كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حكايات القرية

عدنان بدر حلو- فينكس

الفصل الثالث -1
الولدنة
في السنوات الأولى من عمر الولدنة، كانت حركتنا محصورة في نطاق جغرافي وعائلي ضيق، تماما مثل العصافير لدى مغادراتها الأولى لأعشاشها، إذ تكون حريصة على البقاء قريبة من العش ومن العصفورة الأم.
كان مجال ولدنتنا هو التلة والبيوت التي نزورها مع الوالدة (بيت خالي أيوب الذي يفصله عن بيتنا الشكاير، وبيت الياس الزخور وبيوت جدي ديب وخالي وديع وخالتي يمنى في الملزق...وكنا نذهب إليها عبر السهيلات و"الزودة "، أي الحرش المطل مباشرة على بيت العم جبرا الحلو الذي كنا نزوره أيضا عبر كرم بيت موسى).
كنا نلهو مع مجايلينا من أبناء وبنات هذه البيوت (سواء عندهم أو عندنا) وكانت الألعاب بسيطة يشارك فيها الصبيان والبنات.. ومنها:
- الدويحة: وهي عبارة عن مربعات مرسومة بعود صغير على الأرض أو بفحمة أو طبشورة على السطوح الإسمنتية، وشحفة (قطعة حجر مفلطحة) ندفعها برجل واحدة (حلج).
- وكذلك "الجكز" وهو خمس حصوات مدعبلة، نرميها من قلب الكفين إلى قفاهما بشيء من الخفة حتى لا تقع على الأرض، ثم نفردها ونحاول التقاطها (حصوة حصوة ثم حصوتين حصوتين ثم ثلاثا فأربعا) في اللحظة نفسها التي نرمي فيها الخامسة إلى الأعلى ونتلقاها دون أن تقع على الأرض.
- كما كنا نلعب "المستخباية " أو الغميضة المعروفة، وأحيانا "السمركة" في السهيلات وهي غميضة أكثر تعقيدا. وكنا نحني أيدينا من بقع فطرية في صخرة السهيلات تسمى حنة قريش.
- ولا أنسى أننا كنا نخيط طابات شراطيط من بقايا القماش نحشوها في فردة جوارب عتيقة، في حين كانت البنات تخيطن عرائس "عيبات" من عيدان وبقايا قماش... وكنا في بعض الأحيان نحاول تقليد أمهاتنا في شغل الصوف.
ومع أننا كنا نلعب صبيانا وبنات معا، كنا نسمع من أمهاتنا أن من يلعب مع البنات تصبح ذقنه عوجا مثل خازم عركوش.. وكانت هذه بدايات الفصل بين الجنسين في اللعب والمرافقة.
أما السرقات في هذا العمر فكنت محدودة: بعض الحصرم أو العنب المجيز من أدروخ ستي زكية الذي كان متسلقا على شجرة زنزلخت في غرب دار التلة وممتدا أيضا فوق مسطبة مرتفعة إلى جانب الشجرة. وكان من نوع بيض الحمام الذي ينضج مبكرا.. وكذلك بعض الفجيج المبكر من تينة الكسارة السماقية (وكنا ندهنه زيتا لينضج قبل أوانه)، وأحيانا بعض العنب المشرقي من دوارة في أعلى كرم بيت جبرا الحلو، وبعض سنابل القمح الفريك من الشكاير... ولم نكن نجرؤ في هذه المرحلة على التقدم نحو شجرات اللوز القريبة من دار العم جبرا، فقد كان عندهم ناطور قاس اسمه كليم ومعه كلب شرس اسمه شيرو، وكان عندهم في البيت أسلحة متنوعة، كنا نتفرج عليها سرا مع ابنهم إبراهيم.
وكانت السهيلات الواسعة والمكسوة بالعشب الأخضر ما بين التلة والحرش، هي الملعب الأوسع لعالم الولدنة هذا، حيث كنا نلتقي فيها مع الكثير من مجايلينا من أولاد الملزق وكذلك من هم أكبر منا من الصبيان والبنات. كانت الطبيعة نظيفة إلى درجة أن والدتي (المهووسة بالنظافة) كانت تأخذنا في أيام الربيع المشمسة مع جاط التبولة إلى السهيلات حيث نقطف أوراق الحميضة من تحت شعوب السنديان ونأكل بها التبولة.
رغم البرد القارس وضعف استعداداتنا للشتاء، سواء من حيث اللباس أو الأحذية، كنا نفرح كثيرا بالثلج (يبدو أن المناخات قد تغيرت، إذ كان الثلج يهطل في المشتى عدة مرات في السنة) وكان يبدأ في تشرين الثاني وأحيانا الأول... فنقول: تشرين بيض ذقنه. كما كنا نقول: أول تلجة سم، وتاني تلجة دم، وتالت تلجة كول ولا تهتم.. وكنا نأكل الثلج كما هو أو مع دبس العنب.
وعندما تتساقط الثلوج أو تهطل الأمطار الغزيرة لعدة أيام متواصلة، كان العطشان ينبع بشيء من الانفجار ويهدر – كنهر هائج- باتجاه بيت سركيس حيث يلتقي مع نهر المشتى عند نبع الخوري. وكنا نسمع هديره حتى بيتنا في التلة أي في الطرف الآخر من الضيعة. كما كانت تنفجر معه ينابيع صغيرة كثيرة (نبوعأت)، منها واحدة في القشعات وأخرى في برطاش بيتنا الفوقاني (اكتشفنا فيما بعد أنها كانت تصب في البئر الكبير المحفور في الصخر بدار التلة فتضاف مياهها إلى ماء المطر المتجمع من السقف القرميدي). كما كانت تمتلئ جور كثيرة في الصخور نسميها قلودا ويبقى بعضها ممتلئا لأسابيع بمياه نظيفة وصالحة للشرب.
كانت عصافير الدوري والبرقيطي تصل أيام الثلج إلى باب العتبة وأحيانا إلى داخل البيت بحثا عن الطعام. وكانت تظهر في الحرش أعداد كبيرة من السمن والشحرور ودجاج الحرش ويسهل صيدها في مثل تلك الظروف.
وعلى سيرة الطعام، كانت بداية الربيع موعدا مهما لتسليق الهندبة والقرصعنة والحرتمنة والزقزقاق والكرات وغيرها من نباتات الأرض ثم تنظف وتطبخ مع البرغل، وعند التبذير مع اللوبة البلدية.
