كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الـشـيـخ سـعـيـد عـبـد الـغـنـي الـجـابـي (3)

خالد محمد جزماتي- فينكس:

1879(1872) --1948
تقلد الشيخ سعيد الجابي أولى الوظائف للتدريس في جامع الشيخ ابراهيم المتوضّع في المدخل الشمالي لسوق الطويل (سوق المنصورية)، فكانت دروسه فرصة ذهبية لبث اّرائه في الاصلاح الديني والاجتماعي، وتشديده على توحيد الكلمة ورص الصفوف والمطالبة بالحرية والاستقلال، وهو الخبير بما جرى من حوادث وحروب من أجل الهيمنة على البلاد العربية وغير العربية التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية من قبل الدول الاستعمارية الغربية..
وبدأ الشيخ سعيد الجابي بمحاربة البدع والخرافات التي كانت منتشره في زمانه، وخاصة عند أولئك الذين يضربون بالشيش ويأكلون النار ويمشون على الجمر، والذين يعكفون على القبور، وشدد الوطأة على بعض المدعين بالعلم الشرعي ونشرهم الحيل الشرعية للتعامل بالربا واسقاط الزكاة، وهاجم بشدة الذين يتعاطون "بـيـع الـعـيـنـة" وهو بيع القليل بالكثير الى أجل...
وكان للشيخ سعيد الجابي خال اسمه "نـعـمـان شـيـخ زهـيـر" يلقي دروسه الدينية في جامع الأشقر المتوضع في أول الثلث الأخير من سوق الطويل باتجاه الجنوب، فخلفه في التدريس في ذلك الجامع، وكان المسجد يضيق بمرتاديه لحضور دروس الشيخ الجابي، وخاصة في شهر رمضان بعد صلاة الفجر، ومن أشد ما كان يحبه الناس العقلاء منه نقده اللاذع وفيه روح النكتة للمفاسد والانحرافات التي علقت بالدين، والإسلام بريء منها، وكان لا يتوانى عن مهاجمة السلطات الفرنسية والمتعاونين معها خاصة إذا كانوا رجال دين في كل درس أو خطبة أو لقاء عام...
وهكذا ذاع صيت الشيخ الجابي وأصبح الألوف يقصدونه لسماع دروسه، ونتيجة لذلك تم تعيينه من قبل الحكومة "مدرساً عاماً في حماة"، وكان درسه العام في الحديث والتفسير والفقه واللغة، وأصبح الجامع الأعلى الكبير المكان الرئيسي لدروسه بين صلاتي المغرب والعشاء..
وبمناسبة ذكر اسم الجامع الأعلى الكبير في حماة، فقد ذكر الكثير من الكتاب ومن الناس العاديين حادثة مشهورة عن الشيخ سعيد الجابي وقصتة مع الجامع الأعلى الكبير والحاكم الفرنسي لمدينة حماة... وملخص الحكاية أن الفرنسيين منذ دخولهم سورية ولبنان عملوا على استغلال اختلاف الأديان والمذاهب لمكونات البلاد الشامية لبث الفرقة بين الفرقاء جميعا لتسهيل حكمهم الاستعماري واضعاف الروح الوطنية.. وهكذا خطرت في بال المستشار الفرنسي فكرة شيطانية لزرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين الحمويين، فقد أرسل وراء عدد من المشايخ الضعفاء الى الاجتماع به في مكتبه، حيث طلب منهم الموافقة العلنية لضم باحة المسجد الأعلى الكبير الى بناء مدرسة الراهبات المسيحية التي تجاور المسجد، فتململ جمع المشايخ وظهرت التمتمة والوجل على الوجوه، فالبعض وافق على مقترح المستشار والبعض نصحه باستدعاء الشيخ سعيد الجابي لأخذ موافقته، لأن رأيه هو الذي يحسم المسأله. واستدعى المستشار الشيخ سعيد الجابي وطلب موافقته على فكرة الضم، لأن ذلك المسجد كان بالأصل كنيسة...! فأجابه الشيخ (هذا ما توصلت إليه بعد مراجعة الكثير من المراجع والأقوال حول تلك الواقعة): قولك أن هذا المسجد كان كنيسة فهو غير دقيق..! فهو بالأصل كان معبداً وثنياً، ثم تحول لكنيس يهودي، ثم لكنيسة.. ولما جاء العرب المسلمون محررين لأخوتهم العرب المسيحيين في حماة بقيادة أبو عبيدة بن الجراح حولوه إلى مسجد بالاتفاق العلني بينهم، وكان العرب في حماة يعتنقون الديانة المسيحية ويخضعون لحكم الروم وظلمهم... وهذا الاتفاق بين المسيحيين والمسلمين في حماة تم منذ أكثر ألف سنة، وأنت يا حضرة المستشار لا تستطيع تغيير مثل هذا الاتفاق التاريخي، واذا أصررت على تنفيذ فكرتك فعليك تحمل النتائج....! وتراجع المستشار..
