كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الشيخ سعيد عبد الغني الجابي (5)

خالد محمد جزماتي- فينكس:

(1879" 1872" --1948)
بعد أن يأس خصوم الجابي من نتائج شكواهم عليه أمام القاضي في حماة، عقدوا العزم على السفر إلى دمشق والتقدم بشكوى ضده إلى رئيس مجلس الوزراء اّنذاك (كان ذلك عام 1934) الشيخ تاج الدين الحسني، عملاً بنصيحة المستشار الفرنسي في حماة.
ولما حطوا رحالهم في دمشق، قابلوا بعض مشايخها الذين يشبهونهم في طريقة تفكيرهم، إذ قدموا لهم الدعم أمام الشيخ تاج الدين الحسني، فاستجاب لهم وأرسل وراء الشيخ سعيد الجابي للمثول بين يديه.. ولما جاءه الشيخ سعيد الجابي وأراد أن يدافع عن نفسه ويشرح له أفكاره وما يجري في حماة حول دعوته، قاطعه رئيس الوزراء الشيخ تاج الدين الحسني وأمره بتدريس "كـتـاب مـلـتـقـى الأبـحـر فـي فـروع الـحـنـفـيـة" للإمام ابراهيم بن محمد الحلبي فـقـط، وهدده، إن لم يلتزم بما أمره به، فسوف يصدر قراراً بحرمانه من جميع وظائفه ويمنعه من التدريس في الجوامع جميعها، ثم ختم اللقاء بقوله له: "دع الـخـلـق لـلـخـالـق، ودع عـنـك هـذا الأمـر، ولا تـشـغـلـنـا وتـشـغـل نـفـسـك والـزم مـا قـلـت لـك".
ولما أراد الشيخ سعيد الجابي مناقشة الشيخ تاج والدفاع عن نفسه، احتد الشيخ تاج وقال له: يجب عليك التقيد بما قلت لك ولا تهاجم العلماء، و امتنع عن تدريس الأحاديث وتفسير القراّن الكريم، واكتف بتدريس الـفـقـه فـقـط. وأمر الشيخ تاج الدين الحسني بانهاء المقابلة.
وهكذا خرج الشيخ سعيد الجابي من مكتب رئيس الوزراء محبطاً يائساً مغتماً وحزيناً جداً، فتوجّه من فوره الى محطة القطار، حيث غادر دمشق إلى حماة وهو في حالة لا يحسد عليها.. والمفاجأة كانت غير متوقعة منه، فقد احتشد جمع غفير من أهل حماة لاستقباله عند نزوله من القطار... ولما وصل بدأت الأصوات تعلو وتهتف له بل راحت الحناجر تزأر بالتحايا معلنة تأييدها له والانتصار لدعواه وتأييد أفكاره، فكان ذلك مبعثاً للأمل عنده، خاصة عندما نزل من القطار وحملوه على الأكتاف وسالت الدموع من روعة هذا المشهد وجماله، وأصر الرجال على متابعة المسيرة متوجهين به من محطة القطار إلى الجامع الأعلى الكبير الذي ضاقت رحابه بتلك الجماهير المحتشدة، فترجل الشيخ ووقف بهم خطيباً وضرب بعرض الحائط تعاليم و أوامر رئيس مجلس الوزراء و أصر على ممارسة ما يراه مناسباً في تدريس الناس. ولما وصلت أخبار الشيخ سعيد الجابي من جديد إلى الشيخ تاج الدين الحسني التزم الصمت ونُقل عنه أنه قال: "إذا لـم يـكـن مـا تـريــدون، فـأريـدوا مـا يـكـون"...
ولم يكتف الشيخ سعيد الجابي بشرح ما حدث بما يحكيه للناس بلسانه وأثناء دروسه، بل أخرج بياناً للناس مكوناً من أربع صفحات بتاريخ 12 ايلول 1934م أسماه "رســالـة" شرح فيها سبع نقاط هاجمه من خلالها خصومه المشعوذون، وبدأها كما يلي:
بــــســــم الــلــه الـــرحـــمــن الـــرحــــيـــم
"الحمد الذي جعل االحق نوراً، وجعل ما بعده ضلالاً وزوراً، وأنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم (إن هذا القراّن يهدي للتي هي أقوم) وأمرنا بالتحاكم إلى الكتاب والسنة عند التنازع، وكفى بهذا شاهداً ودليلاً، فقال جلّ من قائل(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاّّخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً)..