بالطبع لم يكن هناك لا طاولة سفرة ولا صحون وشوك وسكاكين وغيرها من لوازم المائدة.. كانت الأم تسكب الطنجرة (وعلى الغالب مجدرة) في جاط كبير تضعه وسط طبق من القش على الأرض فنتحلق حوله وفي يد كل واحد منا خاشوقة، وهذا ينهر ذاك: لا تغرف! أي لا تكبر اللقمة. والآخر ينبش (في حال طبيخ اللحم) بحثا عن فرمة يجرها بحذاقة إلى جهته.. وويل لمن يأكل اللقمة بدون خبز أو بخبزة صغيرة، فهذه جريمة كبيرة!
وإلى جانب الجاط، على حرف الطبق، هناك البصل. إما الأخضر مما كنا نزرعه في الخرب، وإما اليابس، نمعسه بدون سكين ونتقاتل على من يأكل القلب. وللعلم كانت الوجبة الأساسية هي العشاء، إذ يحضر الجميع وتكون الوالدة قد أنهت طوال النهار ما عليها من أعمال منزلية أخرى فتقوم بالطبخ عصرا. وبعد العشاء كان واحدنا ينقلب على"القياس" وينام منهكا بعد نشاط النهار كله، ليفاجأ بعد وقت قصير بالوالدة تحضر طشتا من الماء وتسحب رجليه وهو نائم وتبدأ الغسيل بالصابون والماء البارد! وخذ على بكاء وعرير!
لكنه أمر لا مفر منه بالنسبة لأم غسان. فالنوم بدون غسيل خط أحمر لا يمكن تجاوزه. ومن المستحيل ان تسمح لأحد بالاقتراب من الفرشة دون غسيل، فقد كانت، كما أسلفنا، مهووسة بالنظافة إلى درجة تحولت في آخر عمرها لمرض حقيقي... وفي هذا المجال أذكر أنني عندما خرجت من السجن عام 1960 ووصلت إلى البيت في حلب والقمل يأكل ثيابي وجسدي، طلبت منها أن تحمي لي الحمام.. فقالت: نشكر الله ريحتني يا ابني.. كنت نادرة إنك إذا طلعت من الحبس خليك تنام بالتخت بلا غسيل! (وهذا بالتأكيد أكبر ندر يمكن أن تندره، لأنه أكبر تضحية ممكنة).. لكنني منذ دخولك البيت وأنا في معركة مع نفسي بين الاستمرار في الندر وبين عدم قدرتي على تصورك في الفرشة بكل هذا النشح!
كما أذكر أنني أخذتها، عندما زارتنا في باريس، معي في السيارة إلى داخل مغسلة سيارات أتوماتيكية، فراحت تتمتع بمنظر الصابون تمطره المغسلة على السيارة من جميع الجهات، وهي في داخلها، ثم تهدر المياه وبعدها الهواء الساخن للتجفيف، حتى إذا انتهينا وخرجنا قالت لي: هذا أحلى ما رأت عيني في كل حياتي.. لا برج إيفل ولا الشانزليزيه ولا مين جاب خبارن.. شو جاب للجاب!!
وفي قصة مماثلة، عندما كنت ساكنا أنا ووليم في بيروت وصلنا خبر بأن مرشد ورويدة ومهجة سيصلون إلى عندنا في اليوم التالي.. فقررنا، بسبب معرفتنا أن مهجة مهووسة بالنظافة مثل أمي، أن ننظف البيت بشكل جيد. رفعنا كل شيء عن الأرض وأحضرنا نربيج وهات يا شطف وتمسيح كل الليل. ثم نمنا مرتاحين لنظافة البيت. وفي الصباح وصلوا فنظرت مهجة إلى البيت بقرف وقالت: يا ويلي كيف متحملين العيشة بكل هالنشح؟
بعد هذه السنوات الأولى من عمر الولدنة، بدأ ترددنا على الساحة والرويسة يزداد، وبدأت تكتمل صورة جيلنا من أولاد العائلة.. الذي كان أكثره من الصبيان (لم ي يكن هناك بنات من عمرنا غير مديحة الأيوب وزكية بنت مخاييل المرشد).. كان الفارق في العمر بين كبارنا (مرشد وسليم وتامر) وبين صغارنا (الياس الحنا ونسيم اليان والياس المخاييل ووليم وعدنان اليوسف وعبد الله الزخور) حوالي الثلاث سنوات.. أما في الوسط فكنا (الياس العفيف وجهاد ومفيد وابراهيم الجبرا ومخاييل ونسيم الجبرا وأنا)..
كنا نمضي أوقات الفراغ (من شو؟) واللعب معا بصورة شبه دائمة... وليس بالضرورة أن يكون الجميع حاضرين في كل النشاطات، فقد كانت هناك العاب وزعرنات تنفرد بها مجموعة صغيرة من هذا الجيل، وقد يتغير أعضاؤها من نشاط لآخر.. إنما دائما من الجيل نفسه.. ففي الذهاب إلى غبيط القرمة للسباحة (وهو أكبر حشد لنشاط واحد) كان البعض يحصل أحيانا على موافقة أهله فيذهب وإلا فلا.. بينما كان هناك من يذهب بدون سؤال الأهل، وكنت أنا من الفئة الثانية، أولا بسبب بعد البيت واستصعاب الصعود إلى التلة من أجل طلب الإذن.. وثانيا لأنني كنت دائما أتوقع قتلة من والدي في المساء، فلن يزيدها أو ينقصها الذهاب إلى الغبيط بدون إذن.
(لا أذكر من قال لنا في تلك الأيام: الأهل متل ما بتعودن بيتعودوا!)
آه.. على غبيط القرمة! أهم ملعب من ملاعب صبانا، كان ملتقى الشباب من المشتى وكل القرى المجاورة (وقد صرنا نذهب إليه بعد أن تعلمنا السباحة في غبيط أم حدو).. كنا نقيم في أسفل غبيط القرمة سدا من الحجارة والطحالب والرمال لترتفع المياه وتزداد عمقا وأذكر في هذا المجال الأستاذ جرجس جرجس (أبو جهاد) إذ كان يشرف على هذه العملية التي تسمى حقن الغبيط فيأمرنا نحن الصغار بحمل المواد من الجوار وينادي علينا: الرمل ياخال الرمل ياخال.. وصرنا نسميه مذاك الرمل يا خال.
كنا نغادر عائدين عصرا فنصعد من بيت مهنا (أو بيت عواد) إلى تلة الزعتر والجوع ينهش أمعاءنا نهشا ونحن نحاول تهدئته بحب الديس وبعض ما يتيسر للسرقة من تينات مار الياس في حرشة بيت زهره.. وكنا نعرف كل أشجار البساتين وأنواعها ونحفظ مواعيد نضوج ثمارها. لكن أطيب وليمة بعد السباحة هي الخبز والشنكليش التي كنا نتزود بها في بعض الأحيان أو "المناسبات".
