كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

دير الزور في زمن الخلفاء الراشدين

بقلم العلامة الشيخ محمد سعيد العرفي:
{{و أما مالك بن طوق فقد بنى الرحبة، وهى قلعة كانت على شاطئ الفرات وبعدت الآن عنها مسافة تقرب من ثلاثة أميال، بنيت فيها مدينة تدعى الآن الميادين - على اعتبار الميل أربعة آلاف خطوة في كل تقدير أوردناه وعصى فيها سنين عديدة، وفى آخر الأمر غلب وحصل له العفو.
ولما أعلنت الحرب بين الأمين والمأمون ابنى هارون الرشيد، لم يجد الخليفة الامين من يلبى نداءه بإخلاص، الا سكان دير الزور، وكان نصر بن سيار العقيلي هو المعلن لنصرته بعد ما قتل، سنة 198 هـ إذ رأى نصر هذا أن دولة الامين أعجمية فأعلن عصيانه عليها حتى أنه لما كلف بأن يبايع أحداً من خصوم العباسيين أبى، وقال إن هواي في العباسيين وانما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يقدمون العجم؛ وأقام في الرقة وفي حران وبقي سنين. ثم ضعف شأنه لأن أنصاره تخلوا عنه بسبب رأيه الذي أعلنه، وكان أيضاً سبب عفو المأمون عنه ولا زالت على هذا الحال حتى كانت سنة ٦٥٦ هـ، وفيها محا هولاكو الدولة العباسية من العراق، وأخرب تلك البلاد، ثم عقبه تيمور لنك سنة ٨٠٤ فاكمل هدم ما بقى من الآثار وتمزيق الانقاض، ولم تبق الا الاطلال فلا حول ولا قوة الا بالله.
و بعد واقعتي هولاكو وتيمور لنك، هجر أهل المدن المتخربة الصحاري، و استبدلوا البنيان بالخيام و بيوت الشعر؛ حتى أصبحوا الا كثرية المطلقة، وعاشت بعد ذلك في عزلة عن العالم قروناً طويلة ، فوضى بلا حكومة، وإنما يحكم البلاد رؤساء القبائل، ويسمى ذلك العهد بزمن «الفلت» أي لعدم خضوعهم للدولة العثمانية، وانفلاتهم من قيودها الثقيلة، وكانوا في غنى عن العالم كله، بما تنتجه الارض من الاغذية وزراعة القطن، وتقوم به البلاد من المصنوعات و الأعمال التي تكفيهم وتغنيهم عن جلب حوائجهم من قطر آخر. حتى أنه كان في أغلب بيوت مدينة دير الزور و الميادين و الرقة مصانع نسج الصوف والقطن بحيث تكفى الحضريين و البدو المحيطين بهم، فلم يحتاجوا الى غيرهم مدة الفوضى كلها. وهذا هو الذي جعلهم يستطيعون الاحتفاظ بحياتهم الاستقلالية، و يعيدون لها العدد المادية، على حسب وسعتهم و ما يكفل لهم تأمين ما يقصدونه، فإنك تجد المدينة القديمة متراصة على بعضها، و بعبارة أفصح مجموعة حجرات فوق كل حجرة غرفة أو سهوة - أي جزء غرفة - والشارع لا يزيد على ثلاثة أذرع، ليسهل تعاونهم مع بعضهم، فقد كان الفلاح يحرث أو يحصد وهو متنكب بندقيته متقلد حسامه، ومثله العامل، خشية من الطوارئ، فقد كانوا مزارعين أرباب صنائع. محاربين في آن واحد، ولذلك فإن هذه البلاد كلما مر بها طامع آب خائباً فقد غزتها الجيوش العثمانية مرات، ولم توفق لإخضاعها، فتركتها، لوقوع البلاد في غابات كثيرة يصعب على الجيش النظامي أو الاجنبي أن ينازلهم، لانهم أعرف منه بالمواقع الحربية والطرق المفيدة والمسببة للظفر.
وبعد استفحال أمر الوهابيين، واستيلائهم المرة الاولى على الحجاز سنة ١٢٢٠ هـ أرادوا أيضاً أذ يحتلوا دير الزور بقيادة أحد شيوخهم، المسمى «القعيط » فنزل بقرب البلد كضيف أولا ثم هجم ليلا بجنوده يريد احتلال مدينة دير الزور قاعدة البلاد بالاستيلاء على قصر الشباب المبني خارج المدينة هو اليوم - شرقي دار الحكومة متصل بها – ومنه يدخلونها من باب الجسر، الذى هو الباب الشرقي. لأن للمدينة بابان باب الجسر عند الجامع العمرى، و يقابله في الغرب باب الهواء عند العوير. فقتل القائد مع أكثر جيشه ولم ينج الا النادر.
وفي غضون سنة ١٢٥٠هـ وصل اليها أحد قواد ابراهم باشا ابن محمد علي المسمى «قفطان» فبقى أشهراً كضيف ثم خرج منها.
وفي سنة ١٢٨٠هـ مر السردار عمر باشا والي بغداد، وكانت مدينة دير الزور منقسمة على نفسها، وقواها منهوكة، من حروبها مع العشائر مع استمرار النزاع، وكان بعض المفسدين من الأسر التي لا تزال مثالاً للفساد والاضرار، أشعل نار الفتنه بحركات جنونية. حيث جمع من الأهلين طحيناً كضيافة للعساكر التركية. فباعه منهم بعد أن مزجه بالجص فحصلت المصادمة مع الجيوش العثمانية، التي غلبت في أول الأمر حيث أن الأهليين متمرنون على السلاح أكثر من الجيش التركي، فتلفت منهم مئات . ولم يقتل من الأهلين شخص واحد ولكن أعانه بعض الزعماء. و علموه مداخل البلدة ومواضع ضعفها. فضرب بمدافعه مأذنة الجامع الكبير فقلع رأسها، ولا يزال مشاهداً حتى الآن ثم دخل الجيش من باب الهواء لأنه كان خلواً عن المحاربين... }}
هذا الكلام جزء من مقالة بعنوان
دير الزور في زمن الخلفاء الراشدين
بقلم: محمد سعيد العرفي
المصدر: مجلة المعرفة المصرية
رقم العدد: ٤
تاريخ الإصدار: ١ آب ١٩٣١
أرشيف الشارخ
للمجلات الأدبية والثقافية العربية
تعريف بالشيخ محمد سعيد العرفي: هو من مواليد دير الزور ١٨٩٦ و توفي عام ١٩٥٦ م، وهو من رجالات البلد و أعيانها البارزين، وكان مفتي المحافظة الأسبق، و برلماني سابق، و أحد الأعضاء المؤسسين لنادي الفرات الثقافي الأدبي، وهو شخصية وازنة و معاصرة لكثير من الأحداث الهامة بتاريخ دير الزور، و كذلك عاصر رجالاً من أجيالٍ سبقته وكانت شاهدة على تلك الأحداث.
وكان له تراثاً مكتوباً عن دير الزور هو بغاية الأهمية.. أتمنى أن يتم تجميعه.

تدقيق: عبد العزيز الأحمد بك