كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

في عقل العدو (1 و2).. أنظر لعدوك بعين نفسه

رند وهبة

1

أن تعرف العدو، هيكليته، وضعيته، ظروفه، امكانياته، استعداده وغيرها من المعطيات المادية، لا يعني أنك تستطيع التنبؤ بخياراته وتوجهاته خصوصا في ظل التضليل العميق للنوايا وتعقيدات العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية، علاوة على ظهور مستجدات اقتصادية وعسكرية وجيواستراتيجية تنسف قواعد اللعبة المعمول بها بعد أحادية القطب.

منذ بداية طوفان الأقصى وعدد كبير من المحللين ينطلقون من مسلمة أن أميركا لا تريد حربا اقليمية وأن نتنياهو يجرها جراً للمواجهة ضد المحور بأكمله وصولاً للجمهورية الإسلامية في إيران، وأن اللوبي الصهيوني ببضعة ملايين يتحكم بأميركا ويستطيع اضرار خطط ومصالح بترليونات الدولارات، وأن الإدارة الأمريكية تخشى من الضرر الذي ستلحقة همجية العدو بالانتخابات وغيرها الكثير من القضايا المضللة وأنصاف الحقائق.

إلا أن التصعيد الأخير ابتداءً من مجزرتي الثلاثاء والأربعاء واستشهاد القائد “الحاج عبد القادر” جعل عدداً من محللينا يدق الناقوس ويعلن أننا لا نفهم عدوينا الأمريكي والصهيوني جيدا.. وهذه السلسلة هي محاولة لفهم تكوين هذين الكيانين وتطور علاقتهما.

المعرفة والفهم

الفارق الجوهري بين المعرفة والفهم يظهر لدى أي جهة عندما تذهب لما يسمى بتقدير الموقف، حيث لا تكفي المعرفة والاحاطة بكل ما هو ملموس من امكانات واستعداد، لأن التنبؤ بنوايا العدو المستقبلية بحاجة إلى معرفة وفهم عميق لمنظومته الفكرية وطريقة اتخاذ القرار لديه والجهات والشخصيات الفعلية التي تتخذ القرار والاحاطة بإدارته لشبكة مصالحه والصراعات الداخلية بينها، اضافة إلى الاحاطة بالوقائع الميدانية.

وحتى كل هذا لا يكفي ولا يحقق القدرة على تقدير الموقف، الموضوع يحتاج أيضاً إلى شخص لديه قدرة وخبرة عالية على التحليل والربط والاستنتاج وعملية التقدير نفسها وآليتها. هذا الشخص يجب أن يمتلك القدرة على التفكير بعقل العدو ومنظومته القيمية، ليس الأمر ببساطة التقليد السطحي بل يجب أن يتقمصها ويفهم المنظومة الاخلاقية للعدو والتي تمتد بحالة الغرب الجماعي إلى الامبراطورية الرومانية.

يضاف الى ما سبق خبرة التحليل والقدرة على استيعاب تجاوب عقل العدو مع المتغيرات كبرت او صغرت بالايجاب او السلب تدريجية كانت أم مفاجئة، والاهم ان تفهم ما يعنيه هذا المتغير أو ذاك لديه ولمنظوماته، بمعنى أن تأثير المتغير يخضع لعوامل غير مادية عديدة تختلف من متلقي لآخر يجب أخذها بعين الاعتبار.

انظر لنفسك بعين العدو

من المسائل المفصلية المهمة أيضاً معرفة وفهم الذات، وأن تفهم كيف ينظر اليك العدو في ظل الظروف والبيئة الداخلية والاقليمية. وفي حالة جبهة الإسناد اللبنانية قرأ العدو بعناية حرص المقاومة الاسلامية على المدنيين، وسعيه الدؤوب لإلحاق أكبر أضرار ممكنة بكيان العدو بأقل الأثمان على لبنان الدولة والشعب على مدى عام كامل.

كما قلدها في سياسة “تسخين المياه على الضفدع”، فبينما كانت المقاومة تصعد في المدى والأسلحة ونوعية الأهداف بشكل بنائي منهجي يتجاوز رد الفعل، بدأ العدو يصعد بشكل بنوي منهجي منذ اغتيال القائد الشهيد “وسام الطويل”. وحاول العدوان الأمريكي والصهيوني الاستفادة من مسرحية الخلاف والمفاوضات لشراء الوقت ولجم المقاومة لمنعها من استخدام أقصى قوتها حرصاً على مسار التهدئة المزعوم. هنا علينا أن نشرح تصعيد العدو بعقليته البنيوية فهو يهدف لضرب المقاومة هيكلياً من جهة وأن يهدم أسطوريتها من جهة أمام نفسه وأمام جمهورها أيضاً.

