كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ظهور الإقطاع في قرية الطليعي.. منطقة صافيتا

كتب الدكتور عبد الله حنا:

مُجري اللقاء الدارس: سلمان عاصي من المعهد النقابي بدمشق
المتحدث: حسن أحمد عبدالرحمن من مواليد 1900 في الطليعي.
كتب الدارس:
كان جد المتحدث فلاحاً بسيطاً في القرية وتوفي عام 1902، والأب كان فلاحاً بسيطاً أيضاً وتوفي عام 1926، وليس له أولاد سوى المتحدث.أ عبد الله حنا
كانت الملكية قبل عام 1850 في تصرف أهالي القرية توارثوها عن آبائهم والآباء عن الأجداد ولا نزاع بينهم ولا خلاف حول ملكية الأراضي، إذ أنها كانت تكفي وتسد حاجاتهم الضرورية. وكان بحوزتهم الأبقار والأغنام التي تتطلبها المعيشة آنذاك وحراثة الأرض. ونختصر القول بأن المعيشة مقبولة بذلك الحين. وبعد عام 1860 كان قد ترعرع الإقطاعي في أحضان هذه القرية واشتد ساعده حيث كان والده يتربع على الأموال التي لا حصر لها ولا عد، في ظل المقام الشريف المشاد في القرية لسيدنا الخضر. وتولى أمور هذا المقام الشريف بنفسه وكان يسمى بذلك الحين محمد جابر العباس.
{ في مؤلفنا تاريخ الفلاحين خصصنا فصلاً للطليعي وإقطاعيها. وقد قمنا في أوائل ثمانيات القرن العشرين بدراسة ميدانية للمنطقة. وتعود إشادة مقام الخضر "العلوي" إلى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما زار الشيخ خليل النميلي منطقة صافيتا. وكان العلويون يقدمون النذور إلى دير مار جرجس المعروف بدير الخضر وهو في يد الروم الأرثوذكس. لم تُعْجِب الشيخ خليل ذهاب نذور العلويين إلى دير مسيحي. والعبد الصالح الخضر مقدس عند المسيحيين ولدى معظم مذاهب المسلمين، ولذا أقام الشيخ خليل ديراً علوياً للخضر إلى الشرق من الطليعي، وعيّن عليه قيّما محمد جابر العباس. وبفضل أموال الدير تحوّل العباس إلى مالك كبير إقطاعي في الطليعي ومحيطها. وتوارثت ذريته حقوق الإقطاعية وزعامة عشيرة الخياطين حتى مجيء الإصلاح الزراعي عام 1959. }
إذ تمكن من إنشاء عصابة كبيرة جاء بها من القرى البعيدة التي هاجرت نتيجة ظلم الآخرين والتجأوا إلى خدم هذا المقام وتألفت منهم مع الزمن عصابة لا تخاف الله وأغدق عليها العطاء، فأصبحت كالخاتم في يده، وتمكّن بواسطتهم من انتزاع 80 % من ملكية القرية، وتشريد أصحابها واستعمال الآخرين عمالاً وأقناناً في هذه الأراضي، فهاجر الكثير من الأهالي إلى لبنان وعملوا في الزراعة وفي الصناعات المحلية وعمال في البناء وغيره.
وفي عام 1936 استطاع الإقطاعي الجديد جابر بن محمد الجابر أن يستولي على كامل القرية بما فيها البيوت والأهالي وكل شيء ملكاً له، ويسانده في ذلك الحاكم الفرنسي آنذاك كما كان يسانده قبل ذلك الحاكم العثماني. وهكذا تساوى أهالي القرية في الظلم. أصبح "الخولي" المتصرف في أمور القرية والمسؤول التنفيذي فيها، ولا يستطيع أحد من الوصول إلى الإقطاعي أو مقابلته. وكان يأتي بعده "الوكيل" وهو الذي يحدد مواعيد الزراعة والحصاد وجني المحاصيل والمحاسبة عنها، وثم يأتي بعده "الخضري" وهو أدنى مرتبة ويسمى الحارس على الأراضي ويسمح للفلاحين بالرعي إما على الطرقات أو في الجبال البعيدة. وكان يفرض الغرامة على المخالفات، وحتى إذا أخطأ أحدهم ينتقم من أهالي القرية ويجبرهم على دفع الغرامة، وأحياناً تكون الغرامة إحدى الحيوانات التي هي سبب في معيشة أصحابها. ثم يأتي بعد ذلك "العســـس" وهم خدام المنازل والحراس على الإقطاعي. هؤلاء هم زلم( ) الإقطاع وخدمه والسوط ينال رقاب الفقراء والبؤساء، حتى أصبح هذا الظلم مقترناً بالقتل أحياناً، مما دفع 60% من أهالي هذه القرية للهجرة إلى خارج البلاد، وكان أكثرها إلى لبنان وقليل إلى أمريكا.
الإقطاعي تملك الأرض والبيت والناس، وأصبح يفرض عليهم الضرائب. ففي الاعياد يدور العسس في القرية ويجمعون العيدية للإقطاعي من الفقراء وبالقوة، ومن أين لهم؟ ومن أين يأتون بالمال؟
