كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الركود والتخلف في العهد العثماني من منظار أقلام شامية إسلامية

د. عبد الله حنا- فينكس:

لنطرح السؤال التالي: هل ثمّة علاقة بين بين الركود والتخلف وبين الواقعة التاريخية التالية:
مجتمع ذو ماض تاريخي عريق ومجيد، حمل على أكتافه ثقافة وحضارة إنسانيتين بلغت الأوج في القرن الرابع الهجري، ثم تخبو هذه الحضارة العربية الإسلامية الزاهرة وينطوي المجتمع متقوقعا في عهود من الظلام، ساكنا راكضا قرونا عديدة؟
لا نريد الخوض هنا في أثر الإجتياح المغولي التتري والغزو الفرنجي، فهذه مسألة يطول النقاش فيها. ما نريد التنويه إليه هو أن التخلف لم يكن الاستعمار سببه الرئيسسي. فقبل هذا العامل الخارجي شهدت المجتمعات العربية الإسلامية بعد القرن الثالث عشر الميلادي، وقبل مجئ الاستعمار، قرونا من السكون والركود، بعد انهزام العقلانية وسيادة الاستبداد السلطاني لدول الاقطاع العسكري السلجوقي والمملوكي والعثماني، التي خنقت إرهاصات التطور والتقدم، وعرقلت الإنتقال من نظام طوائف الحرف إلى الثورة الصناعية، وبالتالي الإنتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية.
ومن يقرأ كتابات مؤرخي تلك الفترة يرى بوضوح الطرق والوسائل التي اتبعها الحكام من المماليك والعثمانيين في فرض الضرائب الباهظة والإتاوات المتكررة، وابتزاز الأموال، ونهب الثروات والمحاصيل، وصرفها في الأمور الترفيهية الاستهلاكية غير المنتجة. ويلمس القارئ لمس اليد دور أولئك الحكام المستبدين في عرقلة إبداع القوى المنتجة وإقفال بوابات التطور والنهوض.
***
وفيما يلي نماذج من الأدبيات العربية الشامية (ومعظمها سنية) المنوّهة بالاستبداد أصل البلاء:
* تحت عنوان: "ظلامات عهد الظلمات" لخّصت جريدة المقتبس الدمشقية النهضوية عام 1910 الوضع من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر الهجري بالجمل التالية:
"كانت أشقى العصور. لا حكم فيها إلا للقوة، ولا عدل يُحْيِها، ولا عِلم يُنهضها، وخصوصا في الأيام التي سادت فيها حكومة الإقطاعات".
* يلخّص مؤرخ الشام محمد كرد علي الحالة في تلك العصور بالجملة التالية: "كان أهل الشام بين ظالم ومظلوم".
* قبل قرنين من كلام كرد علي، وصف المؤرخ ابن جمعة المقار الأحداث في دمشق سنة 1136 هجرية -1725 م كما يلي:
"...وفي هذه الأيام كان الظلم الشديد الزايد وكثرة العوانية حتى صارت أرض الشام مشغولة بالظلم، وتمادى هذا الحال وقلّ المسعف حتى بالقال... اما أهل البلد لم يبق لهم جلد وحارت عقول المحلات، من قول هات هات وهم رعايا بادية بين ذياب عارية".
* وعلى منوال ابن جمعة وصف البديري الحلاق الحالة في دمشق عام 1725 م بالجمل التالية:
"...غير انه ما فيه من يفتش على الخلق بالرحمة والرأفة من الحكام والوجوه. والخَزّانة كثيرون، والأكابر ساكتون، والحكام يأكلون، فإنّا لله وإنا إليه راجعون...".
* المعاصر للأحداث مخائيل بريك يصف قدوم الوالي العثماني الجديد إلى دمشق عام 1171 هجرية – 1758 ميلادية على النحو التالي:
"... ومعه عساكر كثيرة مثل جراد زحاف أشكال وألوان، فخافت دمشق اكثر من الأول... دخل على الوزير (أي الوالي) في مدة سبعين يوما نحو أربعة آلاف كيس من ظلم أهالي دمشق من الموالي والرعية والحرف، ومن النصارى والإفرنج واليهود، ومن البساتنة، ومن أهالي الأراضي، ومن أهالي القرايا، التي حوالي الشام، على أن فُقد القرش من الشام بالكلية. وعساكر الوزير طافت على القرى والضياع التي حوالي الشام ونهبوها نهبة خفية وخربوا البلاد والزراعات ودور الفلاحين...".
* والي عكا أحمد باشا الجزار وهو من التلاميذ النجباء "لمدرسة المؤامرات والاغتيالات والسلب والنهب والغدر والمكائد السلطانية العثمانية"، مدّ نفوذه إلى ولاية الشام. ويصف المؤرخ مخائيل الدمشقي حالة الناس، التي لم تأخذ أي قسط من الراحة بسبب مظالم الجزار وهي:
" طلب القرش ظلما، نهب البضائع من جهة وطرحها في الأسواق بأسعار مرتفعة، حوادث كثيرة مقهرة ومغمّة من أنواع كثيرة".
* تعكس ترجمة الشيخ راغب الطباع (الحلبي) لأعيان القرن التاسع عشر أحد جوانب الحياة في المجتمع الراكد لتلك الفترة. فقد صنّف الشيخ راغب الطباع الأعيان على النحو التالي:
"أعيان اشتهروا بالخوارق، أو عرفوا بالجذب وهم خلفاء الأولياء، أو فقراء خدموا السلك (الطريق) بأمانة وصدق، أو تجّار ومعلمو حرف، أو علماء (والمقصود بالعلم هنا هو العلم الديني، لأن العلوم الأخرى كانت مجهولة لديهم)، وأخيراً أعيان على صلة بالسياسة".
***
وهكذا يتبين أنه لم يكن من السهل على رواد النهضة نشر أفكارهم في أجواء القهر والظلم والعسف السلطاني:
- فمؤرخ الشام محمد كرد علي يلخص الوضع بالجملة التالية:
"كان المرء سرياً في ثلاثة أمور: في ذهبه وذهابه ومذهبه".
وصف كرد علي هذا يهدينا إلى فهم المسألة الطائفية.
- الاهتمام بتوافه الأمور والاعتقاد بالخرافات والأساطير والخوارق يختصرها الشيخ المستنير محمد بهجت البيطار واصفاً عصر جده (1253 – 1335 هجرية) بالجملة التالية:
"كان عصره عصر جمود على القديم وتلقي الأقوال بالتسليم من دون تمحيص للصحيح من السقيم"..
- وفي ذلك الجو الفكري السقيم كان من الطبيعي "أن تَقِلَّ"، كما كتب القساطلي سنة 1879، "بضاعة المعارف لرواج بضاعة السيوف والعصي"..
- وتقرير الوالي المصلح مدحت باشا عن أحوال سوريا عام 1879، جاء فيه:
"...فالأوامر التي ترسل من الأستانة قاصرة على طلب المال والجند..".