الغبيط الثاني في الأهمية بعد غبيط القرمة كان غبيط أم حدو الذي يقع مباشرة فوق مقهى رأس النبع الحالي، وهو غبيط صغير المساحة لكنه كان يستوعب عددا كبيرا من أبناء المشتى لاسيما طلاب المدرسة الابتدائية القريبة منه، حيث كنا نستغل الأيام الدافئة من نسيان وأيار للهرب من المدرسة إلى الغبيط.. وهناك تعلمنا (كما جميع أولاد المشتى) السباحة، ما أهلنا للانتقال إلى مستوى السباحة في غبيط القرمة. علما أن غبيط أم حدو كان يجف مع بدء الصيف وشروع الناس في تحويل مياهه القادمة من عيون الوادي لسقاية الأراضي.
ونذكر أيضا الغبيط الحالي (رأس النبع) الذي كان بركة واسعة تقريبا لكنه بارد المياه لوجود النبع فيه وغير مشمس وقريب جدا من الطاحون (محل البلدية حاليا) ومن السوق، ولذلك لم يكن جاذبا للسباحة. غير أنه مرتبط في الذاكرة بأمرين: الأول هو أن العم جبرا الحلو كان يقوم يوميا على مدار السنة باستثناء أيام الطوفة بالاستحمام فيه ليلا. والثاني أنه كان شائعا في المشتى آنذاك الكثير من قصص الجن وأن ملوك الجان كانوا يقيمون أعراسهم ليلا في ذلك الغبيط، وربما كنت تجد من يقسم بأغلظ الأيمان أنه رأى أو سمع ممن رأى أحد تلك الأعراس بكل ما فيها من طقوس ورقص وغناء وفرح وغير ذلك.
الغبيط المشتاوي الآخر الذي كانت له شهرة كبيرة قبل أن تبنى عليه قهوة حديثة وتقتطع منه مساحة لا بأس، بها هو غبيط "البغلة" الذي أقيمت عليه قهوة الخوري، فتوقفت السباحة فيه بعد أن تحول إلى بركة تابعة للمقهى الحديث الذي شارك بدور فعال في النهضة السياحية الحديثة للمشتى وظل لفترة طويلة من أهم معالمها.
كما كان نبع العروس القديم الذي ينفجر من الصخور العالية على بعد مائتي متر إلى الشمال من نبع العروس الحالي، يشكل بركة صالحة للسباحة رغم ضيق مساحتها وبرودة مياهها ووجود شحف جارحة (رقائق حجرية حادة جدا) في أرضها.
كما أن السكر الكبير تحت جسر بيت زهرة كان يشكل مسطحا مائيا واسعا نقوم أحيانا بالسباحة فيه رغم قلة عمق مياهه.
أذكر أيضا أن ثمة غبيطا شتويا في نهر المهيري بين صخور الوادي القادم من الجويخات. عرف لاحقا باسم غبيط جبرا. وذلك لأن المرحوم جبرا بن عيسى الجروج عاد من العسكرية (ربما بعد حادث ما هناك) مصابا بنوع من الكآبة وصلت به إلى درجة الإقدام على الانتحار. وكان ذلك في ليلة شتوية. أذكر أن عشرات وربما مئات من رجال المشتى وشبابها مروا علينا في "التلة" وهم يحملون اللوكسات والفوانيس يبحثون عن المختفي جبرا. وراحوا يبحثون في أدغال الحرش وبين صخوره حتى وصلوا إلى المكان المذكور فوجدوا ثيابه على الصخرة المجاورة للغبيط ثم وجدوا جثته غارقة تحت الماء. وهنا تقدم جرجس البوسمرة وغاص في ذلك النهر الشتائي وأخرج الجثة. وقد عم المشتى حزن كبير على الفقيد.
وحتى لا أنهي هذه الذكريات بهذا الحادث المحزن أذكر أننا كنا نتبارى بالقفز من الدلبة المطلة على غبيط القرمة إلى الماء وفيما كنت ذات مرة على وشك القفز فوجئت بظهور والدي فجأة ورآني متعلقا بجذع الدلبة، فناداني وانهال عليّ بقضيب رمان كان في يده. ولقضبان الرمان في ذاكرتنا حيز كبير جدا فقد كانت وسيلة التهذيب الشائعة بين أيدي معلمينا في المدرسة. ومن منا لا يذكر فلقا أو أكثر.. كأنهم كانوا يدربوننا على فلق أكبر سنتذوقه لاحقا في السجون لأسباب سياسية.
في أيام الصيف والعطل المدرسية كنت أغادر البيت منذ الصباح، ونادرا ما أعود قبل المساء... وفي أحيان كثيرة كانت هذه العودة تتم بعد سماع صوت أمي تناديني من عند الجوزة تحت التلة، أو بعد وصول أحد أخوتي مبعوثا من والدي ببعض التهديد والوعيد... كان أصعب شيء عليّ هو حلول المساء والشعور بأن اليوم قد انتهى ووقت اللعب قد نفد.. وكان التلكؤ على طريق البيت، ولو لأتفه الأسباب، من الأمور المحببة. وكثيرا ما كنت أهرب من البيت بعد قتلة وأختفي على شجرة توت وراء دكان خالي أيوب حتى ساعة متأخرة من الليل مستمتعا بشعوري أنهم قلقون عليّ، لا سيما بعد أن يكونوا قد فتشوا عني كل مكان وسألوا جميع رفاقي دون طائل (كان الوحيد الذي يعرف مكاني ويزودني بأخبار البحث عني هو جهاد ابن عمتي عفيفة).
كنت أحسد أولاد الرويسة كثيرا لأن بيوتهم قريبة.. وخاصة مرشد ومفيد ووليم الذين انتقل بيتهم من الدار البراني (وراء بيت عمتي عفيفة) إلى بوز الساحة.. وكان يسكن في قاعة أمامها شجرة تفاح بجانب بيتهم القديم جدهم (لوالدتهم) نوفل والد أسيد وفهيد وفهيدة ومارجي وشقيق مطانيوس النعمة. وكان سمكريا ماهرا لاسيما في صنع السكاكين.. وكان يصنع لنا منها بنصاب من قرن الماعز مقابل الفليفلة الحارة التي كان يحبها كثيرا فنسرقها له من الزرايع. (كما كان أيضا نحاتا بارعا فهو الذي صنع كل الزخرفة الخشبية الرائعة الموجودة في كنيسة السيدة وما تزال شاهدة على براعة هذا الفنان الذي لم يكن بين يديه سوى أدوات بسيطة).
