كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ماذا تعرفون عن يونانيي الحميدية بطرطوس؟!

حارتهم القديمة في البلدة منظمة كرقعة الشطرنج.. وشبابهم يحلمون بالسفر كغيرهم من الجيل الجديد الذي ضاقت عليه سبل العيش..

رنا الحمدان- فينكس- خاص:

بلا هويّات يونانية، هم سوريون من أصول يونانية، حملوا أولادهم وما تيسر وركبوا الموج بحثاً عن وطن آمن يكملون فيه حكايتهم، ليضيفوا نكهة مميزة لمنطقتهم إن كان باللغة أو الموسيقا أوحتى ببعض العادات المميزة، تقاسموا وأهل هذا البلد عشق الوطن والأرض و الكثير من الهموم، فلا تختلف أفراحهم ولا أحزانهم عن غيرهم من مكونات الشعب السوري المتعدد المشارب والمناهل.. وإلى الحميدية يستقبلك عند مدخلها خيم النوّر والعمال الزراعيين بجانب حاجز الجيش، أما شارعها الرئيسي الأقل عرضاً عما يسبقه والذي يعتبر طريقاً مركزياً للسيارات والشاحنات العابرة من وإلى معبر العريضة الحدودي.. فينقلك إلى زمن سابق هو والمنازل المترامية على طرفيه فيما يتعطش لقميصمواطن من الحميدية شاب زفتي جديد، فيما يعمل الكادر البلدي الحالي ما بوسعه لتخديم الناس، رغم الإمكانات الحالية التي ضيقت فرص الحل والتحسين المطلوب كثيراً، وفي التجوال بالحميدية لا يمكنك إلا أن تشعر بالكثير من الحب والامتنان لدماثة أهل المنطقة و ترحيبهم، حيث فتحوا لنا قلوبهم وبيوتهم خلال زيارتنا التي امتدت لساعات لا تنسى في بلدتهم الجميلة..

لوحة فنية جميلة:

تتوضع منازل يونانيو الحميدية أو ما يعرف بالجزء الأقدم من البلدة كرقعة الشطرنج تماماً كما يشرح لنا السيد حسين سليمان ابن مختار الحميدية، حيث بنيت هذه الحارة من قبل العثمانيين بالحجارة الرملية وبتنظيم جميل، وفي كل بيت غرفتين وممر وفناء يوصل لدورة مياه بزاوية البيت، مع شجرة توت، وبئر مع طرنبة يد، و تتراوح مساحة كل منها بين 139-141 م2، و يتوضع كل بيت أيضاً على شارعين، فيما باتت بعض هذه البيوت القديمة مهجورة بالكامل حالياً، أما المسجد الذي بني من أكثر من 120 عاماً ما زال قائماً بهندسته المميزة على الطريق الرئيسي حتى اليوم.

و حسب السيد مصطفى سليمان مختار البلدة يصل عدد هؤلاء إلى حوالي 3000 نسمة من أصل عدد سكان البلدة الكلي الذي يقارب ال 19 ألف نسمة حالياً، حيث يتبع لبلدة الحميدية كل من (الحميدية- عرب الشاطىء- الخرابة والشيخ جابر)، كما يوجد في البلدة الكثير من العمال الزراعيين (قرابة 2000 نسمة) الذين يتوضعون بما يشبه الخيم على مدخل البلدة إضافة للنوّر مكتومي القيد (حوالي 50 عائلة) الذين يعملون بالطبل والزمر أو العتالة بموسم القمح، أو تقديم القهوة في التعازي وجزء منهم سافر خارج البلاد، فيما وصل عدد الوافدين السوريين بسبب الأزمة الى قرابة ال2000 أيضاً..

و عن هموم هذه البلدة، فهي لا تختلف عن بقية المناطق وتتلخص بصعوبة تأمين المعيشة و الخبز والغاز وحلم السفر الذي يراود جميع الشباب، و فيما ينجح بعض الشباب بالهجرة غير الشرعية عبر البحر (من الحميدية وغيرها من المناطق) يتعرض الكثيرين للفشل والنصب ببعض الأحيان..