يعتقد العدو أنه بضرب المقاومة عموديا وأفقياُ (استهداف شبكي أفقي: حيث أن الشبكة -شبكة الربط- أهم من مجموع الأفراد وبدل أن تصطاد كل سمكة على حدة من الأجدى أن تسمم المياه) وأنه باغتيالاته بالتدرج القيادي للحزب قد ضرب المقاومة ضربة عمودية قاصمة، وأثره النفسي مرفقا بالقصف المكثف للجنوب وموجة النزوح التي لحقته يضع العدو في مكان يظن فيه أنه يستطيع تجفيف البيئة الحاضنة للمقاومة وكسر عزيمة المقاومين، يضاف اليه ضرب المقاومة لوجستياً (1) باستهدافه خط الإمداد السوري على أكثر من مستوى سواء أكان بتركيز الغارات على السلسلة الشرقية (2) أو قطع الطرق والأهم إعادة تفعيل المشروع التكفيري داخل سوريا.

انطلاقاً من هذه المعطيات نفهم أن العدو ذاهب إلى الحرب الشاملة بأقصى إمكاناته لتنفيذ المشروع الأمريكي المتجدد في المنطقة، ونفهم اندفاع العدو العنيف لما يعد قمة الجنون: التوغل البري في لبنان، ولتوضيح هذه المسألة لننظر إلى غزة، لقد تجنب الجيش الصهيوني التوغل برياً في غزة منذ العام 2014 والدرس الأليم الذي تلقاه في الشجاعية، مع ذلك وبعد قصف سجادي للقطاع استمر لأسابيع بدأ عملية التوغل البري التي تكبده الخسائر القاصمة على كل المستويات (الجنود والضباط، والآليات، والمعنويات وسمعة استخباراته وعقل قادته) كلها مرغت يومياً في غزة ومع ذلك فلم ينسحب العدو.

ودون تكرار كل التحليلات الصحيحة حول ساحة لبنان وكم هي أكثر فتكا لجيشهم بمئات المرات، يجب أنه نفهم لماذا يذهبون مسلمين مع سبق الإصرار والترصد إليها؟ الجواب يمكن فهمه من ساحة أوكرانيا، فالامبراطورية مستعدة بالتضحية بآخر صهيوني ومعه جيوش المرتزقة، للحفاظ على مصالحها. قد يستغرب البعض هذا التحليل ولكن فهم طبيعة العلاقة بين الكيانين تؤكد ذلك (هذه السلسلة ستحاول تفسيرها).

فهم العدو الخاطئ لنا يحول انجازاته الاستراتيجية الى ورطات استراتيجية، فهو بعد أن مارس أقصى ما عنده لضرب أسطورة حزب الله وسحقه، تجده يكمل المواجهة والتصعيد بدون أن تهتز له شعره، تلقى الحزب ضربات تقصم ظهر دولاً عظمى ولم يتزعزع لا قيادياً ولا عسكرياً ولا ظهرت بيئته منكسرة أو مترددة برغم كل المعاناة والألم، خلق العدوان الصهيوني على لبنان أسطورة جديدة لحزب الله الجبار بل المعجزة الذي يقوم من تحت الرماد ويقاتل ويقاتل ويقاتل حتى ينتصر.

نافذة الفرص

أيضاً من الأخطاء التي تتكرر لدى المحللين مقولة أن طوفان الأقصى تسبب في انقلاب جذري في العقيدة العسكرية الصهيونية المتحيزة للحروب القصيرة، إلا أن الحقيقة هي أن العدو كان قد عدل هذه القضية من سنوات مع ما سماه بخطة الزخم متعدد الطبقات، حيث اعتبر العدو أن الحروب القصيرة الأجل تأتي بمفعول عكسي حيث تؤمن لحركات المقاومة جرعة تكون مناعة ضد قدرات العدو وتوحشه، تحول بهذه الضخامة في العقيدة القتالية الصهيونية لا يجب أن يمر مرور الكرام، فهو ليس رأي قائد أو طبقة سياسية بل هو تحول في المشروع بأكمله مسبق التصميم تراعى لأجله الخطط والاستعدادات ويتخذ على أعلى المستويات وفي أعمق مراكز القرار الصهيوني والأمريكي.

