كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

هكذا نكون.. هكذا نحب.. هكذا نقف

ريتا خير بك

هذه الصورة ليست لقطة عائلية؛ إنها سيرةٌ مضغوطة في ومضة ضوء. وجهان: طفلةٌ تفتح عينيها على العالم، ورجلٌ صقله الملحُ والشمسُ والعملُ والحياء. بينهما خيطٌ من حرير الشماغ ذاته، يمتدّ من كتف جدي إلى قلبي، فيربط الاسم بالمصير.
جدي «أبو جميل» لم يدخل جامعة، لم يسمع بيتهوفن، ولم يقرأ هايكو أو قصائد عن حقوق المرأة. لكنه حضر إلى عيد ميلادي الأول بكامل أناقته: طقمٌ رسميّ، عقال، وشماغٌ من الحرير. حضر بكامل علويته ونصيريته، لا ليشرح لنا الهوية بل ليُجسِّدها. فالكرامة ليست مادةً تُدرَّس؛ الكرامة طريقةُ وقفة، وهدوءُ نظرة، وكفٌّ يحيط بالطفلة كمن يحرس سِرًّا قديماً.
في مجتمعٍ يضع لنا أسماء ليست لنا، كان جدي يُجيب بالصمت الأنيق: الانتماء جمالٌ منضبط قبل أن يكون شعاراً، وأخلاقُ حضورٍ قبل أن يصبح خطاباً. نحنُ لا نطلب مقعداً في الهامش؛ نحن نكتب السطر الذي يُخطئ كثيرون قراءته لأن لغته المحبةُ والصبرُ والعملُ لا الشعارات.
من هذا الرجل يبدأ كلُّ دفاعي عن أهلي. كل ما أكتبه اليوم ليس جدالاً سياسياً بقدر ما هو وفاءٌ لهيئة وجه، لطريقة يدٍ تُناوِل الخبز، لحرير شماغٍ يعلن أن الهويّة يمكن أن تكون نعومةً وصلابةً في آن. جدي هو العلويّ النصيريّ الأوّل في قلبي؛ منه تعلّمت أن العدل يبدأ من طقس الاحترام اليومي، وأن الحبّ معرفةٌ أعمق من الكتب، وأن الفخر أن تحمل أسماءك بهدوءٍ فلا تسقط من يدك.
أشتقتُ لك يا جدو. أشتقتُ لذلك الصمت الذي كان أبلغ من كل خطب، ولأناقةٍ ظلّت تُعلّمني أن الدفاع عن شعبٍ يبدأ من حماية صورة: رجلٌ يضمّ حفيدته، ويقول للعالم دون كلمات: هكذا نكون. هكذا نحب. هكذا نقف.