كان الشيخ سعيد الجابي على علاقة وطيدة بالقيادات الوطنية في حماة في بداية حكم الانتداب الفرنسي، وكان يدعو إلى وحدة الصف ضد المحتلين الأجانب بالرغم من تمسكه بأفكاره الاصلاحية الخاصة بالاسلام، التي لم يجاريه في التمسك بها وبشدتها سوى الشيخ الشهيد عبد الحميد الزهراوي، وبشكل عام يذكر التاريخ بإجلال مواقف جميع المشايخ على اختلاف مشاربهم وقوفهم صفاً واحداً وداعماً لثورة حماة عام 1925 تحت قيادة فوزي القاوقجي..
ولقد تمكّن الشيخ سعيد الجابي أن يصبح الشخصية الاسلامية البارزة في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي. ولقد أحدث كتابه الأول "النقد والتزييف" ضجة كبيرة في أوساط المثقفين، وفيه يرد على كتاب الشيخ النقشبندي حسين الخطيب "الدر اللطيف" ويفند ما جاء فيه من بعض الأحاديث الموضوعة، ويدعو الدارسين إلى معرفة الحديث الصحيح من غيره من الأحاديث الموضوعة.. وفي هذا الكتاب نظم الشاعر بدر الدين الحامد قصيدة عصماء منها هذه الأبيات:
يا أيها السادر المخدوع قم فلقد ***دعاك للعلم بعد الجهل داعية
هذا سعيد ينادي في الذين عموا ***ان لم يلبوا فكن ممن يلــبــيـه
تجاهلوا البدر في العليا فقل لهم ***والله نجم الثريا لا يـدانـيـــه
بحر من العلم فياح ولا عجب ***اذا للاّلىء ضاءت أنـجـما فـيـه
أما الكتاب فسفر كـلـه حـكـم ***وهل لهم مثله سفر يحاكيه
ما فيه الا الهد للناس أجـمـعـهـم ***لسيد الرسل يعزوه ويرويه
أكـرم بـه من كتـاب فيه بـغيتنا *** من الحقيقة يغزو لب تاليه 
وبعد عام نشر كتابه "كشف النقاب عن أسرار السفور والحجاب" يرد فيه على كتاب السيدة "نظيرة زين الدين" "السفور والحجاب" ودعا فيه المرأة الى ارتداء الحجاب والتمسك به، بالرغم من أنه كان يسمح للنساء بحضورهن لدروسه متحجبات...
وفي العام 1931 أصدر كتابه الرائع "التبيين في الرد على المبشرين" وفيه يوضح خطر المبشرين على العالم الاسلامي وبثهم السموم في صفوف الشباب لنشر الخلاعة وتشجيعهم الانحرافات الفكرية والخلقية والدينية معاً...
وهذه الكتب الثلاثة تم طبعها في حماة بمطبعة الاصلاح لصاحبها الصحفي الوطني الكبير عبد الحسيب الشيخ سعيد.
يتبع