كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بشير عبيد.. «من الإيمان إلى الاستشهاد.. هكذا تُصاغ الرجولة القومية»

نبيلة غصن

في بيتٍ عتيقٍ في بيت شباب وُلد بشير عبيد، ولم يكن يدري ذلك الطفل الذي قرع أجراس الكنيسة في قريته الصغيرة، أنّ تلك الأجراس ستقرع يوماً لروحه، وأنّ نبضها سيبقى رمزاً لرجولةٍ لا تنطفئ. من ركن الولادة إلى مقام الفكرة، ومن محراب الإيمان إلى ساحة القضية، امتدّ عمره كخيطٍ من نورٍ مشدودٍ إلى معنى النهضة، معنى الشرف والبطولة والإيمان القومي.
بشير عبيد…. القائد الذي لم يمت، القائد الذي ظلّ حيّاً في كلّ مناضلٍ يرى في القومية فعلاً للكرامة لا شعاراً للمنابر. بين دفّتي الكتاب تتقاطع حياة رجلٍ عاش للفكرة ومات في سبيلها، وتتكامل صورة المناضل المفكّر، العسكريّ المثقّف، الشاعر والخطيب، الذي جمع بين صرامة الموقف ورقّة الكلمة.
القائد الذي حمل السلاح في الدفاع عن الأمة، وحمل القلم في الدفاع عن الوعي. في مقالاته ورسائله من السجن، كان يحوّل الألم إلى فكرٍ، والظلم إلى يقينٍ بالنهضة. من تلك الزنازين خرجت عباراته التي كتبت بالعزم، لا بالحبر.
من مذيعٍ في مديرية بيت شباب، إلى عميدٍ للدفاع إبّان الثورة الانقلابية، ثم إلى رئيسٍ للمجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي، سلك بشير عبيد طريق المسؤولية بلا انحناء. كان يرى في الحزب مدرسة للرجال، لا تخرّج إلا من اختبر معنى التضحية. لذلك، حين واجه المحققين بعد فشل الانقلاب، قال كلمته التي لا تُنسى:
«أنا عميد الدفاع، أوكل إليّ تنفيذ الانقلاب وقد قمت به إرضاءً لوجداني القومي… وأنا أتحمّل المسؤولية إيماناً بعقيدةٍ هي كلّ إيماني، وحفاظاً على رجولةٍ تجسّد هذه العقيدة».
لم يكن الإعدام ولا السجن ليهزّا إيمانه. كان يعرف أنّ الموت ليس نهاية المناضل بل بداية حضوره الأعمق. كتب من زنزانته رسائل إلى رفقائه، تنبض بالحبّ والعزّ، أبرزها إلى الرفيق علي الحاج حسن، الشهيد لاحقاً، حيث قال:
«ما أشدّ آلامك، وما أعظم اعتزازنا بك أيّها العظيم… تحبّك قلوبنا وليس لها في ذلك منّة».
وحين صدر العفو العام عن المدنيين دون العسكريين، رفض أن يخرج دون رفاقه. بكى بشير عبيد يومها، لا ضعفاً، بل وجعاً لأنّ العدالة لم تشمل جميع المقاتلين الذين آمنوا مثله بالعقيدة حتى الرمق الأخير.
خرج من السجن إلى حربٍ جديدة، حربٍ على تقسيم الوطن، ودفاعٍ عن المقاومة الفلسطينية. تولّى قيادة جبهة جبل لبنان في أصعب المراحل، وكان في الميدان لا في المكتب، يواجه الموت بابتسامة الجنديّ الذي يعرف لماذا يقاتل. لم يكن قائداً يبحث عن مجدٍ شخصيّ، بل عن انتصار الفكرة، عن بقاء لبنان موحّداً وعن فلسطين حيّة في الوجدان.
قال عنه كمال جنبلاط ذات يوم:
«إذا كنتم تريدون رئيساً مارونياً، فنحن لدينا رئيس مارونيّ غير عاديّ يمثّلنا جميعاً: إنّه الأستاذ بشير عبيد».
كلمةٌ تختصر احترام خصومه له قبل رفاقه، وتؤكّد أنّ القيادة الحقيقية لا تُفرض، بل تُكسب بالعقل والخلق والشجاعة.
لكنّ الرصاص الغادر لا يفرّق بين المناضلين، حين تضلّ البوصلة، ويُسلَّم سلاح المقاومة إلى أيدٍ خانت رسالتها.
في 5 تشرين الثاني 1980، سقط بشير عبيد ورفيقه كمال خير بك وابنة شقيقته ناهية بجاني، شهداء على درج بيتٍ في ساقية الجنزير، لا برصاص العدوّ الصهيوني، بل برصاصٍ عربيّ أعمى، أطلقه من ظنّ نفسه حامياً للوطن.
كانت الجريمة فاجعةً وطنيةً وقوميةً معاً، هزّت بيروت والضمير، لأنّها كشفت كيف يمكن للفتنة أن تقتل أنبل الرجال باسم الشعارات.
في يوم التشييع، لبّت بيروت الغربية نداء الحزب والحركة الوطنية، وخرج الآلاف يشيّعون بشير ورفيقيه في موكبٍ مهيبٍ من مستشفى الجامعة الأميركية إلى كنيسة الوردية في الحمراء، فاختلطت الصلوات المسيحية بالتعازي الإسلامية، وحضر ممثلو كلّ القوى الوطنية والفلسطينية، في مشهدٍ وحدويٍّ قلّ نظيره.
لكنّ المفارقة كانت أنّ كنائس بيت شباب مُنعت من قرع أجراسها حداداً على بشير، ورفضت السلطات دفنه في مدافن بلدته، فدُفن مع رفيقيه في مقبرة الشهداء الفلسطينيين، إلى جوار فؤاد الشمالي، ليُقال إنّ الأرض التي رفضت الطائفية احتضنت القوميين شهداءها بلا تمييز.
لقد كان استشهاده خاتمة فصلٍ من أنبل فصول النضال، وافتتاح فصلٍ جديدٍ من ذاكرة الحزب والأمة. لم يمت بشير عبيد يومها، بل تحوّل إلى رمزٍ للصلابة في وجه الغدر، وللنقاء في زمن الالتباس.
هو السياسي، الأديب، العسكري، الشاعر، والإنسان المتصوّف في حبّ بلاده. سيرته أشبه بمرآةٍ لتاريخٍ معجونٍ بالعذاب والكرامة، وتكريسٍ لذاكرةٍ ما تزال تنزف أسئلةً حول جريمةٍ لم يُكشف عن سرّها حتى اليوم.
بشير عبيد…
ليس مجرّد اسمٍ في تاريخ الحزب، بل مدرسة في الإيمان والرجولة والوعي. رجلٌ فهم أن النهضة ليست شعاراً، بل التزاماً حتى الشهادة.
وحين نقرأ اليوم سيرته، نكتشف أننا أمام فكرة تمشي على الأرض، أمام إنسانٍ صهر ذاته في قضيته حتى صار هو القضية.
سلامٌ عليك يا بشير،
يا من قرعت أجراس بيت شباب حبّاً، وقرعت أبواب السماء رجولةً،
سلامٌ عليك في يومك، وفي كلّ يومٍ يُظلم فيه الحقّ ويُستباح فيه الوطن.
لقد مضيت شهيداً، لكنّ سيرتك بقيت ناراً لا تنطفئ،
تُذكّرنا بأنّ الحقّ لا يُستردّ بالدموع، بل بالدمّ الصافي حين يكتب التاريخ من جديد.