كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قصصي مع الدرّاجات الهوائيّة

محسن سلامة

عندما وصلت إلى المدينة قادماً من قرية نائية آخر الجرد ناحية القدموس، وأنا طفل، أدهشتني آلة معدنيّة من دولابين فقط تمشي بالناس دون أن يقع أحد منهم.
وعند عودتي من المدرسة ظهراً، دفعني فضول طفوليّ أن أتبين حقيقة تلك الدرّاجات المتنوّعة الحجم، استغرقتُ في غيبوبة من الدهشة، أستيقظتُ منها على صياح صاحب المحلّ في حبّ وعطف، بوجههُ الناعمٌ الباسمٌ اللطيفٌ البشوشٌ، ثيابه و يداه قد لوَنَّهما الشحمُ بالسواد،
قبّلني على جبيني عندما أخبرته أنّني ابن النجّار "محمّد سلامه أبو أحمد" قبالة محلّه مباشرة.
من يومها بدأ هذا الرجل الطيّب "راجي ملحم" يعطيني أصغر درّاجة عنده، أذهب بها إلى ملعب كرة القدم المجاور للحيّ،
وهناك بدأت قصص التدريب على الدرّاجة، يوميّاً يجب أن أعود إلى البيت والدماء تجري من ركبتيّ ومن كتفيّ اليمين واليسار، وما أكثر الجروح والخدوش على امتداد جسمي، وثيابي المعفّرة بالتراب، والعرق يتصبّب من جبيني أغلق عينيّ من غزارته.
إلى اليوم كلّما رأيت أحد أولاد أو أحفاد ذلك الرجل الذي ارتطمتُ به في الملعب ينتابني الشعور بالخجل،
كيف لي أن أنسى ذلك اليوم
وأنا في سرعة جنونيّة باتّجاه رجل مقتدر عريض المنكبين، كيف لم أستطع أن أتفاداه؟! إلى اليوم لم أجد تفسيراً،
غابت الفرامل عن ذاكرتي، تبسمر المقود (الكيدون) على يديّ لا أستطيع تحريكه لايميناً ولايساراً ولا حَرفَهُ عن هذا الرجل ولو سنتيمتر واحد، كأنّ كلّ شيء في كياني قد التغى وتوقّف عن القدرة في تفادي الاصطدام بهذا الرجل.
كان همّي أن يراني هذا الرجل فارساً لا يُشقُّ له غبار، لكنّ حنانه وتحنانه زادني خجلاً على خجل، وترك في قلبي أضاميم من التقدير لن تُمحى مدى الحياة، رحمه اللّه تعالى،
كان يملك نادياً رياضيّاً لرفع الأثقال على بعد أمتار من مكان وقوفه، كانت تعشقه جماهير طرطوس الرياضيّة، عرفت فيما بعد أنّ جذوره من ريف القدموس أيضاً، إنّه أبو محمّد علي ستيته، ترك اسماً وشهرة كريمة في قلوب أبناء المحافظة قاطبة،
بعد أشهر من التدريب تحدّاني بعض الصبيان الماهرين بركوب الدرّاجات الهوائيّة أن أشاركهم القدرة على السيطرة على النفس، السيطرة على الدرّاجة بثقةٍ وخبرةٍ وتَمكُّنٍ بالانطلاق من منحدر جنوب طرطوسَ، وهذا المنحدر على الطريق الضيّق المؤدّي إلى صافيتا امتداده بحدود كيلومتر لمن يتذكّره في أواخر الستينيّات، يبدأ من مكان موقع المشفى الآن (قبل أن يُبنى المشفى) وينتهي المنحدر عند طريق طرطوس- طرابلس.
صعدت مع درّاجتي مشياً على الأقدام إلى ذروة المنحدر، ثمّ ركبت الدرّاجة بثقة واطمئنان وانطلقت، وبعد دقائق فقدت كلّ شيء، وأصبحت حرّاً على ظهر هذه الدرّاجة لا حول لي ولا قوّة، فقدت السيطرة على قيادة الدرّاجة تماماً،
لم أتجرّأ أن أمسك بالفرامل ولو لمساً، كانت الدرّاجة تقفز المتر أو المترين فوق الطريق في انحدارها الجنونيّ، كنت حرّاً تماماً على متنها، انتظر لحظات السقوط لحظات الموت، لحظات التشظّي أشلاء أشلاء.
لكنّ هذا الخوف الشديد جعل يديّ تلتصقان بمقبضي الدرّاجة كأنّهما ومقبض الدرّاجة قطعة واحدة انصهرت إحداهما بالأخرى، شعرت أنّني في فضاء الطريق وليس على الطريق، كانت عينا اللّه تحرسني لأنّني لم أغادر استقامة الطريق، ولم تمرّ سيّارة صافيتا طوال تلك الدقائق،
كان آخر رهان أجريه في حياتي كلّها.
لكنّني عندما كبرت شعرت أنّني تعلّمت من هذه الرياضة الكثير، تصقل التفكير، تطلق للعقل العنان في آفاق الصحّة النفسيّة والجسميّة تطلق آفاق السعادة والمتعة في الحياة، آفاق الارتقاء بالسلوك الإنسانيّ، أفاق التسامح والمحبّة آفاق الشباب الدائم، آفاق القلب ينبض بالقوّة يدفق للجسد دماّ غزيراً صافياً نقياً، فإذا الحياة غناء وفرح.
عندما أصبحت خبيراً بركوب الدرّاجات، فاجأني صديق لي بعرضه المغري أن أشتري درّاجة هوائيّة متينة (كورس) بمئة ورقة سوريّة، وهي لاتزال ترافقني إلى اليوم بمتانتها ومرونتها وسلاستها.