كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

60 عاماً.. 8 آذار انقلاب أم ثورة؟

أُبي حسن- فينكس:

ذكر القيادي البعثي الأسبق الأستاذ مروان حبش، أن القيادي البعثي عبد الكريم الجندي (و هو أحد الذين شاركوا في حركة 8 آذار 1963) قال: "إن ما قمنا به هو انقلاب، و يحتاج إلى الكثير كي يصبح ثورة". و عملياً ما قاله القيادي الأسبق "الجندي" سيؤكده المؤتمر القطري الأول الذي عقد في أيلول عام 1963.

و كي يتحوّل الانقلاب الذي أُعلن عنه سنتذاك ببيان على الشعب إلى ثورة حقيقية، وفق ما يذكر لي أ. حبش، أتى المؤتمر القومي السادس لحزب البعث و الذي استمر من 5 حتى 23 تشرين الأول 1963،  ليباشر بتحويل الانقلاب الى ثورة من خلال البرنامج الذي أقره و المنطلقات النظرية التي اعتمدها من خلال مفاهيمه للوحدة و الحرية و الاشتراكية، و إقراره للمنهاج المرحلي الذي حدد الملامح السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية لسوريا خلال الفترة التي أعقبت 8 آذار، و هو ما أكده أيضاً  المؤتمر القطري الاستثنائي للحزب الذي عقد في حزيران 1965.. و بناء على المنهاج المرحلي تم وضع الخطط الخمسية المعروفة..

إذاً، حتى الذين قاموا بيوم الثامن من آذار عام 1963 لم ينكروا أن ما قاموا به كان عبارة عن انقلاب له أهدافه الواضحة، و يقيني أنه كان انقلاباً على الرجعية و التخلّف و إقصاء غالبية الريف السوري، و انقلاب على هضم حقوق الطبقة العاملة ناهيك أن الفلاحين قبل ذلك التاريخ كانوا عبارة عن أقنان لدى فئة الاقطاع.

صحيح أنه في عهد الوحدة السورية- المصرية، تحققت بعض المكاسب للفلاحين و العمال، لكن قصر عهد الوحدة و الأخطاء التي عانت منها لم يسمح لذلك العهد أن يستكمل عملية الإصلاح الزراعي الذي بدأ به.. أذكر أني عشتُ في الغوطة الشرقية طوال عام 1996، و كان يقول لي الفلاحون و المزارعون أن أراضيهم استملكوها في عهد الوحدة، إذ قبل ذلك التاريخ كانت لفئة قليلة من الآغوات و الباشوات و الحكّام من مرحلة ما يُسمى بـ"الحكم الوطني"، مثلاً بلدة "ببيلا" في الغوطة الشرقية، و كانت عبارة عن قرية صغيرة و مزارع كبيرة و بساتين كثيرة، كانت ملكاً للرئيس الراحل شكري القوتلي، فيما المزارعون و الفلاحون فيها عبارة عن أقنان.

عود على بدء: هل نجح الانقلاب في الارتقاء إلى مستوى الثورة؟

حقيقة سمعت هذا السؤال عشرات -إن لم يكن مئات- المرّات (أكثرها خلال الحرب على سوريا)، وبالمناسبة، سبق لي أن طرحتُ هذا السؤال في مقالات ”تهكمية – كي لا أقول إن بعضها كان ساذجاً” سابقة لي قبل أكثر من عقد و نصف من الزمن.

لقصر نظر البعض، يأخذون على حزب البعث أنّه لم يحقق شيئاً من أهدافه الكبرى (الوحدة، الحريّة، الاشتراكية)، غافلين (عمداً أو جهلاً) عن مكاسب عديدة تحققت للطبقة المسحوقة (التي كانت تشكّل غالبية المجتمع السوري)، ناهيك عن الدور الذي حققه لسوريا على المستويين العربي والدولي، و هذا لا ينفي وجود الكثير من الأخطاء بعضها مبرر و بعضها غير مبرر طوال مسيرة البعث في الحكم.

ولا أتجنى هنا إن قلتُ: إن من يتحمّل مسؤولية جهل (أو تجهيل) بعض المجتمع السوري بإنجازات حزب البعث، هم البعثيون أنفسهم بالتشارك مع وزارت الثقافة والإعلام والتربية، وهي وزرات لم نشهد لها أنشطة تصوّر كيفية حياة السوريين على الصُعد الاجتماعية والسياسية والثقافية والتعليمية والاقتصادية قبل وصول حزب البعث إلى السلطة من خلال انقلابه المبارك صبيحة 8 آذار عام 1963.

تقصير البعثيين ذاك، مع الوزارات سابقة الذكر، أفسح المجال واسعاً للخيال الشعبي الملوّث بغبار طلع “ثقافي” لنسج أساطير وخرافات وأوهام عن “ديمقراطية” الأربعينات والخمسينات، وشعوذات من قبيل ”نُبل” الطبقة الحاكمة في تلك الحقبة (وهي طبقة كان يتقاسمها بكوات وإقطاعيو وبرجوازيو دمشق وحلب بالتعاون مع إقطاعيي الأرياف).. وكانت تلك الطبقة غارقة في الفساد من رأسها حتى أخمص قدميها (مع وجود استثناءات، كالشهيد الدكتور عبد الرحمن الشهبندر والزعيم أكرم الحوراني، مثالاً لا حصراً).