ان تجهيزات العدو لمواجهة اقليمية شاملة لخلق “شرق أوسط جديد” لم تتوقف منذ حرب تموز، إلا أن طوفان الأقصى حشر الكيان المؤقت في الزاوية كوحش مفترس ولكنه أتى أيضاً بتغير جذري ونافذة فرص لا تفوت بالنسبة له تتمثل بوضع المجتمع الصهيوني تحت الأمر الواقع، واقع الحرب، التهجير والقصف وغيرها من مآسي الحرب التي لا يحتملها مجتمع العدو، لذلك وبما أن ما يخشونه قد حصل وأصبح أمراً واقعا، وأن انتهاء الحرب سيفجر المجتمع الصهيوني من الداخل ولن يستطيع أحد أن يجره لهذا الخيار مجددا بعد انتهاء الحرب، أصبح من اللازم على العدوين الصهيوني والأمريكي، تغيير الشرق الأوسط “الان الان وليس غداً”، فتوجه لفرض حرب وجودية على المحور، مع فارق بين الوحش المحشور في الزاوية والطرف المفروض عليه الحرب الوجودية في “برود العقل وحرارة القلب”: حيث يقاتل المحشور بقلب قاس وعقل مشوش بينما الطرف الأخر يقاتل بعقل بارد وقلب ملتهب.

حرب طويلة بنفس قصير

تتميز الحروب الأمريكية بدورها – من بعد الحرب العالمية الثانية- بعمرها الطويل، وليس لدى العدو الصهيوني معلمٌ أفضل من أميركا في هذا النمط من الحروب، وهنا التعلم اجباري، ففي النهاية يعتمد العدو على الأمريكيين استخباريا وتدريبيا والأهم تسليحياً، ولذلك على نمط حروب عديدة تعد حرب العراق أوضحها في مخيلتنا، فالعدو يبدأ الحرب بأقصى ما لديه من إمكانات وعنف، يبدأ بالضربة القاضية ثم يكمل الحرب وهو يصارع للحفاظ على الإنجاز عالي التكلفة والسقف.

وبهذا المعنى تفقد الحرب الطويلة جدواها، حيث أنه يلقح المقاومة منذ بدايتها ويعطيها مناعة لأقصى قدراته و توحشه، بينما تستمر المقاومة بالتصعيد والتوسع بنفس طويل لا يمكن أن ينقطع كما يحصل اليوم في غزة.

هذه السلسلة تحاول تقديم عرض معمق لهذين الكيانين وما يلحقهما من الغرب الجماعي أضعها للقراء عموماً ولاصحاب الاختصاص للاستفادة منها، وهي تنطلق من أبحاث متصلة بثلاث محاور:

الدولة العميقة الأمريكية (نشأتها، تكوينها، علاقات المصالح وموازين القوى وآلية صنع القرار والنقلة الخطيرة الأخيرة في بنيتها ومرتكزات قوتها الثلاث: البحار، المال والسلاح)

العلاقات الاستعمارية الداخلية (جدلية المركز والأطراف بين الكيانات الاستعمارية من منظور تاريخي ومنظور السوسيولوجيا المكانية)

تطور العلاقات العسكرية بين أمريكا والعدو الصهيوني وأطواره والتبعات الاستراتيجية لهذه الأطوار

1- يقال أن هتلر عندما خطط لغزو ستالينغراد أقر له مستشاروه بأنهم قادرون على احتلالها ولكنهم غير قادرين على الحفاظ عليها، لسبب بسيط: سكك الحديد الألمانية تختلف بعرضها عن تلك الروسية وبالتالي، فإن الامداد البري متعذر، وأما الامداد الجوي فهو مكلف ومتقطع. لهذا تعد القضايا اللوجستية وتأمين خطوط الإمداد المسألة الأكثر احترافية في الحروب، خصوصاً تلك الطويلة منها.

2- هنا يجب أن نلحظ الدور البريطاني سواء أكان يتعلق بأبراج المراقبة على طول الحدود أم الاتفاقية الأمنية المريبة التي عقدت مؤخراً مع الجيش اللبناني.
2

اللايقين يبدو سيد الموقف والمجهول، في أكبر المتغيرات في المعادلة الدولية. هكذا يبدو المشهد لمن ينطلق من مسلمة أن أميركا لا تريد حرباً اقليمية، أو أنها تخاف على كيان العدو من شر نفسه أو من مغالطة أن الانتخابات الأمريكية تؤثر في السياسة الخارجية الأمريكية.

كان التقدير العقلاني الأرسطي لرد فعل العدو على طوفان الأقصى يملي بحتمية عدم التوغل البري في غزة، وها نحن تجاوزنا العام والعدو يصر على التورط برياً في ساحة أشد وأدهى هي لبنان. وهذا يعني أن هذا المنطق غير دقيق لتفسير وتقدير نوايا العدو.