وكنت أعوض هذا النقص (بعد البيت) في كثير من الأحيان بالتعامل مع بيت عمتي عفيفة كبيتنا، فإذا جاء صندوق الفرجة (وكنا ندفع له بيضة أو رغيف خبز أو قرص شنكليش) كنت أهرع لعند العمة أم جرجي فأفتح النملية، سواء كانت حاضرة أم غائبة، وآخذ ما أجده من أجل الفرجة.
وبيت عمتي عفيفة من البيوت التي بقيت إلى وقت متأخر تربي دود القز، وكنا نجدها فرصة لنرافق أولادها في شفط ورق التوت من كسارة التلة وقشموط وحتى بيت زهرة. كما كنا نساعد في قطف القز عن الشيح الذي يبني الدود بيوته (الشرانق) فوق عيدانه، وكانت تعطينا في نهاية اليوم بعض الشرانق نشتري بها حلاوة أو نمورة من عند أيوب النسيم. كما كنا ننام مع أولاد عمتي فوق سطح بيت العقيد خليل عندما يسلقون القمح للبرغل ويتركونه ليجف فوق ذلك السطح لمدة يومين أو أكثر.
كانت، رحمها الله، تعتبرني أنا وغسان مثل أولادها تماما.. والأمر نفسه مع والدي ومع شقيقها جدي مطانيوس. كانت متعصبة دائما للتلة.. ومن الصعب أن تعد أو تحصى الأيام التي كنا نأكل فيها مع أولادها أو ننام بينهم في الفرشات الممدودة على الأرض بجانب بعضها البعض فلا تعرف رأس من من رجل من!
وقد حملت هذه العلاقة الخاصة لاحقا إلى دمشق التي قضيت فيها عام 1959 - 1960من أجمل سنوات حياتي، وكان بيت عمتي عفيفة ودكانهم المضافة والمقهى والملهى والفندق لي ولرفاق تلك الفترة القصيرة المحفورة ذكراهم في القلب وأولهم جرجي القسطو وجوزيف الحلو ومفيد البشور، وينضم لنا آخرون كيوسف الفارس وخليل الشحود ومروان الأيوب وفريد بيطار إبن خالي الذي شاركني السكن فترة في القبو الذي كنت أستأجره وأطلقنا عليه اسم "نادي الهفو ".. وكذلك من يأتي إلى دمشق لتقديم امتحان الجامعة أو غيره ، مثل مرشد الذي كان يشتري كيلو مشمش وحنجور دواء(إنتروفيوفورم)، فيأكل من الأول ويسف من الثاني لوقف الإسهال والزحرة (الزنطارية). وربما نعود للحديث عن فترة الشام هذه في فصول قادمة.
**************
كانت ألعابنا متنوعة. لكن أغرب ما فيها أنها كانت تحصل كمواسم (وهي مواسم لا نعرف لها ضابطا أو روزنامة!) ... فجأة تجد كل أولاد المشتى ومن جميع الحارات يلعبون"الكلل" (بالمناسبة كان أمهرنا بلعب الكلل وليم.. ولذلك تجد الأخرس يستعمل إشارة لعب الكلل بأصابعه للدلالة على بيت جبرا المرشد.. كما كان يحك بيضاته للإشارة لبيت بدري)! ثم ودون سابق إنذار تلقى الجميع انتقلوا معا إلى لعب الحيح أو النبوت.. أو تراهم فجأة وقد بحث كل واحد منهم عن حزام برميل وصنع له مسكة من شريط حديدي وراح يدفعه أمامه بسرعة محدثا صريرا شديد القوة والإزعاج، لا سيما عندما يلعب الأولاد هذه اللعبة كزرافات ويصعدون أو ينزلون في السوق مثيرين غضب وشتائم الدكنجية، وأولهم الخال أيوب الجرجس الذي كان سريع الغضب بشكل فظيع.
وفي أواخر الصيف كان لعب الكلل يتحول لكسب عجو المشمش الذي كنا نجمعه طوال الصيف ثم نبيعه للدكنجية الذين يبيعونه بدورهم في حمص! وكانت هناك أشياء أخرى نجمعها بهدف البيع، أهمها العفص الذي ينمو مع الدوام في أشجار البلوط لصناعة الحبر، وقشور الرمان للصباغة.. وكذلك بقايا علب التنك والزجاج المكسر، وكان يأتي مشترون لكل هذه الأشياء من خارج المشتى.
ثمة عمل آخر له مردود كنا نمارسه في بعض الأحيان عندما تكون هناك ورشة عمار، فكنا نقوم بتكسير الحجارة إلى بحص صغير لخلطه مع الإسمنت. كانوا يدفعون لنا عشرة قوش على كل تنكة بحص. وكنا نجده مبلغا كبيرا نصرفه فرحين بشراء الحلويات.
كان كل واحد منا يحمل في رقبته نقيفة. وباستثناء إبراهيم الزخور كان من النادر ان يصيد أحدنا أي عصفور بتلك النقيفة التي كانت دائما سلاحا للأذى (كسر شباك بلور، أو قتل شلوف، أو فدغ عابر سبيل أو نبر جوزة أو عفص أو عنقود عنب أو رمانة وهكذا).. المهم أنها كانت سلاحا جاهزا على الدوام. وكنا نتفنن في صنع الكزالك (اختيارها في الحرش وقطعها وجمعها ونجارتها وشلوطتها).
ومن الألعاب الموسمية " النبوت"، وهو عبارة عن جورة تملأ وحلا بدرجة معينة من اللزوجة، يحاول كل واحد أن يضرب نبوته في تلك الملعبينة بشكل ينغرز فيها بقوة ويرمي في طريقه نبوت لاعب آخر فيكسبه.. والنبابيت أنواع: منها " الضبة" وهي غليظة وقصيرة وفاعلة جدا في رمي نبابيت الآخرين لكن نقطة ضعفها تكمن في غلظها الذي لا يساعد دائما على انغرازها جيدا، وبعدها يأتي النبوت العادي وهو عود مستقيم متوسط الطول والسماكة ومبري الرأس، وما كان منه غير مستقيم يسمى " بو عكيل ". ثم تأتي"السكسلة" وهي نبوت طويل ورفيع، يخسرها اللاعب المبتديء بسهولة، لكن اللاعب الحذق يستطيع أن يناور بها جيدا ويكسب أكثر من غيره.
