفت إلي وناولني المفاتيح. وصرت منذ ذلك الوقت أقود السيارة برفقة الوالد حتى عندما نكون مسافرين على طريق حلب وبدون أن تكون معي شهادة.
ومع سيرة السيارة، أعود لأذكر بانها لم تكن هي والراديو، المستحدثات الجديدة التي دخلت حياتنا في تلك الفترة، ونقلتها مسافة طويلة جدا على طريق التطور.
كنا ما نزال أطفالا عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وكان ثمة الكثير من آثار تلك الحرب ما يزال مؤثرا في حياة الناس.. فعلى سبيل المثال كان الكبريت ما يزال نادر الوجود وكانت الناس تلجأ إلى وسائل أخرى من أجل إشعال النار..
كان هناك من يملك قداحة ذات فتيل برتقالي سريع الاشتعال يلتقط الشرر من حجر القداحة. في حين كان آخرون يلجؤون إلى حجر صوان وحديدة صغيرة مطوية على شكل علاقة الثياب فيضع الفتيلة على الصوانة ثم يقدحها بالحديدة فيطير الشرر من الحجر ويشعل الفتيلة. وفي غياب هاتين الوسيلتين كان البعض يلجأ إلى حزّ قطعتي خشب على بعضهما البعض إلى أن ترتفع حرارتهما من الاحتكاك وصولا إلى درجة الاشتعال.
وفي كل الأحوال كان الجميع يلجؤون في أيام الشتاء الباردة إلى طمر الجمر في رماد الحواش أو المنقل أواخر الليل لكي يجدوا بعض الجميرات الصغيرة (يقال لها البصة) ما تزال مشتعلة عند الصباح فيضيفون إليها بعض العيدان اليابسة وينفخون عليها حتى تشتعل. فيوفرون عود الكبريت النادر أو عناء القداحة وحجر الصوان.
أما أنواع الوقود التي كنا نستخدمها في تلك الأيام هي:
1- الوقود:
الحطب الذي كنا نحصل عليه في الصيف من البساتين والغابات كقطع كبيرة نعمد إلى تقطيعها بالمناشير والفراعات ونتركها في زاوية من الدار لتجف وتصبح جاهزة بانتظار الشتاء. كما كنا نحصل على الأغصان الصغيرة المسماة حماية للوقود في التنور، إما مباشرة من الحرش أو شراء من بعض المكارية الذين يحملونه على الحمير والبغال ويسمى الحمل الواحد منه "البندك"، والفحم الذي كنا نحصل عليه إما بعمل مشحرة أو بالشراء ممن يتخذون ذلك مهنة لهم. وكان أشهر تجار الحطب والفحم هم أهل المهيري.
ثم الجلة وهي روث البقر إما بشكله الطبيعي نجمعه يابسا من الحقول والمراعي أو معجونا مع بعض التبن ومصنوعا على شكل أقراص ألصقت على الجدران لفترة ما من أجل تجفيفها. وكانت الجلة تستخدم في الوقود خارج المنزل كالمطابخ المكشوفة أمام بيوت الشل وذلك لكثافة الدخان الذي ينتج عن احتراقها وصعوبة التخلص منه داخل البيوت.
أما الوقود الوحيد الغريب الذي كنا نعرفه في تلك الأيام فهو زيت الكاز الذي كان يستخدم في الطبخ بالطباخ الخاص به، وكذلك في الإضاءة بواسطة "اللوكس" عند الأغنياء، والقنديل ذي البلورة من النمر (2و3و4) عند العامة. وكان هناك نوعان من البلورات: تشيكي جميل ورقيق وغالي الثمن، ووطني رخيص! وكانت أشكال الصنف الأخير غير منتظمة فكثيرا ما كان بطن البلورة الوطنية منفوخا بشكل مطعوج، وكانت أمي تشبهها بحمل امرأة فارس على أساس أن بطنها كلن يتضخم بشكل جانبي!
وفي مرحلة لاحقة وصل المازوت ووصلت معه المدافىء (خاصة تلك التي صنعت في يبرود ثم تبعتها الصوبيات الحلبية الجميلة) فكان ذلك كله جديدا في حياتنا.. ومثله كانت مرحلة جديدة أخرى مع وصول الغاز وأدوات الطبخ المعتمدة عليه، ويعتبر قفزة كبيرة في هذا المجال وصول أدوات الطبخ المصنوعة من الألومينيوم التي حلت محل الأدوات النحاسية التي كانت تحتاج لعملية تبييض سنوية. ومع هذا الانقلاب "الألومينيومي" اضطر أكثر من مبيض أو نحاس في المشتى إلى إغلاق محله أو الانتقال إلى حرفة أخرى وكان من أبرزهم آنذاك عيسى التامر وإيليا النحاس. بالإضافة لمبيضين غرباء جوالة كانوا يأتون إلى المشتى ويدورون على البيوت للقيام بهذه العملية بأجور زهيدة.
ولا شك بأنه قد اقتضى البشرية قرابة الثلاثمائة عام أو أكثر للانتقال من الطبخ على الحطب والجلة إلى استخدام "المايكروويف" و"الأوفن باغ" (أكياس الطبخ في الفرن) وغيرها من وسائل حديثة!! وهي فترة مررنا فيها خلال أقل من نصف قرن.