كان إذا تزوج رجل من القرية (إن كان الرجل من داخلها أو خارجها) يدفع المهر للإقطاعي حتى يحصل على عروسته، وكان محدداً آنذاك ( 2 ليرة عصملية).
وكان إذا تشاجر أحد من أهالي القرية مع آخر يطردهم من القرية ويأخذ الدواب وأغراض البيت كلها إذ لا يحق للذي يرحل عن القرية أن يأخذ معه سوى زوجته وأولاده فقط لأن كل موجودات بيوت القرية ملكا للإقطاعي. كان جميع أهالي القرية خدماً عنده لقاء الطعام فقط، وكانوا يحصلون على اللباس من لبنان بواسطة أولادهم الذين يعملون هناك ويرسلون قليلاً من المال لذويهم في القرية. واستمر هذا الظلم بأبشع صوره، حتى كان فريداً من نوعه في تلك المناطق، حيث كان على حدود قريتنا إقطاع من صافيتا وإقطاع الدنادشة في تلكلخ حيث كانا يختلفان عن الإقطاع في قريتنا من جهة الظلم الفاحش. كان عندهم رأفة ورحمة أحياناً.
وفي عام 1958، عند إعلان الوحدة بين سوريا ومصر، حصل انفراج كبير في صدور الفقراء إذ سمعوا أن الظلم قد اقتربت نهايته. وفعلاً صدر قانون الإصلاح الزراعي، إلا أن هذه القرية لا تعرف الحظ مطلقاً إذ أن الإقطاعي -الذي تمكن والده أن يحصل على رضى الحاكم العثماني والحاكم الفرنسي- استطاع هو أيضاً (المسمى منير جابر العباس بدهائه، فكان في المجلس النيابي في حكومة خالد العظم)، أن يجري اللعبة على القانون، وأقدم على تهريب 240 هكتار من القرية بأسماء غرباء عن المنطقة أيضاً، وهما محمد حسن علي (المدير العام حالياً) وأحمد عيد الخير من اللاذقية، وكانا خادمان للإقطاع في ذلك الحين. ووصلت الأمانة عندهم أنهم حرموا الأهالي من هذه المساحات الكبيرة وسلموها لأولاد الإقطاعي فيما بعد في عام 1980، إذ تنازلوا عنها في الدوائر المختصة. وتم توزيع الأراضي المتبقية المستولى عليها من الإصلاح الزراعي، ولكنها وكانت غير كافية للمعيشة. إذاً أصبح الأهالي مجبرين على العمل. وهكذا وبعد عام 1978 عندما عاد أهالي القرية من لبنان بسبب الأحداث هناك، وجدوا بأن الأرض لا تكفي حاجتهم فأصبحت السبل مفتوحة أمامهم للعمل في المؤسسات العامة والشركات، إذ أن 70% من شباب القرية يعملون في الإنشاءات العسكرية والإسكان العسكري والكبلات والمواصلات، عمال طرقات، و30% عمال زراعيين وموظفين وأكثرهم معلمين. المدارس تأخر وجودها في القرية حتى عام 1960، وكانت ثلاث صفوف، وفي عام 1970 أُحدثت الإعدادية. ويتعلم أبناء القرية في ثانوية صافيتا يومياً.
المعيشة قبل 1958 كانت بدائية في القرية، ولولا لبنان وقرب القرية من القطر اللبناني لما وجدت الحياة فيها، إذ أن أهالي القرية كان عليهم الرحيل الأبدي حيث لا أرض ولا عمل ولا شيء يذكر سوى السخرة اليومية صباحاً ومساءاً من الرعي حتى الحطب حتى المياه وكل هذه الخدمات تقع على كاهل أهالي القرية وبالقوة، ولا يجرؤ أحد أن يخالف الأوامر الملقاة عليه. هذا ملخص عن هذه القرية البائسة، ولولا التصحيح وفتح مجالات للعمل لكانت انعدمت الحياة تقريباً فيها.
كانت الهجرة متجهة نحو القطر اللبناني فقط، ولا توجد هجرات إلى بلدان النفط، ولا توجد هجرات إلى أمريكا. وكان لبنان المأوى الحقيقي لأهالي القرية النازحين من الظلم والاستبداد. وضعهم الاجتماعي يقول لا توجد هجرة معاكسة إلا من لبنان بسبب الأحداث، وأصبح ارتباط الأهالي وثيقاً بها، لأنها أرض الأجداد والآباء يتجمعون فيها.
دخلت المدرسة الابتدائية عام 1960، والإعدادية عام 1970، والثانوية لا تزال في صافيتا كما ذكرت. وصلت الكهرباء إلى القرية عام 1981. ووصل طريق الزفت إلى القرية عام 1969. تشرب أهالي القرية من مياه عين مريزة على نهر الأبرش بواسطة أنابيب ضخ وخزانات منذ عام 1969 أيضاً.

لا يوجد حالياً أي نوع من المهر بسبب قرب القرية من لبنان ومن مدينة صافيتا إذ أن النفوس متحررة، على الرغم من الفقر. 

ملاحظة من فينكس: المادة مكتوبة في النصف الأوّل من ثمانيننات القرن الماضي.