ومع أن النبوت كقيمة لا يساوي شيئا، فالأرض مليئة بالعيدان، كنا نعتبر الخسارة أو الربح قضية هامة جدا.. ومن أشهر النبابيت "ضبة" ليوسف الفارس كان يخاف عليها كثيرا، فعندما يرى أنها لم تنغرز جيدا (ويقال مشرشة) أي مهددة بالرمي من قبل اللاعبين الآخرين، كان يزعم انه يسمع صوت أمه تناديه، ويبدأ بالصياح: ليكني جايي.. حاجي تعيطي.. ويخلع ضبته من الوحل ويهرول باتجاه البيت منقذا إياها من الخسارة.
ومن الألعاب الأخرى الشهيرة " العصا والحيح" وهي عبارة عن عصا متوسطة وعود بطول الشبر تقريبا يوضع فوق حجر صغير ناتئ من الأرض (نسميه البيش) يضرب ضربة أولى ترفعه عن الأرض قليلا لتقذف به ضربة ثانية إلى أبعد مسافة ممكنة.. حيث يكون هناك فريق آخر يدافع بحمل أغصانا تسمى "جلايات" يحاول أن يتلقى بها الحيح ليعيد رميه إلى أقرب مسافة من البيش.. فإذا كانت هذه المسافة أقل من ضعف طول العصا يربح الفريق المدافع وتنعكس الآية فيتحول الأولون إلى مدافعين.. وعند قياس المسافة بالعصا ووجودها أطول من عصاتين يقال للتشفي بالفريق الخاسر: عصاتين والباقي بطيز اللمام!
وأفضل الأمكنة لهذه اللعبة كانت الساحة حيث يلعب الفريق الأول من أمام بيت سليمان العدلة (الأولد هاوس حاليا) فيما يجلّي الفريق الثاني في طرف الساحة الغربي. وأذكر مرة أننا كنا نلعب هناك وحصلت مشاجرة بيني وبين مخاييل اليوسف فانضم إليه اخوه عدنان والياس العفيف (عصبية الدار الجواني)، ما جعلني أداري الخوف بأن عاجلته بضربة عصا على جبهته ووليت الأدبار صعودا باتجاه التلة، وما أن وصلت فوق بيت زخور حتى رأيت الأولاد يحملونه على الصيوان فتملكني خوف شديد ولم أعرف كيف نمت تلك الليلة (إذا نمت!) ثم ذهبت في الصباح إلى المدرسة وأنا أتلطى وراء الحيطان، فرأيت مخاييل في باحة المدرسة وجبهته متورمة... وما أن قرع الجرس حتى ناداني المدير ناجي بشور إلى غرفة الصف الخامس وطلب من أحد التلاميذ أن ينزل إلى رمانات جبرا الحلو تحت سوق الدلبة ليأتيه بعشرة قضبان رمان. وعندما حضرت القضبان كسرها كلها على قدمي إكراما للمعلمة رشا مديرة مدرسة البنات... وكان ذلك الفلق الأول (وليس الأخير) في حياتي!!
كان لنا بالنسبة للتجمع واللعب مواقع كثيرة، من أهمها قبل التوجه إلى" غبيط القرمة " صخرة نجلس عليها تحت تينة بيت الياس الزخور على أول الكروسة (الطريق الغربي) مباشرة بعد عيادة الدكتور فايز (تم قطع التينة لاحقا وبناء بيت أنيس الحلو أبو عصام مكانها).. وكان هذا الموقع الظليل المفتوح على وادي قشموط ينعش النفوس بما يهب عليه من نسمات لطيفة حتى في أشد ايام الصيف حرارة.
ومن ملاعبنا الأساسية الأخرى تينة بعر الجمل ذات الشماميط السوداء الصغيرة واللذيذة، في جنينة متري فوق الدقارات مباشرة، وكنا نمضي ساعات ونحن راكبون على أغصانها: هذا يغني ما يعن على باله، وذاك يصيح بالمقلوب، والجميع يخططون للغزو على هذا البستان أو ذاك، وعلى دجاجات فلانة أو علتانة.. وفي منطقة الدقارات كانت لنا نشاطات أخرى كقطف ترابين البطم اللذيذة والتي تتضاعف لذتها بشرب الماء بعدها فتجد طعمه حلوا كالسكر، ونبر العرموط من تحت الدقارات أو الزعرور من حيارة بيت نقولا التي كانت تحت إشراف العمة زاهية ... ومثل ذلك كانت القعدة تحت الجوزة الملاصقة لجنينة عزيز، أو بمحاذاتها في شميسة حير بيت فارس التي كانت ملجأنا الدائم في أيام الهوا الشرقي الباردة والمشمسة معا.. وهناك شميسة أخرى في مدخل الصيوان حيث نتكئ على جدار بيت القز (محل عمارة حليم) وكان غسان من أكثر من"سندوا" ذلك الحائط في فترة المراهقة عندما كان يقال إنه يحب نجلا الجبرا.. وكانت أمي (عندما سكنا في بيت لبس القريب من ذلك الحائط) تقول له: بدي أعرف شو بدو يجيك من سند هالحيط؟!
وكان ثمة موقع شديد الأهمية يسمى ورا سطوح القاعات (أي الطريق الملتف من وراء بيت مرشد، ومن وراء الدارين البراني والجواني ثم نزولا إلى بيت راغب –شارع الفارس حاليا)... حيث كنا نذهب إلى هناك " للخرا الجماعي". فنقرفص الواحد بجانب الآخر مع إبقاء مسافة تتسع لأن يمد الاثنان يديهما فلا تتلامس الأصابع ... ونعملها!!
ويقال إن نديم الحمصي (أبو لويس) الذي كان عنده دكان في السوق قبل أن ينتقل إلى بانياس للعمل في شركة نفط العراق، كان يطلق على ذلك الدرب اسم شارع الأرز، بسبب النتائج المخروطية لآثار زياراتنا الجماعية!!
وطالما فاحت الروائح، لا يمكن أن ننسى واحدة من أسوأ زعرنات تلك الأيام وهي الخرا في الليل على أبواب الدكاكين!! وفي إحدى المرات كان مروان الأيوب قادما من بيتهم صباحا، فلما وصل إلى الساحة تعرض له أولاد ابراهيم البوسمرة (أنيس وعيسى والأخرس سميح) وصاروا يعاتبونه ويتهمونه بأنه هو الذي عملها على باب دكانهم في تلك الليلة... وفي تلك اللحظة وصل والدهم، فسارع مروان إلى القول: نشكر الله وصل العم ابراهيم هوي بيعرف خريتي!! فجن جنون ابراهيم البوسمرة ولحق به وهو يشتمه ويصيح: يا إبن الكلب شو خريتك صبحه؟ واللا أنا معلمها بخيط أحمر؟؟
ويحكى في الموضوع نفسه، أن العم يوسف سمع من أحدهم نصيحة بأن شربة البنزين ممتازة جدا ضد الدود، فشرب كمية منه ونزل في الليل لقضاء الحاجة في الحيارة على العتم.. وعندما انتهى أشعل عود كبريت للتأكد من النتائج.. فولع البنزين وكادت النار تمتد إلى الشروال لولا أنه هرول بسرعة للنجاة من الورطة.