منذ استشهاد القائد الشهيد السيد فؤاد شكر والجدل حول نوايا العدو يزداد استقطاباً، فريقٌ يعتقد أن العدو الصهيوني لن يوسع الحرب ويبني حجته على مبدأ الردع وآخر صغير ينظر لأن العدو يعد العدة للمواجهة الشاملة، والردع موجود بالفعل ولكن نحن هنا ننظر لنصف الكأس الملآن، لتكتمل الصورة علينا أن نفكر بمنطق العدو وهو منطق المقامر الذي لا تهمه الخسائر القادمة بقدر المغامرة أملاً في تعويض الخسائر القائمة.

والصهيوني لا يقامِر بقدر ما يقامَر به من السيد الأمريكي، هذا الرأي على قلة مريديه موجود لدى معسكري الحرب، ومنهم الصهيوني اران اديليست الذي يرى أن “اسرائيل” تورط نفسها لأنها أصبحت مقاول اغتيالات للولايات المتحدة الأمريكية، وأنها مرتهنة للمصالح الأمريكية بشكل يجرها إلى الهاوية. ستضحي أمريكا بآخر صهيوني لتحقيق مصالحها اذا لزم الأمر وسنكون مخطئين إذا ما ظننا أن حياة الصهيوني أثمن من حياة الأوكراني لديه، ولمن يعتقد أن أهمية كيان العدو الجيواستراتيجية هي ما تمنع أميركا من دفعه لهكذا مغامرات فهو لم يفهم حرب تموز جيداً ولا يعرف تعقيدات العلاقات الاستعمارية، ولذلك فأنت مدعو الى متابعة سلسلة “في عقل العدو” إلى نهايتها.

حجر العقد وثالوث مقدس

الموضوع الملح الذي سيناقش هنا هو ما ستخسره الإمبراطورية الأمريكية إذا لم توسع الحرب، أو لماذا تقامر أمريكا بإغراق حاملة طائراتها التي لا تغرق في حرب إقليمية شاملة؟ الإجابة هي أن ما ستخسره في حال عدم توسعة الحرب أكبر بكثير مما ستخسره في المواجهة الإقليمية الشاملة (بمنطق حساباتها)، وهو عمادها الإمبراطوري المثلث الذي تتكئ عليه لفرض هيمنتها على العالم: السلاح، المال والبحار. وكيف ينعكس تهديد هذه الثلاثة على الحرب اليوم خصوصاً فيما يتعلق بالاعتداء الصهيوني المرتقب على الجمهورية الإسلامية في إيران.

قبل الخوض في كل عنصر من عناصر الهيمنة الامبراطورية، من الضروري فهم معضلة أميركا المضاعفة التي تكمن بأن ثالوثها الامبراطوري المقدس -المدنس- هذا يتكئ على بعضه بعضاً وكل طرف فيه يعمل كحجر العقد أو مفتاح القنطرة الذي إذا ما تحرك يسقط السقف بأكمله.

ان تفاعل السلاح، المال والبحار يذهب لما هو أعقد من ذلك، فكل واحدة منها تشكل الغاية كما تشكل الأداة (أو المادة -المدخل الأولي) والوسط (1) لتحقيق العنصرين الآخرين في آن، بمعنى: تشكل البحار الأداة والوسط الفيزيائي (2)، الذي تسيطر فيه الإمبراطورية على العالم اقتصادياً وعسكرياً، بينما يشكل المال “الدولار” الأداة والوسط التبادلي الذي تسيطر فيه على الاقتصاد العالمي من جهة والذي ترهن فيه الدول وتخضع لأجل صفقات الأسلحة (3)، ويشكل السلاح الاداة والوسط القيمي الذي تخضع تحت سطوته اقتصادات الدول وبحار العالم.

البحار.. إنّي أرى رؤوساً قد أينعت!

الأصل في العقيدة الامبراطورية الامريكية منذ أكثر من قرن هو محاصرة بحر الصين، لأن الأمريكيين بحساباتهم كانوا ينظرون لشرق آسيا على أنها منجم الثروات لكل الصناعات وأن السيطرة عليها يجب أن تحصر بهم وحدهم، لحصد الثروات من ناحية ولمنع الخصوم والحلفاء من الاستفادة منها ومنافستهم، بحسب نظرية ميرشايمر حول السياسة الخارجية للدول العظمى، فإن أميركا تشعر بالتهديد لصعود أي قوة اقليمية تفرض نوعاً من السيادة على البحار المحيطة بها، لأن ذلك سيعد تهديداً لحرية الملاحة البحرية الأمريكية فتعريف هذه الحرية بالنسبة لهم هي أن تكون أميركا سيدة البحار الوحيدة وأن تفرض إرادتها عليها بشكل منفرد.