ثم يتابع مبيّناً سبب نشر هذه الرسالة فيقول: "إن ما حدا بي لنشر هذه الكلمات هو ما شاع في الاّونة الأخيرة من وقوع اختلاف بين علماء حماة جرّ إلى شيء من المشاحنات بين العامة، و إن السبب في ذلك يرجع إلى نقل بعض المستمعين عن الدرس نقلاً مشوهاً، إما عن سوء فهم، أو سوء قصد، فرأيت اظهار الحقيقة أن أذيع هذه النشرة مبيناً فيها الحقيقة فيما يدور حول هذا الاختلاف لا خشية من أحد، ولا استرضاء لعطف أحد، ولا أبغي من وراء ذلك إلّا رضاء الله عز وجل وجمع كلمة الأمة على الاخلاص والتقوى واحترام علماء الدين الذين هم مرجع الأمة الاسلامية فيما ينفعها في الدنيا والاّخرة، و أبدأ ببيان الأمور التي يقال إنها هي سبب الاختلاف، فأقول مستعيناً بالله:...."، ثم يشهر رأيه في الأمور السبع وهي: -- الاجــتــهــاد -- تــكــفــيــره الــمــؤمــنــيــن -- الــرابــطــة -- الــمــعــجــزات -- الــكــرامــات -- الــتـــصــوف --- مــعــنــى الــتــصــوف.... ثم يختتم الشيخ سعيد الجابي رسالته بشرحه أن ذلك كان بهدف إزالة سوء التفاهم الواقع بين المسلمين، و أن رأيه في كل الأمور واضح في مؤلفاته المنتشرة بين الناس، ويجهر بها في دروسه العامة.
وفي هذا السياق لا بد من التنويه بأن الشيخ سعيد الجابي كان يتمتع بذهن وقاد ويرى بأن الاجتهاد ضروري، وكان يخالف بعض الفقهاء في الفروع الفقهية عندما يثبت له صحة الأحاديث النبوية الشريفة، و لربما نقل بعض الضعفاء من العامة عنه الكلام محرفاً عن مواضعه، بل ويدعون بأنه لا يأخذ بفتاوى كبار علماء المسلمين، خاصة عندما يسمع البعض من هؤ لاء الضعفاء اّراءه في المعجزات والكرامات وتمضية الوقت فيما لا يرضي الله ورسوله.
وقبل أن أختم هذه الحلقة الخامسة عن الشيخ سعيد الجابي لا بد من القول بأن الشيخ سعيد الجابي كان ذو تأثير كبير على الوسط الذي عاش فيه، فكان الشيخ يستيقظ قبيل الفجر، فيذهب إلى المسجد و يلتقي الناس فيه و يصلي بهم، و كان رحمه الله محكمة شرعية متنقلة، ثم يجلس إلى تلاميذه بعد الصلاة ليدارسهم في علوم اللغة والفقه والحديث والتفسير، وعند الانتهاء يخرج إلى السوق، فيستقبله الكثير من الرجال يستفتونه في بعض أمورهم وحكم الشرع، ويبقى كذلك حتى اّذان الظهر، حيث يتوجه للجامع ليؤم الناس، وعقب صلاة الظهر يجلس مع الناس في درس عام أو خاص، وهكذا عقب كل صلاة.
أما درسه العام فكان يشرح فيه مع الحاضرين في مواضيع شتى، و ربما تتخلله بعض النكات الظريفة التي تجود بها روحة المرحة، ولكن في مكانها الصحيح من غير تسيب. و أما الدرس الخاص فمقيد بالموضوع ومحدد بالمادة التي يبحث فيها.
و يروى عنه أن بعض المستمعين كانوا يرفعون أيديهم للاستفسار عن بعض نقاط الموضوع الذي يشرحه، فيومي الشيخ إلى السائل أن ينتظر، وهكذا في نهاية درسه الخاص لا يجد أي مستمع حاجة إلى الاستفسار.