بالطبع كان صيوان الدار ملتقى مهما، وبالذات الصخرتان الكبيرتان المستند عليهما جدار بيت خضور، بيت الخوري حاليا (وعلى ذكر بيت خضور، مرة سألنا عيسى المخاييل، والد ميشيل وجرجس: هلق تامر بيروح معكن عغبيط القرمة؟ اجبناه: نعم – أعتقد أنني كنت أنا ومرشد. فسأل أيضا: وبتشلحوا تيابكن كلكن سوا؟ قلنا له: نعم. ليش هسؤال؟ فقال: ما بتشوفولو دنب..هود بت خضور عندن دناب).
وكانت لقاءات الصيوان أهم عندما كانت المياه ما تزال جارية. حيث كنا نسبح في البركة الكبيرة التي توزع مياه السقي منها على أيام الأسبوع بالنسبة للأراضي الواقعة تحتها، من حاكورة بورية تحت عيادة الدكتور فايز إلى حيارة بيت سلهب، مرورا بقشموط عفيف وقشموط جبرا العيسى وبعض حاكورة الحرش ودوارة بيت نجيب وجنينة متري ... دون أن ننسى حيارة ماري الشكري وما فيها من عنب خومي وتوت شامي، وكذلك تينة جبرا النجيب السلطانية.
ويذكر أن مطانيوس النعمة كان يسقي حاكورة بورية ليلا (لأن السقاية في الليل أبرك لعدم تبخر المياه) فإذا بالعمة زاهية آتية من الحيارة التحتانية بثيابها السوداء، تدب على الأرض محدثة قرقعة بحجرين في يديها لتوحي للعم مطانيوس أنها ضبعة فيخاف ويترك السقاية لتأخذ الماء إلى حيارتها في دوره هو. وتضيف الحكاية ان العم مطانيوس (وكان يخاف كثيرا) قد ترك المنكوشة في الأرض وهو يقول: إن كنت ضبعة أو ما كنت ضبعة، أنا تارك المي ورايح عبيتنا.. ثم يهرول باتجاه البيت.
بالمناسبة كان العم مطانيوس شخصية طيبة جدا وطريفة جدا في الوقت نفسه. صحيح أنه كان مغتربا في الولايات المتحدة، قبل أن يعود ويتزوج صليبا (خالة الدكتورعيد). لكنه كان فقير الحال بصورة دائمة. وكان كريما بصورة نادرة أيضا. كان يعيش في بيته الصغير المتواضع أول النزلة من الساحة إلى سوق الدلبة، مع زوجته وولديه الياس وأليس. كانوا يزرعون حاكورة بورية بالدرة لهم وللبقرة، في حين كان العم مطانيوس يبيع ما تيسر من الخضار والفواكه فوق طبق من القش تحت الدرج الموصل إلى سطوح الدكاكين المقابلة لبيت العقيد، وكان في العادة يبيع صنفا واحدا فقط، فإما التين وإما العنب أو عرانيس الدرة المسلوقة أو غيرها.
كان يقع إلى جانب ذلك الدرج دكان نجارة للعم أسيد النوفل (خال مرشد وإبن شقيق العم مطانيوس). وكان أسيد – رغم بطئه في العمل – عبقريا حقيقيا.. كان شغوفا بالحساب والرياضيات، وكان ينتظر عودتنا من المدرسة ليطرح علينا مسائل حسابية من تأليفه ويقدم مكافأة مالية لمن يحلها أولا (ما بين العشرة قروش والربع ليرة).
ومن بين مخترعاته بارودة تعمل بضغط الهواء لها ثلاثة سبطانات تستخدم إحداها لحشو الخردق والأخريان كمنفاخ لضغط الهواء. ويذكر أن رجا القبلان جاءه مرة ليستعير تلك البارودة (وكان أسيد يحن عليه كثيرا!). لكن العم أسيد كان مشغولا بتصليح موتور المنشرة.. فصرف رجا لأنه مشغول.. لكن الأخير ظل واقفا في باب الدكان. وبعد عدة دقائق انفجر الموتور ألف شقفة وكاد يودي بأسيد ومن كان يساعده، فاقترب رجا منه وقال له: عمي أسيد وهلق بعدك مشغول؟
ولكم تقدير رد فعل العم أسيد الذي كان فيه عقل وطار، وكان من ملوك مسبة الدين!
كان أسيد يساعد عمه مطانيوس من وقت لآخر، لاسيما في الحصول على الدخان الجيد من زبائنه.. ومرة أحضر له تبغا ممتازا من إحدى القرى العلوية. ومر طنسي الحنا من عنده فدعاه للجلوس وقدم له علبة الدخان لكي يلف سيجارة ويتذوق ذلك الدخان الطيب.. فقال له طنسي: بلاها بعدني عالريق. وكان العم مطانيوس يبيع عنبا من نوع عنب آس (وهو نوع ممتاز وغالي الثمن كان يأتي إلى المشتى في التشارين من منطقة وادي العيون) فقام وغسل عنقودا كبيرا وقدمه لطنسي الحنا (بالتأكيد كان ثمنه يساوي كل ما كان سيربحه العم مطانيوس في ذلك اليوم). وبعد أن أكله، قال له: وهلق بعدك عالريق..؟ خود لفلك سيجارة..
كان العم مطانيوس يحب العرق كثيرا (غريبة آه) ويشربه بطريقة خاصة جدا.. ربما تعودها من أمريكا، إذ كان يملأ الكأس ويجرعه دفعة واحدة... كان يصعد إلى دكان أبو كليم أو دكان طنسي المجاور له في رأس السوق ويشتري كباية يشربها بسرعة ثم يعود إلى "حانوته". وفي إحدى المرات كان هناك زبون آخر قدم له أبو الياس الكباية وقال: تفضل. فرد الآخر: لا بعدك.. فقال له العم مطانيوس: خليك لبعدي..إيه والله الدبانة مافيها تشرب بعدي.