أما السبب الثاني والأهم لأولوية بحر الصين -وهذه النظرية بدأت في الوقت الذي كانت الصين فيه في قاع قرن الإذلال القومي تحت عدد من الاحتلالات- يتمثل في القوة الكامنة للشعب الصيني الذي يتسيد مساحة شاسعة من الأرض ذات الأهمية الاستراتيجية، ويمتلك بحسب ألفرد ماهان ثقافة متجانسة تجعله تهديداً مهولاً للغرب إذا ما تمكن من العلوم الغربية، بالفعل لقد كان ماهان رؤوياً، وقد استشرف صعود التنين الصيني بدقة.

وتعد الاستدارة الكبرى الى الشرق في عهد أوباما أهم مصداق على تبني الدولة العميقة في أميركا لنظرياته. وهكذا فقد كانت قراءات المحللين حول حتمية خروج الأمريكيين من غرب آسيا والتفرغ للصين دقيقة في حينه، إلا أن متغيرين أساسيين فرضا نفسها على الساحة.

الأول هو التنافس المحموم بين الغرب وعلى رأسهم اميركا والصين وروسيا على إفريقيا لكونها أكثر خطراً كمنجم ثروات لصناعات الثورة الصناعية الرابعة4 الأمر الذي ترجم بانقلابات وحروب أهلية على امتداد منطقة الساحل الافريقي من النيجر الى السودان، ومن المرجح أن تتسع الصراعات هنا، الثاني والاهم هو دور اليمن في طوفان الأقصى من جهة في فرض سيطرته على هذا البحر الأحمر دعماً لغزة، ولكنه في الوقت الذي يقطع فيه الإمدادات عن العدو الصهيوني فهو يفرض نفسه كقوة اقليمية تفرض سيادتها على بحارها المطلة على أحرج مناطق التنافس الدولي اليوم: البحر الأحمر وأهم المداخل الشرقية للكوريدور الخطير الذي يشق افريقيا أفقيا والمسمى بالساحل! فما بالنا إذا ما أضفنا أن يد اليمن تطال المحيط الهندي وتهدد مشروع ممر الهند الاقتصادي التطبيعي الذي لملمته أميركا على عجل للحفاظ على حلفائها الخليجيين وتجنيدهم مع الهنود والصهاينة لمواجهة الصين! أضف إلى ذلك تطور قدرات المقاومات اليمنية والعراقية واللبنانية في فرض إرادتها على شرق المتوسط، نحن لا نتكلم فقط عن كسر سيادة أميركا على البحار أمام خصوم كالصين وروسيا، بل فتح الباب لهم لمنافستها في أفريقيا منجم الثورة الصناعية الرابعة (4). كل هذه العوامل تجعل من الإستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة “الاندوباسيفيك” والتوجه شرقاً نحو الصين، غير مجدية وتجعل من بحارنا الأهم في الصراع العالمي لكسر الامبراطورية الامريكية.

السلاح.. سمعة الإمبراطورية على المحك!

للمرة الأولى في تاريخها أصدرت أميركا العام الماضي ما يسمى بالاستراتيجية الوطنية للصناعات الدفاعية، وهذا أمر جلل لكونها وثيقة صادرة عن وزارة الدفاع، وتسعى لأن تقوم الحكومة الأمريكية بشكل مركزي بالقيادة والتخطيط والإدارة للصناعات العسكرية.

هذه مسألة تبدو طبيعية بل بديهية لأي دولة، إلا أميركا التي تلعب فيها شركات السلاح الخاصة دور القائد والمدير وتكون فيها وزارة الدفاع زبون وزبون خاضع في أغلب الأحيان، والتحول المهول (5) الذي دفع الأمريكيين لنشر هذه الوثيقة، ورد في مقدمتها: الحرب في ساحات فلسطين وأوكرانيا. لماذا؟ بسبب الرأسمالية (وهذا سيتم توضيحه في المقالات المقبلة).

بحسب الوثيقة فإن هاتين الحربين أظهرتا عيوباً مزلزلة للصناعات العسكرية الأمريكية تستدعي التغييرات الجذرية، وأهمها: تشرذم سلاسل التوريد وسيطرة الخصوم على موارد وتكنولوجيا استخراج المواد الأولية الحرجة، بطء الإنتاج وطول زمن الاستبدال، تضخم الأسعار الجنوني، ارتفاع كلفة اليد العاملة وشحها وشح الخبرات فيها، ولكن اهم من كل ذلك والذي لا يجرؤ أحد على التفوه به هو سقوط سمعة السلاح الأمريكي مقابل أسلحة الخصوم الروس والصينيين والإيرانيين وكل أطراف محور المقاومة لناحية سرعة الإنتاج، انخفاض الكلفة والفعالية في الميدان.