هل هناك من يذكر سفينة الأسلحة التي كانت قد اشترتها سوريا من إحدى دول أوربا، فاتجهت إلى اسرائيل بمساع من أحد مافيوزيي ونهبويي تلك المرحلة؟

أو من يتذكّر شيئاً عن فساد الرئيس الراحل شكري القوتلي، أو الوباء الذي كان ينشره جميل مردم بك (افتتح أولاده ومن دماء الشعب السوري بنكاً في سويسرا، في خمسينات القرن الماضي، أي في زمن كان فيه الفساد عاراً و لم يكن ثقافة و سلوكاً و نهجاً) حيثما حلّ (ليس دون وبائه دوره في ضياع فلسطين، وللشاعر عمر أبو ريشة هجاء لاذع فيه بهذا الخصوص)؟

فيما كان مرض تافه كـ"الزحار" كفيلاً بإرسال من يصيبه من أبناء الريف إلى الرفيق الأعلى.

بالعودة إلى أهداف البعث، لا يوجد حزب حقق أهدافه مرة واحدة وإلى الأبد، وكذلك لا توجد أيديولوجيا تحقق ذاتها بالمطلق، أكثر من ذلك: إن أي أيديولوجيا (أو حزب) تحقق أهدافها، لن يعود ثمة مبرر لوجودها، والأمر ذاته إن طال الزمن دون أن تحقق شيئاً من أهدافها، إذ ستكون عندئذ إيديولوجيا فاشلة.

فهل كانت إيديولوجيا حزب البعث (المتمثلة بأهدافه) فاشلة؟ الواقع ينفي ذلك..

فالقطاع العام (برغم وفرة عيوبه عبر تاريخه) كان و مازال مكسباً اشتراكياً مهماً للطبقة الكادحة والعاملة. وهو قطّاع أثبت جدارته وأهميته الفائقة خلال هذه الحرب الجائرة على سوريا، فلولاه ربما كان من الصعب أن يكون صمود وطننا على مثل هذا النحو!

ومن المفيد بمكان أن نشير هنا إلى التعليم، فكم عدد الذين أوفدتهم الدولة البعثية الى الخارج لنيل الشهادات العليا في مختلف التخصصات؟ مع لفت الانتباه ان المعاش الذي كانت ترسله لهم وزارة التعليم العالي طوال سنّي الايفاد، يكفل للطالب الموفد بعد عودته للوطن، شراء شقة محترمة وسيارة خاصة.

ولا نخال أن من كانت تفدهم الدولة للخارج كلّهم من أبناء المسؤولين و”البكوات” لا بل إنّ جلّهم من أبناء الفقراء والطبقة المسحوقة التي أثبت الكثير من أبنائها أنّهم يستحقون أعلى الرُتب والمراتب! في هذا الجانب أذكر هذه الحادثة: قيل، عندما أراد ابراهيم الفاضل والد الدكتور الشهيد محمد الفاضل ارسال ابنه الى باريس للتعلّم، قصد الاقطاعي جابر العباس طالباً عونه في تعليم ابنه، فأجابه جابر العباس: “يا إبراهيم، إذا كان ابنك أمير و ابني أمير، فمن يرعى الحمير؟”.

الوحدة! نعم، لم تتحقق الوحدة بالمعنى الشائع، والواقع يقول إنّها لن تتحقق على المدى المنظور (يُنسب لديوديفسكي قول: إنّ الثورة تحتاج إلى كم هائل من الأوهام)، وليس المطلوب أن تتحقق وفق ما فهمها حزب البعث.. لكن عندما تضع أنت نصب عينيك هدفاً سامياً كالوحدة، فمبقدورك تحقيق بعض التضامن العربي، وعملياً نجح حزب البعث في محطّات كثيرة من تاريخه، وهو في الحكم، من خلق تضامن عربي مقبول في مفاصل تاريخية محددة (مثل ذلك التضامن الذي أعقب هزيمة حزيران 1967، و كذلك الذي تزامن و”أعقب” حرب تشرين 73، وكذلك التضامن الذي تمّ بُعيد كامب ديفيد وخروج مصر السادات عن الصف العربي، و التضامن العربي مع وطننا و الذي نشهده الآن عقب زلزال 6 شباط 2023)، كما أوجد تضامناً كان دون المستوى في مفاصل عدّة، كمحاولته ايجاد جبهة مشرقية عربية (أواخر سبعينات القرن الماضي) تقف في وجه أطماع العدو الاسرائيلي وتهديداته.

طبعاً، لن أتطرق هنا إلى الوحدة السورية- المصرية 1958، وقبول البعث حلّ نفسه في سبيلها، لأن بحثها يطول.