ومرة أخرى كان عائدا من نزهته اليومية عند أبو كليم وقد شرب كبايته وزهزه، فإذا بالورديان (شرطة المالية) يفتشون الدكاكين بحثا عن المهربات وخاصة العرق، فدق بيده على بطنه وقال لهم: وهود البلبطن بتصادروهن؟
ومن حكاياته أيضا انه كان دائما ينتظر مرور العم سلهب الذي كان يشتري قنينة عرق من عند طنسي التكتوك، ليصادر منه جرعة على الماشي. وفي إحدى المرات كان سلهب يحمل قنينة كاز، وصار يمثل أنه يخبئها من العم مطانيوس الذي قال له: وين بدك تروح شفتك.. هات بلعة. فرد سلهب قائلا: خذ بلعة صغيرة فعندي ضيوف في البيت وعيب نحطلهن القنينة ناقصة. لكن العم مطانيوس ازداد شهوة للعرقات فأخذ القنينة وجرع منها أقصى ما يستطيع!!! فكاد يختنق بزيت الكاز.
ومن ملائحه أنه التقى مرة بالعم مصطفى فقال له: يا إبن العم ما بتخبرني شو عامل لربك؟ بتروح مرتك بالشتوية عبيروت ما بترحع لأول الصيف، وبتروح بالصيف عبانياس ما بترجع لأول الشتي.. عندي صليبا بتروح عند أليس عالصحرا، الله وكيلك ما بيلحق يغيب دنبها تيبين راسا.
ومرة جاءه " التحصلدار" يطالبه بضريبة المسقفات، وكان قد تهرب منه مرارا في السابق، فقال له انتظرني إلى جانب الطبق وسأذهب لأستدين المبلغ من عبدو الرشيد، ثم ذهب واختبأ وراء سطوح القاعات لأكثر من ساعة، عاد بعدها متلصصا من وراء جدار بيت مخاييل المرشد ليرى ما إذا كان التحصلدار قد رحل. لكن الأخير لمحه فناداه، وعند اقترابه قال له: يا مطانيوس انت خبيث. فرد عليه قائلا: أنا خبيث؟ أنا خبيث؟ قوسني وريحني من هالحياة التعيسة.
وفي كثير من الأحيان كنا نقبض على حيات صغيرة نضعها في علبة دخان فارغة ونقدمها له لنتمتع بالمفاجأة التي تحصل عندما يفتحها. وقد تطورت هذه اللعبة فصرنا نأتي ليلا بعقال اسود نربطه بخيط قنب طويل ونضعه في جانب الطريق بينما نختبئ في الجانب الآخر، حتى إذا مر بعض الناس نسحب الخيط بشكل يبدو معه ان العقال حية سوداء.. وكنا نتمتع بمنظر المارة في حالة المفاجأة والخوف وما يقومون به من تصرفات.
مرة كان المار جبرا العيسى (وهو الذي يحاول دائما إخافتنا بالحديث عن الثعابين والحيات الضخمة التي يلتقيها في قشموط، وخاصة الحية أم جراس، بهدف منعنا من النزول إلى هناك وسرقة ما فيه من طيبات)، فإذا به عندما سحبنا الخيط وظهر العقال متحركا أمامه يصاب بالهلع ويرمي تنكة الماء من يده ويهرول هاربا.. وفي اليوم التالي كنا على صيوانه الذي يعتبر من أهم مواقع القعدات لجميع الأعمار من الصباح حتى المساء، أخذ يحدثنا عن الأفعى السوداء التي رآها قرب بيت حنا الدكتور وقد لحق بها ليمسكها لكنها هربت ودخلت في جدار الحاكورة الشرقية.. وكنا نضغط على أنفسنا كي لا ننفجر بالضحك.
بالمناسبة كان صيوان جبرا العيسى المفتوح على المشتى كلها يستقطب زوارا من مختلف الأعمار والفئات، فكنت تجد الخوري عيسى والدكتور منير المشابك في الوقت الذي تجدنا نحن زعران ذلك الزمان.. ونتمتع كلنا بالضيافة الكريمة للعم جبرا الذي بدد ثروة من المال والأراضي للقيام بضيافة زواره.
عاش العم جبرا عمره أعزب.. لكنه كان دائما يقع في الغرام، ودائما من طرف واحد.. فإذا انجذب إلى فتاة ما كان "يلفي" على أهلها ليسهر عندهم يوميا تقريبا ويغدق عليهم الهدايا من منتوجات أراضيه (أفضل أنواع العنب والتين والرمان وعرانيس الدرة وغيرها). لكنه لا يتقدم لطلب يد أية حبيبة، فيأتيها النصيب وتتزوج غيره وهو يتحسر بانتظار حب جديد! وهكذا من واحدة لأخرى ومن بيت لبيت حتى نهاية العمر.
وكان العم جبرا - شروانا- أصلع لكنه كان يداري ذلك بأن يربي بعض الشعرات الطويلة من الخلف وعلى الجوانب يغطي بها الصلعة بأن يعقدها في الوسط.
ولم يكن يكتفي بالاستقبال الصيفي الدائم على صيوانه، بل كان يفتح بيته لسهرات الشتوية ولعب الباصرة وضيافة الشتاء الخاصة (القهوة الدائمة طبعا ثم الملبن والجوز والزبيب والهبول والتين بسكر وغيره) وكانت السهرات عنده عائلية (مختلطة) مع أنه أعزب ووحداني.
وعندما كنا نسأله: ما بدك تتجوز ياعم جبرا. كان يقول: عمهل! فكان مروان الأيوب يقول معلقا: عمهلو تيخدم العسكرية!
في الحقيقة كانت الألعاب التي نمارسها كثيرة يصعب تذكرها كلها ومنها: الجحش الطويل، والسمركة، وطابور الحمام، وياحبلما يا مبلما، وتحتك بيضة قيق قيق، ودبحنا العنز، وقالت أمو سندوه، والأسير والبلبل وغيرها وغيرها.. اما الرياضة الحديثة الوحيدة التي كنا نمارسها فكانت الكرة الطائرة، وقد أخذناها عن أكثر من جيل سابق. فلا أزال أذكر وأنا صغير عندما كان الملعب في الساحة وكان بين اللاعبين جميل الندور وجميل العازار (توفي وهو شاب) ثم ورد حلو ومنصور هنود وغيرهم. أما الجيل الذي قبلنا فاختار السهيلات وكان فيه غسان وجوزيف وعدنان وريان اللبس وابراهيم الزخور ويوسف الفارس. وكان من البنات اللواتي يلعبن معهم فينيس اللبس ونجلا وعايدة الجبرا وأليس الصليبا وأنيسة السلهب وجوزفين العفيفة وتمام العفيف التي كانت من أكثرهن قوة ونشاطا قبل أن تتزوج العم رزق الله وتلحق الوعظ والديانة والتبشير. وعلى ذكر التبشير، كتبت لي أمي مرة رسالة إلى بيروت عندما كنت في مجلة "الهدف" وتعرضنا لمحاولات اغتيال استشهد فيها المرحوم غسان كنفاني، وقد ملأت تلك الرسالة مواعظ ودعوات للصلاة، فاستغربت من أمي مثل هذه اللهجة الغريبة، ولما زارتني بعد ذلك بفترة سألتها عن تلك الرسالة فقالت لي: والله أنا يا إبني ما كنت بدي أكتب هيك بس هال....... مرت عمك رزق الله تمت تنق عليي لحتى كتبتني ياها.