وهنا خطورة ثنائية الأبعاد، يفقد السلاح الأمريكي أسواقه وما يعنيه ذلك من انعكاسات على عنصري المال والبحار، والأخطر هو أن يفقد سمعته وقدرته على الردع (6)، فالأمريكيون ينظرون بجزع وهم يرون منظومات الدفاع الجوي الأمريكية (7) تفشل أمام كل حركات المقاومة العربية والايرانية بمختلف أسلحتها من الصواريخ الفرط صوتية والبالستية الى المسيرات الرشيقة منخفضة التكلفة، أو حين يرون الصينيين يراقبون أنصار الله وهم يسيطرون على البحر الأحمر ويهزمون الأساطيل الأمريكية وتوابعها، تارة بالبالستي وتارة بالاشتباك المباشر والسيطرة على القطع البحرية عبر زوارق سريعة. ينظر الخصوم الكبار لأميركا وسلاحها يذل ببساطة وهي عاجزة عن حمايته ونفسها.

بالتالي لا يمكن للأمريكيين السماح بهزيمة سلاحهم على أيدي حركات المقاومة مجتمعة أو منفردة، وجدية الاندفاع الأمريكي لتوريط العدو في حرب إقليمية مع إيران تتأكد مع نشرها لمنظومة ثاد للدفاع الجوي في النقب المحتل مع مئة جندي أمريكي. وهي المرة الأولى التي ستستخدم في صراع حقيقي، وفي الوقت الذي تطال فيه المنظومة أطراف خصوم كروسيا والصين، تدور التحليلات حول اتساع نطاق الأسلحة الجديدة باستخدام أسلحة صينية وروسية لا من باب الدعم المحض ولكن لانتهاز الفرصة واختبار القدرات بشكل واقعي دون الخوض في مواجهة مباشرة. وبالتالي فإن العم سام لا ينقذ اسرائيل بالسلاح الأمريكي، بل أن كيان العدو يدافع عن السلاح الأمريكي بالمزيد السلاح الأمريكي.

المال.. يمكنك طباعة العملة ولكن لا يمكنك طباعة القيمة!

التحول الأخطر الذي تخوضه أميركا في الداخل والخارج في آن هو دينها الداخلي.. فمع بداية الحرب على “الإرهاب” والدين الامريكي في تضخم، ولكنه كان مضبوطاً لأن اميركا كانت تطبع الدولارات والسندات بدون فوائد تذكر، إلا أن السنتين الماضيتين شهدتا انقلاباً تمثل برفع سعر الفائدة لرفع الطلب على الدولار والسندات والأصول الأمريكية ولجم سعر الذهب الذي تخزنه القوى الصاعدة في العالم لفك هيمنته عملة الامبراطوية.

نتج عن ذلك مضاعفات عديدة خطيرة على الاقتصاد الأمريكي أهمها ارتفاع خدمة الدين سنوياً بقيمة 400 مليار دولار لكل نقطة. ولتقريب الصورة على الأمريكيين القيام بصفقة قرن سنوياً مع حلفائهم مقابل كل نقطة، رفع سعر الفائدة بنقطتين يعني صفقتي قرن سنوياً! بطبيعة الحال حتى حلْب كل الحلفاء لن يأتي بهذا العائد والنتيجة هي ارتفاع الدين الامريكي بقيمة تريليون دولار كل ثلاث إلى أربع أشهر!

المعنى الأعمق لهذه الأزمة والذي سيغير أميركا بنيوياً هو ارتهان السلطة التنفيذية بشكل شبه شهري للسلطة التشريعية، لأن الرؤساء قبل بايدن كانوا يحتاجون موافقة الكونغرس مرة أو مرتين على الأكثر خلال الفترة الرئاسية لرفع سقف الدين، ولكن كما شهدنا في إدارة بايدن فإن الأزمة مزمنة ومتواترة، وتعطي القدرة للكونغرس على التدخل في تفاصيل السلطة التنفيذية. يبدو هذا الكلام تفصيلياً ولكنه خطير بالنسبة للدولة العميقة التي تضع ثقلها في السلطة التنفيذية تاريخياً.

من المؤكد أن الدولة العميقة الأمريكية لن تترك الأمور على عواهنها، ويجب عليها اعادة القيمة للدولار بدل الاستمرار في طباعته، أما كيف فهنا لا ملجأ لنا للاستشراف سوى التاريخ، الذي قد لا يتكرر بشكل متطابق إلا أن آخر مرة سقط فيها الدولار هذا السقوط المدوي نتيجة الاستنزاف في حروب الهيمنة، والصرف العسكري المفرط والمتضخم (8)، شهدنا فك الارتباط عن الذهب وصعود البترودولار وعلاقة هذين الحدثين بقطع النفط السعودي عقب حرب أكتوبر.

