يوسف العظمة.. شهيد الكرامة وميلاد البطولة
2025.10.14
في تاريخ الأمم لحظات فارقة، يخرج فيها من بين صفوف الناس رجلٌ لا يشبه غيره، يقف في وجه العاصفة، ويختار أن يزرع في الأرض بذرة العزّة، ولو كلّفه ذلك حياته.
في تاريخ سوريا، كان ذلك الرجل هو يوسف العظمة.
رجلٌ وقف في وجه إمبراطورية
بصدره العاري، وقلبه المشتعل بالإيمان، خاض معركة يعلم مسبقًا أنه سيخسرها عسكريًا، لكنه كسبها أخلاقيًا وتاريخيًا، فصار رمزًا للبطولة والتضحية، وكتبت دماؤه أول سطرٍ في ملحمة الاستقلال السوري.
من هو يوسف العظمة؟
ولد يوسف بن إبراهيم العظمة عام 1884 في مدينة دمشق، في بيت من بيوت العلم والوطنية. تلقّى تعليمه العسكري في إسطنبول، وتخرج ضابطًا في الجيش العثماني، ثم تابع دراسته في ألمانيا، واكتسب خبرة عسكرية عالية.
بعد سقوط الدولة العثمانية ونهاية الحرب العالمية الأولى، عاد العظمة إلى دمشق، ليشارك في بناء الكيان الوطني السوري الناشئ بقيادة الملك فيصل بن الحسين، وكان وزيرًا للحربية في الحكومة العربية الأولى.
معركة ميسلون.. المجد المغمّس بالدم
حين قررت فرنسا فرض انتدابها على سوريا، زحفت جيوشها بقيادة الجنرال غورو باتجاه دمشق، مطالبةً السوريين بالاستسلام التام.
في وقتٍ كان فيه ميزان القوى مختلًا تمامًا: جيش فرنسي نظامي مدجّج بالأسلحة الحديثة، مقابل مجموعة من المتطوعين السوريين، بعضهم لا يحمل إلا الكرامة سلاحًا.
في هذا الظرف العصيب، قرر يوسف العظمة ألا يُسلّم دمشق بلا مقاومة، وقال كلمته الشهيرة:
"لن تكون دمشق لقمة سائغة، وإن كتب الله لي الشهادة، فأنا راضٍ، وأعلم أني أضع حجر الأساس لاستقلال سوريا."
وفي 24 تموز 1920، خرج العظمة على رأس بضعة آلاف من الجنود والمتطوعين إلى بلدة ميسلون، غرب دمشق، ليواجه الفرنسيين.
وقُتل في المعركة، لكن موته كان حياةً لوطنٍ بأكمله.
رمزية يوسف العظمة
يوسف العظمة لم يكن مجرد وزير دفاع، ولا قائداً عسكرياً فقط، بل كان ضمير أمة رفض الخنوع. لم يُقاتل ليكسب معركة، بل قاتل ليؤسس لفكرة: أن الاستسلام ليس خيارًا.
وهذا ما قاله فيه الشاعر:
"فمات شهيدًا والجبانُ يعيشُهُ... طويلًا ولكن ذلّه لا يُطاقُ"
لقد دخل يوسف العظمة التاريخ من بوابة الكرامة، لا من بوابة الانتصارات، وأثبت أن الهزيمة العسكرية لا تعني الهزيمة المعنوية.
إرثه الحيّ
اليوم، يُذكر يوسف العظمة في كل بيت سوري، ليس فقط كبطلٍ تاريخي، بل كرمزٍ للكبرياء الوطني، ودرسٍ خالد في أن السيادة تُصان بالدماء، لا بالكلمات.
ضريحه في ميسلون شاهدٌ صامت، لكنه يقول لكل من يمرّ عليه:
"هنا دُفن جسد رجل… وولدت فيه روح أمة."
كلمة أخيرة
لقد علّمنا يوسف العظمة أن الكرامة لا تُجزّأ، وأنّ الشهادة من أجل الوطن هي أعظم أشكال الحياة.
وبينما تغيّرت الوجوه، وتبدلت الرايات، يبقى اسمه محفورًا في الذاكرة السورية، أيقونةً للفداء، وبوصلةً للرجولة، ودليلًا إلى الطريق الصحيح مهما طال الظلام.
أرض الأمل