أجدادنا الأوائل
2025.10.11
محسن سلامة
جدّي الشيخ يوسُف عبد اللطيف سلامه
. أجدادنا الأوائل
. أوائل القرن الماضي
. ـــ ١٨٩٥م ــ
كان جدّي رحمه اللّه تعالى رجلاً عظيماً شديد البأس حتّى في طفولته المبكّرة، ربّما لأنّه وحيد أبويه في تلك الجبال أوائل القرن الماضي، فالحياة كانت لا ترحم، استبداد وإقطاع وفقر وعناء وظلم، واللقمة في فم السبع عليه انتشالها بإرادة لا تُهزم وعزم لا يلين، الإقطاع أشبه بالجراد يأكل الأخضر واليابس، لا يُبقي للكادحين إلّا لُقيمات من خَشاش الأرض.
صورة جدّي هي الوحيدة التي لا تفارقني من أهلي جميعاً، مليح الوجه شديد سواد الشعر طويل القامة كسنديانة فتيّة، صلب العود، لوّنته السنابل بسمرتها، فقد كان فتاها الأوّل في القرية لا يجاريه أحد في مواسم الحصاد، له وجه شريف اكتسبه من قراءاته للقرآن كلّ صباحات عمره وفجر حياته.
كان جدّي أبي بكلّ معنى الكلمة، لا أجدني إلّا في أحضانه يرعى شؤوني وشؤون العائلة بكاملها، الآمر الناهي، الفرنكات لا تخلو منها جيوبي، والقبلات لا تزال حرارتها على وجناتي، يشتري لي دفاتري وأقلامي وثيابي.
وفي الصيف يصطحبني وحدي معه إلى البراري لرعي قطيع البقر الأغلى في ذلك الزمن على كلّ عائلة، كانت الخير كلّه والرزق كلّه لبناً وحليباً وزبدة.. ولحم عجل في ليالي الشتاء الطويلة الباردة، يُخبَّأ لحمُهُ في الخوابي بعد سلقه ثمّ حفظه بالملح.
بدأ يتركني وحيداً في البراري ليضرب في الأرض بحثاً عن كرامة يجب أن تُنجز في شراء الأرض من الإقطاعيّ، وهي التجارة على دابّته في القرى المجاورة، فأولاده الثلاثة كبروا وتزوّجوا وفي بيت طينيّ واحد.
وابن الإقطاعيّ تجاوز الحدود ذات يوم، فقد صاحت فتاة من القرية ذات يوم ـ صيحة الإمرأة العربيّة من عمّوريّة تستغيث المعتصم ـ وكان جدّي ساعتها في الأرض يقتلع الصخر من بين تربة الزرع، دقائق كانت (فاروعته) تشقّ عنان السماء في يده، لم يعرف ابن الإقطاعيّ كيف سلّم ساقيه للوديان والمنحدرات والنهر، فقط لأنّه قال لها: صباح الخير يا حلوة.
كانت تلك القصّة قاصمة الظهر للإقطاعيّ وأبنائه، كانت (الفاروعة) شرارة الوعي عند الفلّاحين جميعاً.
استطاع جدّي في عام واحد أن يشتري الأرض بكاملها، وبدأت حياة الحريّة، غرفٌ جديدةٌ بعضها إسمنتيّ لأوّل مرّة في تاريخ القرية.
لم يمضِ وقت طويل بعد ذلك إلّا وهجر الأبناء القرية كما تهاجر الطيور أعشاشها في فصل الخريف، بحثاً عن مدارس لا توجد في القرية لنتعلّم جميعاً،
نعود في الصيف إلى القرية والدموع تملأ خدّي جدّي لآلئ من نور، يضعف كطفل عند رؤيتنا، هذه المشاعر هي التي أعطتنا معنى الحياة، وجعلت منّا رجالاً تستحقّ هذه الدموع، أطبّاء ومهندسين ومدرّسين فاعلين في الحياة بشرف. جدّتي
كانت جدّتي (حلوه) هي الأغلى أبداً، كانت فيض رقّة وحنان، كانت هي الأمّ بكلّ معنى الكلمة تذوب حناناً وتحناناً ونبلاً وعاطفة، اسمها حلوه نعم اسم على مسمّى، كانت تغدق الحلوى على الجميع من دكّان جدّي و توصينا ألّا نعلمه، تشوي لنا البيض على الجمر زوّادة المدرسة، ثمّ تقف مودّعة بعبارات هي قطع من قلبها وروحها، نظلّ نسمعها إلى أن نختفي بين غابة السنديان خلف البيوت.
رحلوا جميعاً جدّي وجدّتي وأبي وأعمامي، كما ترحل النجوم والكواكب والأقمار في أوقاتها، وظلّت ذكراهم النور الذي يضيء ما تبقّى من حياتنا.