غالباً ما يذكر بتغييب اللاعب والمستفيد الأهم في هذه اللعبة وهو من كان رأس الدولة العميقة (ديفيد روكفيلير ومساعده هنري كيسنجر، (ومن المعروف أنهما التقيا أنور السادات قبل الحرب بأيام). العبرة هنا أن صراعاً اقليمياً وحصراً للنفط تمت إدارته أمريكياً لإعادة الاعتبار لاقتصادها المالي، في ذلك الوقت لم يكن الدولار بذات القيمة والقدرة الجيوسياسية ذاتها وفعلت كل ذلك لإنقاذه، فماذا تفعل اليوم وقد أصبح أحد أكثر أسلحتها فتكاً وأهم وسائط فرض الهيمنة. ماذا ستفعل أمريكا لانقاذه؟ أي شيء بالطبع، ولكن ما هو بالضبط؟

الحقيقة أن لا اجابة واضحة، ولكن في الميدان الأوروبي متغيرٌ ضخم كشر عن أنيابه: تعطش أميركا لتصدير الطاقة، وهي كما نعلم من أكبر المنتجين في العالم، ولكنها أيضاً أكبر المستهلكين. الأمر الذي وضعها دائماً مؤخرة مصدري النفط. ولكي ترفع من قدرتها على التصدير تحتاج لعاملين:

الأول، رفع الأسعار لتصبح مصادرها الصخرية مجدية اقتصادياً.

ثانياً، تحتاج إلى أن تعطش الاسواق بشكل حاد، بمعنى أن تفنى البدائل، كما فعلت مع حلفائها الأوروبيين بقطع كل الإمدادات الشرعية الرخيصة لهم من النفط الروسي.

هذه المعطيات تعزز فرضية دفع أميركا للعدو بأن يضرب منشآت النفط الإيرانية -وإن لم يتم ذلك بالضربة الأولى- كثيرون يستبعدون هذا الاحتمال نظراً لخطورته على النفط الخليجي، ولكنهم يستندون هنا الى حسابات ومنطق ربما قد أصبح من الماضي.

تريد أميركا زج الخليج في المواجهة ضد إيران اليوم، وعلاوة على ضرب إيران اقتصادياً ستفيد أزمة النفط الدولية في رفع مكانة أميركا كمصدر للنفط، ولقطع إمدادات النفط لعدوها اللدود في الصين، ولتعيد أميركا فيلمها الطويل مع صدام لكن هذه المرة بلكنة خليجية.

هذا السيناريو يهدف لاعادة رسم العالم ومنطقه ومعادلاته وقوانينه وليس فقط المنطقة. قد يبدو هذا عكس كل ما تعلمناه ودرسناه عن أميركا ومصالحها وكيفية عملها، إلا أن هناك مؤشرات كثيرة ترجح هذه الكفة وقد تثبت صحتها في المستقبل القريب.

“لا تدع كارثة جدية تذهب هباءً”

ناقش المقال السابق نافذة الفرص لناحية انكشاف الجبهة الداخلية، لكن بالنسبة للأمريكيين هناك نافذة فرص اضافية اكثر حرجاً وأهمية وهي أن هذه الحرب بقيادة بنيامين نتنياهو وليس إيهود أولمرت المتردد في حرب تموز، ونتنياهو بعد الطوفان ليس نفس الرجل الذي كرس حياته السياسية لجر أميركا وحلفائها لمواجهة إيران، اذ أدرك مع الطوفان أن اميركا لا تدافع عن أحد وعليه أن يقاتل عن نفسه وعنها.

بل هي تملك حقاً حصرياً بالتضحية بالآخرين: الحلفاء على وجه الخصوص. وينظر الأمريكيون للقيادة الصهيونية بأنها اليوم في قمة سكرها ونشوة الانتصارات التكتيكية وسهلة الانقياد كما أنها مرتهنة لأميركا بشكل غير مسبوق. الاندفاع الصهيوني لتنفيذ حرب اقليمية أمريكية شاملة في المنطقة لا يمكن قراءته فقط من خلال محللين مستائين من امثال اران اديليست، بل من خلال مقالات كثيرة منها ما قاله الون بن ديفيد حول الضربة الصهيونية المرتقبة ضد ايران، يبدو كلامه متحفظاً وانهزامياً ولكن ما يقوله في العمق، الضربة بالضربة لن تفيد، علينا القضاء على ايران مرة والى الأبد.

