"مائة عام - أشياء صغيرة".. خوان انطونيو نعمة يكتب عن عمه المناضل دانيال نعمة
2025.09.28
خوان انطونيو نعمة
"كان مرجوّاً أن يبلغ عمره 100 عاماً أمس.
وُلِد في قرطبة، وتحديداً في منزل على أطراف ساحة الحي المسمى "إل بروغريسو" (التقدّم)، أمام سوق ريفولوسيون (الثورة). وعندما عاد إلى المكسيك في زيارة أوائل تسعينيات القرن العشرين، أتيحت لي فرصة مرافقته إلى فناء ذاك المنزل. بالطبع، لم يتذكر شيئاً من طفولته الباكرة مطلقاً، لكنه أعاد اكتشاف المكان الذي جاء فيه إلى العالم.
بعد ولادة عمتي ماريا، الثالثة بين الأطفال، قرر جدّاي الانتقال إلى العاصمة مكسيكو، حيث افتتحا كشكاً لبيع الأقمشة في حي لا لاجونييا.
لكنهما سرعان ما قرّرا العودة إلى سوريا، التي كانت لا تزال جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، والتي عانت بالفعل مئات سني سفك الدماء والألم والنهب والديكتاتوريات التي لا يبدو أنها ستنتهي للأسف. حينها كان والدي جرجس (خورخي)، الابن البكر، بعمر 8 سنوات فقط.
بعد مرور عشر سنوات، قرر والدي العودة إلى المكسيك، التي احتضنته طيلة 82 عاماً من أ صل عمر بلغ 89 عاماً، وقد ردّ والدي لهذا الوطن العظيم والكريم والمضياف جميله بالحب العميق والامتنان.
لكنني أتحدث هنا عن شقيقه، عن عمي، الذي كان سيحتفل بعيد ميلاده بالأمس في 31 آذار.
أطلقوا عليه اسمه ذاك نسبة إلى نبي تغلّب على الأسود، ولا أظن أن ذلك كان مصادفة. وقد أشار إلى هذا الأمر رئيس لسوريا في أكثر من مناسبة، وأنا أعلم جيداً أنه كان يحترمه ويُقدّره، كما فعل كثيرون غيره.
درس عمي الحقوق، ولكنه كان يميل نحو العمل السياسي. إخلاصه لمبادئه وضعه أمام أقسى المحن - وجهه، وأنفه، وأظافر يديه كانت مليئة بالأدلة التي لم يتباه بها يوماً، لكنه لم يخجل منها أبداً: التعذيب الوحشي، السجون، والحياة السرية، والتي في نظري أرفع أوسمة الشرف الأرفع لرجل نزيه.
تحدث الفرنسية بطلاقة، واستغرق الأمر منه أسبوعاً واحداً ليفهم الإسبانية بسهولة. قيل لي أن كتابته بالعربية -وهي لغة شديدة التعقيد- كانت أنيقة ومؤثرة، وتشفُّ عن شخص مثقف وذكي للغاية؛ كان يكتبها بإسهاب ودقة. أما الروسية، فكانت من لغاته أيضاً. قربه من الاتحاد السوفييتي جعله عنصراً وطنياً أساسياً في عقود ثلاثة، شارك خلالها بفاعلية في اتفاق اجتماعي أتاح تقريباً لجميع التيارات السياسية الحفاظ على قدر من السلم النسبي والوحدة الوطنية للسوريين، حتى وقتٍ تداخل في مجتمعه مظاهر التطرف الديني، والتدخلات الخارجية، وكل الذرائع التي فتحت الباب لديكتاتورية دموية لا تُحتمل، هي الأبشع والأكثر وحشية ودموية، ليعاني الجميع من وطأتها.
كان متسامحاً لأقصى الحدود، ورغم الأصل المسيحي للعائلة، فقد لعب دائماً دوراً بارزاً (ومحترماً) في السياسة الوطنية لبلد غالبية سكانه من المسلمين. كانت شخصيته قوية. رأيته غاضباً مرّة، ولكن ذلك كان حتمياً. فهو من آل نعمة، ماذا عساك فعله؟
أعظم فضائله كانت الثبات والبساطة، الانسجام بين المبدأ والممارسة: كان يملك بدلة واحدة من ثلاث قطع، وكانت زوجه تجتهد لتنظيفها وكيّها كل ليلة. لم يجمع مالاً أو ممتلكات، وعاش في أقل بكثير من مستوى الكفاف، بل وأجرؤ على القول في فقرٍ حقيقي، وكذا أولاده أيضاً.
كان بيته شقة صغيرة، قديمة ومتواضعة، من غرفتين وحمام واحد، ولكنها منزل يفيض بالكرامة والاحترام والمحبة والدفء والضيافة، ولا يخلو يوماً من الزوّار، ولا يُقدَّم فيه إلا ألذّ قهوة ولقمة طيبة، مهما كان الضيف، حتى وإن كان غريباً.
ربيع عام 1981، وفي دمشق، كنت شاهداً عندما واجه أحد أبناءه، من نفس عمري، وحده في الشارع ابن جنرال فاسد ومتغطرس أساء معاملة أناس عزّل أبرياء؛ أعتقد أن ذاك الجبان ضرب أحداهن دون سبب. أثار إعجابي هدوء عمي. لم يُنظَر إلى الأمر بوصفه مدعاة للفخر، بل بدا طبيعياً تماماً أن يُتضامن مع الضعفاء والمظلومين، مهما كان الثمن. وقد حصل عمي وابن عمي على اعتذار رسمي، كما بدا لي، صادقاً ومقلقاً في آن.
لم يشأ التحدث معي في السياسة يوماً، رغم أنني كنت قد بدأت دراستي الجامعية، وكنت أود أن أتباهى أمامه بـمعرفتي باللينينية. لكنه، بدلاً من ذلك، أصرّ على أن يهديني ثلاث أسطوانات فينيل لأوركسترا موسكو السيمفونية، تتضمن رقصة كارمن. لم أقبلها، لكنه مع ذلك أغرقنا بالهدايا، طوال حياته. لم أعرف يوماً كيف كان يتمكن من العطاء بهذا السخاء، ويشارك بذاك القدر من الخير.
وحين جاء المكسيك بعد عقد من الزمان، استُقبِل من قبل وزارة الخارجية ومن قِبل لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب. أندم اليوم لأنني لم أعمل على تكريمه كابن شهير لقرطبة. أعترف أن الأمر لم يخطر في بالي حينها. رغم أنني، كما أعي، متأكد أنه لم يكن ليقبل بذلك.
أنا أشير إلى دانيال داود نعمة خوري، شقيق والدي والرجل الاستثنائي".
________
ملاحظات من مدقق الترجمة خالد نعمة:
1) كوردوبا هو تحريف إسباني للاسم العربي قرطبة.
2) من عادة المكسيكان أن يضيفوا كنية الأم بعد كنية الأب في أسماء أولادهم، لأن النسبة الصحيحة ينبغي أن تكون إلى شخصين أسهما في الإنجاب.
3) الجنرال المعني هو شفيق فياض، وابنه البكر علاء ومرافقته المسلحة هم من كانوا يعتدون على عائلة من المساكين في حي جناين الورد بدمشق، وشقيقي معن هو الذي تصدى لهم آنذاك دفاعاً عن الناس المستضعفين.
*- خوان أنطونيو نعمة ديب برلماني وسياسي مكسيكي من أصول سورية، تولّد قرطبة 1962، صانع محتوى رقمي وإعلامي لاتيني واسع المتابعة.
النص مكتوب نهاية آذار 2025، ومنقول عن صفحة معن داود نجل المناضل دانيال نعمة