وفي هذا الجيل الذي سبقنا تأسست جمعية "شبيبة آل الحلو".. وفي يوم تأسيسها جاء غسان إلى البيت وقال لأمي إنهم قد اتخذوا قرارا في الجمعية بألا يتزوج أي شاب من بيت الحلو عروسا من خارج العائلة. فقالت له الوالدة: ويلي يا عيني ما كان فيكم تاخدوا هالقرار قبل ما يتزوج بيك؟
وعندما ورثنا عنهم الجمعية أحدثنا فيها تطويرا هاما، فقد أقمنا ملعبا للكرة الطائرة فوق الدقارات، كما نجرنا طاولة "بينغ بونغ" واتخذنا من الغرفة التي كانت مطبخا لبيت اليان السليم في قلب الدار الجواني مقرا للجمعية، وأنشأنا فيها مكتبة مليئة بكتب المطالعة وخاصة الروايات المترجمة وبينها مئات من قصص أرسين لوبين. وكان الياس العفيف هو المشرف على المكتبة، وكان أكثرنا قراءة... كما كان أسرعنا في الركض. وصار لدينا فريق كرة طائرة ينافس فرقا أخرى في المنطقة ومن أهمها فريق وادي المجاور. وكان نبيل إبن العمة هيلانة عمة مرشد، يأتي من طرطوس في الصيف فيلعب معنا ويدربنا لأنه كان لاعبا جيدا.
كما مثلنا بعض المسرحيات في دار بيت رشيد (كانت تسكنه العمة ماري الشكري زوجة توفيق الياس) حيث عمر حليم بيته الجديد. وأذكر أنه في إحدى المسرحيات كانت هناك عبارة في الحوار تقول: لقد خابت الآمال يا إميل " فاعترضت أم إميل وقالت إن هذه العبارة شؤم على ابنها إميل فاضطررنا لحذفها!
أما زعرنات تلك الفترة فكانت كثيرة أهمها السرقة.. ولعل الهدف الأول للجميع كان جنينة عزيز من الربيع أيام المشمش (وكان فيها مشمشة تحمل كثيرا في مدخل الجنينة من جهة الصيوان) إلى آخر موسم الرمان في التشارين. وربما كنا الجيل الأخير (أو قبل الأخير) الذي تربى على تلك الجنينة التي مرت عليها أجيال كثيرة قبلنا.. وعندما بطلت السرقة ماتت الجنينة!! وكانت زوجة العم عزيز، وهي حمصية، تستيقظ في الليل على حس السارقين، فتصيح من البلكون: يا قريضه.. طير الحمام ناموا وأنتو ما تنامو!؟
وكان عزبز أول مأمور نفوس في المشتى، فقام خلال عمله في تسجيل الأهالي والأسماء، بإخراج كل من هم من خارج الدار الجواني، من بيت الحلو وسجلهم على أسماء آبائهم أو أجدادهم.. وبقي الأمر كذلك سنوات طويلة حتى بدأ البعض بإقامة دعاوى لتصحيح الاسم واستعادة الكنية. ومن هنا نجد أن البعض ما يزال حتى الآن بدون تلك الكنية مع أنه من بيت الحلو، مثل بيت عيسى المخاييل وحسني الجرجس وبيت أيوب وبيت الشماس وغيرهم.
أما السرقة التي تحتاج إلى مغامرة كبيرة فهي قشموط جبرا العيسى الذي كان يتردد عليه في الليل والنهار، ويخيفنا بأحاديث الحيايا (الثعابين) الموجودة فيه. وفي إحدى الصيفيات تجرأنا أنا ووليم وراقبنا سهرة عند العم جبرا فتأكدنا أنه لن يتركها ثم قمنا بغزوة على قشموط, تمتعنا خلالها بأطيب العنب حتى من الدالية العالية على شعب النمل، لأننا اكتشفنا أن النمل ينام في الليل. وهكذا كسرنا حاجز الخوف وصرنا نذهب إلى هناك عندما نريد بعد أن نطمئن على السهرة عند بو منصور.
وكان جبرا العيسى يدعونا جميعا إلى قشموط ولا يبخل علينا بما فيه من ثمار عندما نقوم بمساعدته على نبر الزيتون وجمعه بينما هو يسلينا بحكايات متسلسلة قديمة ومشوقة جدا، منها قصة فيروز شاه وقصص عنترة وتغريبة بني هلال، وتستمر روايته لتلك المسلسلات حتى نهاية الموسم.
ومن رزالاتنا الهامة أننا اكتشفنا، خلال اللعب على الدقارات، مغارة لها مدخل ضيق جدا ومغطى بجفن البطم ينفتح على ما يشبه الغرفة الواسعة، فصرنا نسرق الفراريج من الحارة وننزل بها إلى هناك حيث نشويها ونأكلها، ونرمي الريش والعظام والمخلفات في فتحة ضيقة لكنها عميقة جدا، ثم نعود إلى الحارة لنروج الأخبار عن جقل شاهدناه وراء سطوح القاعات يخطف الدجاجات ويهرب! وقد لوعنا نساء الحارة لمدة طويلة في هذا الأمر.
وفي أحد الأيام كنا نشوي الفراريج داخل المغارة فسمعنا صوتا وحركة فوقنا.. كانت هناك شقوق للإنارة نرى منها الخارج دون أن يرانا أحد. فإذا بعدنان اللبس يحاكي نفسه وهو يقترب من الشقوق ويقول: يا عمي والله من هون الريحة! يلعما ريحة فراريج مشوية! ثم يبتعد قليلا ويعود مرددا الكلام نفسه مستغربا وجود تلك الرائحة في قلب هذه الصخور!! فما كان منا إلا أن ناديناه ودعوناه لمشاركتنا الوليمة.
وصارت تلك المغارة معروفة باسم مغارة الشليليف.