هنا يبدو الجمع المعادي في قمه زهوه وعنجهيته، وقد نكون مخطئين إذا ما قللنا من قدرة الأعداء على القتل والتدمير والإرهاب، ولكنهم لا يفهمون شعوبنا العصية على كي الوعي واستشراقهم المتعالي ضدنا يعمي عيونهم، وكما ناقش المقال السابق فكرة أنهم من حيث لا يدرون يخلقون قاتلهم، وعندما يقول الشيخ نعيم قاسم لشعوبنا “ونحن من سيمسك رسنه ويُعيده إلى الحظيرة” فهو يصف واقع الميدان والصراع أدق توصيف، وهم يعتقدون بأنهم سيسحقوننا بالحديد والنار ولا يعرفون أنهم يولدون أمتنا من جديد تحت هذا الضغط الكوني تماماً كما يصنع الألماس!

1- هنا يجب الإحالة إلى نظرية الشبكة والفاعل، تفوق أهمية الشبكة على اهمية الفاعلين للتأثير والسيطرة.

2- تعلمت أميركا هذا الدرس الامبريالي من الامبراطوريتين البريطانية والرومانية وكان ألفريد ثاير ماهان هو من نظر لكون هذه الهيمنة هي الأكثر حيوية وحرجاً للسيطرة والتوسع، وتعد الحرب الاسبانية الأمريكية نهاية القرن التاسع عشر أول مصداق وتطبيق لنظرياته وتطلب من اميركا التخطيط والصراع لمدة سبعين عاماً لتبدأ هيمنتها البحرية في العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية.

3- يعتبر الباحث مايكل هدسون أن هيمنة الدولار والمؤسسات المالية الدولية وأنظمة الإقراض لدول العالم الثالث مدخل أساسي لمبيعات السلاح الأمريكية، لكون الأنظمة التابعة مالياً للأمريكيين تمر بمسار تدمير ذاتي اقتصادي واجتماعي يستلزم بالنهاية التسلح الأمريكي خوفاً من فقدان الشرعية الداخلية واستعداء دول الجوار، وهذا ماثل لدينا في المنطقة في دول مثل العراق وإيران ومصر أو حتى السعودية الامارات. وهذا التسلح ليس نتيجة عرضية، بل نتيجة مأزق مسبق التصميم تنصبه أمريكا لحلفائها.

4- بدأت الدولة العميقة الامريكية بتنظيم عملها أول الأمر بعمل دراسات محاسبية حول العناصر الأكثر حرجاً لصناعات الأوليغارشية الأمريكية بين الحربين العالميتين، وتطور الأمر مؤسسياً ليظهر على شكل التقرير السنوي للعناصر الحرجة على الامن القومي الامريكي، قراءة هذا التقرير وفهمه يمكن المرء من رسم خطوط الصراع الامريكية انطلاقاً من جيوبوليتيكا المواد والذي يؤكد أن أفريقيا هي درة التاج التي ستقتتل القوى العظمى للسيطرة على ثرواتها.

5- من مصاديق التحولات الجذرية في العقيدة العسكرية للغرب الجماعي أيضاً وعدوانيتها، انقلابها على مبدأ الشعوب البيضاء المرفهة وما صدر في الإعلام ومراكز التفكير من ضخ لفكرة ضرورة اعادة التجنيد الإجباري لدول الأطلسي وحلفائهم.

6- عندما ضربت امريكا قنبلتي هيروشيما وناغازاكي لم يكن ذلك لإخضاع اليابان، فكما ثبت في السنوات الماضية، قام الأمريكيون بهذه الجرائم للجم طموحات السوفيات الحلفاء حينها في تقاسم كعكة نصر الحرب العالمية الثانية، لم يكن أداء الأمريكيين العسكري جيداً بأي مقياس من المقاييس إلا أنها فرضت وحسمت إرادتها بالسلاح النووي لتحقيق شيء واحد: السمعة ثم السمعة ثم السمعة وها هي سمعة السلاح الأمريكي اليوم تمرغ على مدى ساحات الطوفان بانه غير مجدي لفرض أي إرادة وحسم أي معركة بل هو بحاجة لمن يدافع عنه.

7- الدفاعات الجوية الصهيونية بكل طبقاتها هي أمريكية التطوير والتمويل والصنع وهو ما سيناقش في المقالات القادمة إلى جانب تعقيد العلاقات العسكرية بين الطرفين، وكيف أضرت هذه العلاقات بكيان العدو بنيويا واجتماعيا واقتصاديا.

8- تستثمر الدولة العميقة الأمريكية في الكونغرس في لجان الخارجية والدفاع والتسلح والمالية بشكل دائم ولجان خاصة أخرى عند الحاجة فقط.

9- وهو اليوم أكثر تغولاً اذ تقارب ميزانية الدفاع الامريكية ال900 مليار دولار- دون ذكر بنود الصرف السرية.
موقع المنار