كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الأعيان والفلاحون في مقتبس محمد كرد علي لعام 1910

د. عبد الله حنا- فينكس:

نشر محمد كرد علي أحد دعاة التنوير مقالا في جريدته "المقتبس" الدمشقية بتاريخ 10 آذار 1910 تحت عنوان "الأعيان"، ننقل منه الفقرات التالية:
"يقول بعضهم أنكم دعوتم وتدعون إلى إسقاط الأعيان من الأنظار ليكون الناس سواسية ويسيرون إلى الاشتراكية المعتدلة خطوة تنفع الطبقات كلها... ولكننا نكره أن يعتدي الأعيان على أهل الطبقتين الثانيتين مثلما نكره أن يعتدي أحد من أهلهما على الأعيان. وقد كنا ويعلم الله نقف ضد من حملوا اؤلئك الفلاحين على المطالبة من الأعيان باراض لهم باعوها منذ عشرات السنين بيعا صحيحا بأوراق رسمية في مرج الغوطة ووادي العجم والقنيطرة وغيرها من أقاليم هذه الولاية. ورأينا ذلك محض اعتداء على الأعيان يلقي الفتنة في البلاد ولا يفيد الفلاحين إلا سلبهم أموالهم وأوقاتهم".
ويقصد كرد علي، في هذا النص، أن إقامة الدعاوى من قبل الفلاحين في المحاكم ضد الأعيان، الذين سجّلوا الأرض باسمائهم وحرموا الفلاحين منها، ستؤدي إلى خسارة الفلاحين أموالهم أجورا للمحاكم دون جدوى. لماذا؟.. لأن جهاز الدولة، ورغم الهزّة التي اصابته بعد خلع عبد الحميد السلطان الإقطاعي، كان لا يزال أداة في يد الطبقة الحاكمة من الإقطاعيين، ولم يكن للموظفين من أبناء الطبقة الوسطى القدرة على الوصول بالنضال الفلاحي المناهض للإقطاعية إلى مبتغاه.
جاءت مطالبة الفلاحين بأراضيهم، التي اشتراها الأعيان شراء صحيحا في رأي الأعيان، وشراء يلفّه الخداع والتضليل حسب الرأي الفلاحي، في أعقاب انهيار حكم السلطان عبد الحميد الاستبدادي عام 1908 وقيام ثورة الاتحاد والترقي. فقد توهّمت بعض الفئات الفلاحية أن الوقت قد حان لاسترداد أرضهم التي سلبها الأعيان بالوسائل التي تحدثنا عنها في كثير من الحلقات. و واضح من كلام كرد علي وقوف بعض المسؤولين من الحكام الجدد الذين لا يملكون ثروة ووصلوا إلى مناصبهم بعلمهم ومعارفهم، إلى جانب الفلاحين. وهؤلاء حرّضوا الفلاحين ضد الأعيان وهم، كما جاء في المقتبس:
"بعض اصحاب الحل والعقد الذين أوصلهم جدّهم وهمّتهم عن غير ثروة سابقة إلى منصب يأمرون فيه وينهون فيميلون إلى مناصرة الفلاحين سواء كانوا محقين أو محقوقين لاهتضام حقوق اصحاب الأملاك وأخذ أراضيهم. والأعيان اشتروا الأملاك أو ورثوها عن آبائهم".
واضح من هذا النص، الذي جَهِدَ أن يكون حياديا والوارد على لسان كرد علي في المقتبس أن حركة فلاحية واسعة طالبت باسترداد الأراضي التي نهبها الأعيان في غفلة من أهلها. كما يبدو بجلاء ان مثقفي الطبقة الوسطى، الذين أوصلتهم ثورة الاتحاد والترقي المناهضة للاستبداد إلى السلطة، حرّضوا الفلاحين ودعموهم للمطالبة بالأرض التي سلبها الأعيان في "عهد الاستبداد". ولا نعلم ماذا جرى لهذه الحركة، وكيف تمكّن الأعيان من إخماد نارها.
ولكن الوقائع المستقاة من التاريخ المكتوب وأقوال الفلاحين الذين التقينا بهم في الجولات الميدانية، تبيّن أن الخلاف، بل النضال، بين الفلاحين والأعيان، أي الإقطاعيين، استمر يخبو أحيانا ويشتعل أحيانل أخرى حتى صدور قوانين الإصلاح الزراعي في أواخر خمسينات القرن العشرين.
الحلقة القادمة: عزت باشا العابد سكرتير السلطان عبد الحميد
من كبار إقطاعيي دمشق وأعيانها