كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بمناسبة العيد الخمسين لاتحاد الصحفيين.. صور عن جدي

سعد القاسم

استحضر العيد الخمسون لاتحاد الصحفيين من ذاكرتي صوراً وفيرة عن علاقتي بالصحافة تسبق بعشرات السنيين زمن انتسابي الرسمي للمهنة. فمنذ طفولتي كانت الصحف والمجلات الضيف دائم الحضور في بيتنا، ويعود الفضل في ذلك إلى جدي نهاد (أبو عمر) الذي حرص على الأمر إلى حد أنه أنبني لأن أحد زملاء المدرسة نال علامات أكثر علاماتي في الشهادة الابتدائية، وهو الذي «لا تدخل بيتهم جريدة». وقد احتجت لسنوات كثيرة حتى أفهم سر هذا الرابط المعرفي بين الصحافة والتعليم، ففي الجانب الآخر كان زملاء مدرسة (هنانو) ينظرون باستغراب ممزوج باستهجان خفي حين يشاهدوني أشتري لجدي الصحف اليومية من مكتبة (أبو هشام) قرب مدرستنا.
شُغف جدي (أكرم الله مقامه وأدام ذكراه) بالأدب والشعر، منذ مطلع شبابه، فنظم بعض القصائد، وكتب الكثير من المقالات. وقد امتلك ذاكرة نادرة - كما حدثني بعض معارفه - فكان يحضر الأمسيات الأدبية في المجمع العلمي العربي، ثم يعود إلى غرفته فيغلق الباب عليه ويدون من ذاكرته كل ما قيل فيها، وما أن ينجز مقالته حتى يرسلها مذيلة باسم مستعار إلى إحدى الصحف المعنية بشؤون الأدب لتنشر فيها دون أجر. وكان رواد تلك الندوات والمتحدثون فيها، وحتى أصحاب الصحيفة، ينشغلون في محاولة معرفة كاتب تلك المقالات خاصة أن أحداً لم يشك به، لأنه لم يكن يكتب أي شيء خلال الأمسيات والمحاضرات، وحين اكتشف الأمر عن طريق الصدفة توقف عن الكتابة.
تتعدد الروايات عن تاريخ ومكان ولادته. ففيما تشير الوثائق الرسمية إلى أنه ولد في دمشق عام 1905، فإن حاشية بخط يده على نسخته الخاصة من (تفسير الجلالين) تذكر أنه ولد في عام 1906، دون إشارة إلى مكان الولادة. وبالمقابل فإن بعض ذكرياته الشفهية تشير إلى أنه نشأ في مدينة يافا، وربما ولد فيها، وتذكر روايات غيرها أنه ولد في نابلس وأنه تلقى تعليمه الأولي في معهد النجاح (جامعة النجاح حالياً). ويرجع سبب تعدد الروايات إلى كونه عاش السنوات الأولى من عمره متنقلاً بين مدن سورية وفلسطين، وقد كانت ضمن دولة واحدة، بحكم طبيعة عمل والده القاضي الذي استشهد إثر قصف بارجة بريطانية لمنزله في يافا عام 1917وهو يحاول إنقاذ أسرته بعد تهدم المبنى، فعادت أرملته مع أبنائها لعند أشقائها في دمشق، وأقامت في منزل شقيقها القاضي النزيه رؤوف الجابي.
عَلمَه اليتم المبكر أن يعتمد على نفسه، فكانت أولى وظائفه كاتباً في محكمة الاستئناف بدمشق، بعد أن أتم دراسته في (مكتب عنبر). وحمله تشجيع زوجته، وهمته العالية، على أن يدرس الحقوق وهو موظف يقوم بواجبات وظيفته الحكومية على أتم وجه، وأب لولدين، وأن ينجح في سنوات الدراسة الجامعية بالمركز الأول، ويحرز شهادة تقدير من معهد الحقوق على ذلك التفوق، وعندما أعلنت وزارة العدل عن مسابقة للقضاة كان أول الناجحين فيها بتفوق، وقد أهلته خصاله أن ينال سمعة عطرة، ويرتقي باستمرار في سلك القضاء والعمل الحكومي.