الحريّة! ثمة حريّات اجتماعية كانت أكثر من جيدة في سوريا في ظل البعث، فيما فرضت الظروف التي عايشتها (ولم تزل) سوريا أن يكون هناك تضييق (والصواب: تقنين) فيما يخصّ الحريّات السياسية كوجود قانون للأحزاب (قبل عام 2011) وعدم رفع قانون طوارئ (أيضاً، قبل عام 2011).. الخ.

وشخصيّاً أميل للاعتقاد، إنّ الحريّات السياسية في بلد كسوريا مرهونة بعاملين:

الأوّل منهما: نضج المجتمع بمجمله، لا أن يقتصر ذلك النضج المصحوب بوعي وطني على النّخب (ورأينا المآل المخزي للكثير من النّخب)، فالحرية هي مسؤولية أيضاً قبل أن تكون حقاً.

والثاني: الحريّات السياسية في محيطك الجغرافي، فمثلاً، سيجد أي مطلّع على التاريخ السوري الحديث، إنّه عندما كانت تتوفر حياة “ديمقراطية” في سوريا الخمسينات، أنّ ساستها وقادتها كانوا دمى بيد المخابرات الأمريكية وبيادقها في المنطقة.. وهذا ما يفسّر لك وفرة الانقلابات العسكرية وانتفاء وجود أي شكل من أشكال الاستقرار السياسي في تلك الحقبة من الزمن.. لا أدري حقيقة إن كان ثمة عاقل يجد في وقوع ثلاثة انقلابات عسكرية في عام واحد (1949) شكلاً من أشكال الحريّة والديمقراطية؟!

وعلينا أن لا نغفل أن الدفاع عن الوطن وسيادته واستقراره طوال عقود، هو فوق أي اعتبار، ومثل ذلك الدفاع هو جوهر أيّة حرية بمعنييها الوطني والسياسي، والواقع يقول إن البعث نجح -ضمن الإمكان- في مسعاه ذاك طوال عقود ستة من حكمه، و نكرر هنا هذا لا ينفي وجود الكثير من الأخطاء.

أجد من المناسب أن أعيد هنا نشر مقتطف من حوار مطوّل أجريته عام 2002 مع القائد والمناضل النهضوي و الشيوعي الراحل ”دانيال نعمة”، سألته:

س: كأحزاب جبهة، وبلا استثناء، ماذا حققتم من أهداف أحزابكم؟ ماذا قدمتم للجماهير المنضوية تحت ألويتكم؟ بمعنى ما نسبة ما حققتموه من إيديولوجيتكم؟ بمعنى آخر: ما مبرر وجودكم؟

فيجيبني: استقلال الوطن، أليس هدفاً من الأهداف الكبرى، وبناؤه ومتابعة مسيرته ومستقبله أليس من الأهداف؟

فأُعقب عليه: لكن الذي وضع اللبنة الأولى في صرح الاستقلال هم الثوار الآوائل (صالح العلي، هنانو، سلطان الأطرش…)، ثم أكملت الطريق إليه البرجوازية الوطنية التي كانت تحكم آنذاك، من غير أن نغفل هزيمة فرنسا أمام ألمانيا.

فيجيب: غير أننا لا نستطيع أن ننكر دور الأحزاب في هذا، أو أن نقول إنها لم تفعل شيئاً، فهذا غير صحيح؟!

من جهة ثانية، لا شكّ إنّ هزيمة ألمانيا الهتلرية هي التي فتحت الطريق واسعاً أمام استقلال سورية.

فأقول: حسناً، ما هي الأهداف الكبيرة التي حققتها هذه الأحزاب، أو بعضها، غير الاستقلال؟

فيجيب: لا نستطيع أن نحقق الأهداف كلّها دفعة واحدة. يُذكّرني سؤالك بمقال كتبه المطران جورج خضر (مطران جبل لبنان)، إذ كتب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مقالاً في جريدة “النهار” البيروتية يقول فيه: (أكثر من سبعين عاماً من ثورة أكتوبر، لو كانت حققت أهدافها لما كانت انهارت)..

حينذاك خطر ببالي أن أردّ عليه حيث كتب، وما زلتُ أشعر بالندم لأني لم أرد، ها هي ذي المسيحية لها أكثر من ألفي عام ولم تحقق أهدافها، بل هي على العكس منها، هل معنى هذا أنّها يجب أن تُلغى؟

إذا كان ثمة مشروع نهضوي لم يتحقق، فهل نكفّ عن النضال في سبيله؟

أختم: قبل نحو اليومين سألني الدكتور جورج جبور: 60 عاماً على ثورة آذار.. كيف تختصرها في بضعة جمل؟

فأجبته: ثورة آذار أصابت و أخطأت، لكنها أعادت لي كرامتي المهدورة.. أعادت لي حضوري بعد محقي من قبل ما كان يسمى ببرجوازية المدينة و إقطاعيي الريف، قبل أن أولد بأكثر من عقد من الزمن.