2-الدخان:
التدخين عادة قديمة كانت شائعة في المشتى كما في كل مكان. لكن الاعتماد في تلك الأيام كان بمعظمه وربما كله على الدخان المزروع في المنطقة. وكنا، كما غيرنا، نقوم بزراعته وقطفه أوراقا ثم شكها في خيطان وتعليقها في الهواء. وكانت زراعة الدخان خاضعة لشروط حكومية حيث يأتي رجال الدخان الذين كان يطلق عليهم اسم "الورديان" (وأول ورديان مشتاوي هو عزت جعفر العجي) ليقدروا المساحة التي حصل المواطن أو الفلاح على رخصة زراعتها ثم يأتون ثانية بعد نمو الشتلات لتقدير الكمية التي سينتجها وبعد ذلك كانوا يأتون لاستلام المحصول وفقا لما كانوا قدروه في الزيارة السابقة وبسعر محدد من الدولة. وكان ثمة عمليات تلاعب كثيرة كأن يقوم البعض برشوة الورديان لوضع تقديرات أقل أو قبول أنواع رديئة بدلا من الأنواع الجيدة المنتجة التي يحتفظون بها للاستخدام الخاص أو للبيع في السوق السوداء بأسعار أغلى من أسعار الحكومة.
أما أنواع علب الدخان المباعة في السوق فكانت: "الريجي" وهي الأرخص ثمنا. أما الأغلى التي كان يدخنها بعض الأغنياء فكانت "البافرا" وهي علبة كرتونية مسطحة تفتح من جوانبها الثلاثة. وبعد فترة دخل السوق نوع آخر هو "التطلي سرت" بنوعيه الغليظة والرفيعة. كما كان هناك الدخان الفلت المسمى "حموي". وفي أواخر الخمسينات جاءنا نوعان جديدان هما: "الستار" و"اللوكي سترايك" ذو الرائحة الفواحة. لكن الدخان الأكثر شيوعا كان الخصوصي للجيش الذي كان الجنود يحصلون عليه ويبيعون قسما منه بسعر زهيد جدا..ومع الستينات جاءت الأنواع الأخرى مثل "الإل إم" و"الكنت" و"الونستن" وأخيرا "المالبورو".
3- السكر والطحين: ففي فترة الحرب لم نكن نعرف غير السكر الأحمر، وكان حدثا جديدا وصول السكر الأبيض بعد عدة سنوات من نهاية الحرب العالمية، ومثله الطحين الذي كان يصل بأكياس خام بيضاء كانت الأمهات تغسلها وتفصل منها ثيابا داخلية.. يعني شنتيانات.
والأمر قبل وصول الطحين كان مقتصرا على الحبوب التي تنقل إلى طواحين الماء، وكانت هناك عدة طواحين منها: بقايا طاحون قديمة فوق غبيط أم حدو وطاحونة الدلبة، على بعد أمتار من دلبة الغبيط مكان البلدية حاليا، وطاحون يونس تحت بيت الدبس ما بين المشتى وبيت سركيس، وطاحون جسر المعمل، وطاحون نبع العروس، ثم طاحون البلاطة قرب الجسر تحت بيت زهرة وطاحون المنشار تحت غبيط القرمة، وكانت هناك طواحين اخرى أبعد من هذه.
أما الذي يدير الطاحون فكان يسمى جليس، وأذكر في هذا المجال رجلا أخرس اسمه سليمان كان جليسا في طاحون الدلبة، ثم جليس طاحونةنبع العروس، طنوس العبدوش – والد حنا ومخول والياس العبدوش- وقد عمر طويلا، يقال 115عاما. وكان يعيش على الحلاوة والنمورة والتمر، دون خوف من السكري أو غيره من الأمراض الحديثة. وأذكر، قبل وفاته بأيام قليلة، أنني كنت مارا مع أخي غسان في الطريق الضيق الفاصل بين مشتى التحتاني وحاكورة الحرش، فرأيناه في خربة تحت الطريق وهو منهمك بعمل مشحرة فحم بنشاط وقوة يحسده عليهما الشباب.
وكان من أبرز تجار الحبوب العم يوسف النجيب الحلو ويستوردها من حلب. وفي إحدى المرات جاءه مدير الناحية للتفتيش على الأسعار ووجد أنه يبيع بأغلى قليلا من التسعيرة وأراد أن يكتبه مخالفة. فتوجه العم يوسف إليه سائلا هل هذه التسعيرة لسورية كلها؟ وعندما رد المدير بالإيجاب، سأله: هل جاءت هذه الشوالات من حلب إلى المشتى سيرا على الأقدام.
المصدران الأساسيان للتشريع في الدين اليهودي: التوراة والتلمود
الهدايا الملكية في أوغاريت.. دراسة تحليلية للرقيم (3.1 ktu)
التركيبة السكانية لدمشق وغوطتها في العام 570 ميلادي
المشتى- حكايات قرية.. الفصل 6 والأخير
الزرادشتية.. هل تشبه ديانة تعرفها؟
وسط ندرة مياه الشرب.. حرارة الطقس تفاقم أزمات المواطنين في غزة
المشتى –حكايات قرية.. الفصل الرابع والخامس
حكايات القرية.. الفصل الثالث-2
غزة.. النفايات الصلبة والطبية في القطاع تخلف أوضاعاً مدمرة في صحة المواطنين
حكايات القرية
العباسيون والنصارى
فصل من مخطوطة ذكريات: المشتى في خمسينات القرن العشرين
في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
القبطان جاك سبارو (المسلم) الذي شوهت أفلام هوليوود شخصيته
مشكلة تدوين التاريخ العربي (والقصة الخرافية لبناء الجامع الأموي من قبل البيزنطيين مثالاً)