كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

شبابيك طرطوس.. ونصري شمس الدين

علي مصطفى بدور:

ذاتَ زمانٍ كنتُ يافعاً.. مقبلاً على الحياةِ بلا هوادةٍ..
كانت السرافيسُ بدعةً جديدةً دخلتْ إلى مجتمعِنا.. هجّرتْنا من سياراتِ "البيك أب والهوب هوب" إلى وسيلةِ نقلٍ أكثرَ تطوراً.
آنذاكَ كنتُ في الصفِّ الثاني الثانويّ أدبي ولم يكنِ الالتزامُ بالحصصِ الدراسيةِ يغويني، لذلكَ قررتُ أنا وحسن ونضال الهروبَ من الحصةِ الثالثةِ والذهابَ إلى طرطوس.. قِيلَ لنا إنّ السينما تعرضُ فيلماً جديداً لـ جاكي شان.
في الكراجِ تزاحمٌ كبيرٌ على الوافدِ الجديدِ.. الجميعُ يريدُ أن يركبَ السيرفيس، بينما يقفُ باص الهوب هوب حزيناً بعدَ أن تنكرَ الجميعُ لفضلِه.
تمكّنَ حسن ونضال من اقتناصِ مقعدَين لهما، بينما فشلتُ في ذلكَ، وتمّ الاتفاقُ على أن ألحقَ بهما في السرفيس التالي.
بعدَ عناءٍ نجحتُ في اقتناصٍ مكانٍ في المقعدِ الأخيرِ، انتهى التزاحمُ و انطلقَ بنا السرفيس خفيفًا هادئاً، بينما كانَ يصدحُ نصري شمس الدين من الراديو "وقفلي خليني بوس شبابيك الحلوة بطرطوس".
سألتُ نفسي هل جاءَ نصري شمس الدين يوماً إلى طرطوس وأحبَّ فتاةً كانت تطلُ من نافذةِ بيتِها، فغنَّى لها ما غنَّى.. فكرةٌ جميلةٌ بدأتُ أنسجُها في مخيلتِي كروايةً عن قصةِ حبٍ عاشَها نصري.. لكنَّ السائقَ قاطعني قائلاً: الأجرةَ يا شبابُ.
أخرجتُ ليرتَين ونصفًا وأعطيتُها لسيدةٍ تشغلُ المقعدَ الذي أمامي.. فقالتْ بحزمٍ: اجمعْ من الراكبَين الآخرَين وأعطني المبلغَ كاملاً..
نفذتُ أوامرَها العسكريةَ دونَ اعتراضٍ.. فنحنُ من جيلٍ اعتادَ أن يحترمَ الأُنثى ويجلسَها في مكانِه عندَما لا تجدُ لها متسعًا في سياراتِ البيك أب أو الهوب هوب.
سألتُها برفقٍ -وهي التي تجلسُ إلى جانبي منذُ عشْرِ دقائقَ-: هل أعرفُكِ منذُ عُمرٍ.. عفواً الأجرةَ لو سمحتِ.
أخرجتْ من جيبِها خمسَ ليرات فرد شقفة.. يا اللهُ! الآنَ أستطيعُ أن أقسامَها شيئاً.. سأردُ لها ليرتَين ونصفًا كانت معي، وبذلك تصبحُ الخمسُ ليراتٍ مناصفةً لي ولنصفي الحُلو.
على يساري كانتْ سيدةٌ خمسينيةٌ، أقربُ ما تكونُ مديرةَ مدرسةٍ أو موجهةً تربويةً.. سحجتني بعينَيها وكأنها تقولُ: "ما الذي أخرجَكَ من مدرستِك".. قلتُ لها: الأجرةَ لو سمحتِ، فأخرجتْ عشْرَ ليراتٍ، ناولتُها بدوري إلى الضابطِ المسؤولِ عن أمنِ السيرفس وقلتُ: بدنا منكَ سبعَ ليراتٍ ونصفاً.
قالتْ: لم أسمعْ مطربًا سبقَ أنْ غنّى لطرطوس كما فعلَ نصري.. قلتُ: لم أرَ أجملَ من عينَيك في طرطوس..
في الحقيقةِ كنتُ جباناً ولم أفعلْ.. ظلَّ قلبي يقولُ شيئًا ولساني ينطقُ بشئٍ آخرَ
انقضتِ المسافةُ بين صافيتا وطرطوس في غمضتَينِ ونظرةٍ.. وأنا الذي كنتُ أظنُّ أنَّ طرطوس عالمٌ آخرُ.. وجدتُ كلَّ العالمِ في عينَيها.
في الكراجِ القديمِ خرْجنا مسرعينَ تحتَ وابلٍ من المطرِ.. قلتُ: إلى أينَ، قالتْ: حديقة الطلائع..
نسيتُ نضال وحسن وجاكي شان ورافقتُها إلى سيرفيس آخرَ توجّهَ بنا إلى حديقةِ الطلائعِ وفي نفسي سؤالٌ.. كيفَ سنجلسُ في حديقةٍ والمطرُ لا يتوقفُ.
في الطريقِ لم نتحدثْ.. قطعتْ موتَ الكلامِ، وقالتْ: على اليمينِ لو سمحتَ.
نزلتْ فنزلتُ وراءَها.. لكنها لم تلتفتْ.. اختفتْ مسرعةً في بابِ إحدى البناياتِ وأنا بقيتُ تحتَ المطرِ..
دقائقَ قليلةً ثم أطلتْ من نافذةِ بيتِها المقابلِ لحديقةِ الطلائع.
فجأةً توقفَ المطرُ وعادَ نصري يغنَّي "وقفلي خليني بوس شبابيك الحلوة بطرطوس".
مواد ذات صلة:

مناسبة أغنية "وقفلي خليني بوس شبابيك الحلوة بطرطوس"

https://feneks.net/index.php/society/heritage/66449-2023-06-03-08-35-42