وعودة للسوريين من أصول يونانية فقد جيء بهذه العائلات المسلمة بأيام السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام1894م من كريت إلى سورية، هرباً من بطش الحرب الأهلية في تكريت وسعياً للأمان إلى هذه المنطقة البحرية التي كانت خالية من الناس و سميت بالحميدية نسبة إلى السلطان العثماني، فيما كان قد ذهب جزء منهم إلى طرابلس لبنان وبقوا فيها أيضاً، كما يوجد العديد من اليونانيين الذين أتوا لسورية بفترات تاريخية مختلفة، ومنهم من عاش بحلب أو بحي المهاجرين بدمشق، كما يوجد أصول يونانية في كل من تونس ومصر والجزائر وغيرها..مختار الحميدية

أما السيدة زينب عثمان والتي تقوم بتحضير مؤونة الملوخية والبامية ودبس الفليلفة ومكانس القش الطويلة لتعيش.. فتقول لدي 4 أولاد (ولد وثلاث بنات) زوجت الكبيرتين وبقيت الصغرى، واضطررت لإرسال وحيدي وهو طفل لقبرص عند أخواله لوجود مشكلة بالقلب لديه ولحاجته لرعاية طبية لم أتمكن من تأمينها له، مضيفة بفرح "لقد أصبح شاباً" وتزوج هناك.. فيما يجلس الشاب زكريا العدولي مدخناً الأركيلة على الرصيف قبالة دكانه وهو يبتسم لنا مؤكداً أنه لا يفكر بالسفر ويتمنى أن تتحسن الأحوال وتزدهر هنا في هذه البلاد..

معتزين بسوريتهم:

إلى منزل المختار رافقنا ودلنا الأستاذ المحترم أحمد عزاتي ابن البلدة ومدير ثانوية المنطار خريج التجارة والاقتصاد الذي آثر الابتعاد عن بلدته وتابع تعليم أولاده ورعايتهم كغيره من أهالي البلدة الذين يهتمون بالتحصيل العلمي ليتخرج ابنه قبطاناً يسافر في أعالي البحار، فيما يدرس الثاني بكلية الهندسة البحرية باللاذقية، والفتاة تكمل تعليمها بكلية التمريض باللاذقية اختصاص تخدير تحلم كشقيقيها بالسفر أيضاً؛ وعودة لمختار الحميدية حسن مصطى سليمان وهو من أصول يونانية (باليونانية سليمناكي) فيشرح لنا: وصلنا اليوم إلى الجيل الرابع من اليونانيين الذين أتوا إلى الحميدية من تكريت وجميعنا سوريون ولا جنسيات يونانية لدينا إلا لمن سافر وتحصّل على شروط الإقامة أو الجنسية كغيره من السوريين، و يوجد في الحميدية (5488) نسمة يشكلون 220 عائلة، منهم 119 عائلة من سورية من أصول يونانية، ونحن نعتز بهويتنا السورية وانتمائنا لهذا البلد، كما نشعر بالمسؤولية والحب تجاهها ونشارك وأبناؤنا بالدفاع عنها والزود عنها، كأي مواطن يشعر بقدسية وطنه وأرضه، طبعاً هناك روابط تاريخية تربطنا باليونان من لغة وعمل.. ولكننا لا نفكر بالعودة إلى اليونان، وإنما نشعر فقط بالمحبة تجاه اليونان ونتمنى لها كل الخير.. وكجميع شرفاء سورية يأمل أهل الحميدية بكل بأن يعود الازدهار والخير لبلدنا وتصبح أفضل مما كانت عليه سابقاً.. فيما يتذكر المختار بابتسامة ومحبة أول مرة زار فيها اليونان ضمن وفد رسمي عام 1985بدعوة مدفوعة من بلديات أثينا وأوراكي وسيتيا في اليونان لمدة أسبوعين، و حملت هذه الزيارة كثيراً من الفرح والشعور بالتقارب الموجود أصلاً بين البلدين بالشكل والعادات..

بدوره المهندس ابراهيم جلال الدين عضو المجلس البلدي في الحميدية وهو من أصول يونانية أيضاً يحدثنا عن تميز وتفوّق العديد من أبناء هذه العائلات السورية من أصول يونانية قائلاً: لدينا العديد من الأطباء والمهندسين في الحميدية، وهناك عائلات تتابع تعليم أولادها باهتمام كالعديد من الأسر السورية مشيراً أنه أرسل ابنه الوحيد ليتابع دراسته في السويد، وليحقق الحلم الذي لم يتمكن هو من تحقيقه بالسفر، فيما استطاع ابنه محمد جلال الدين أن يحقق المرتبة الأولى بالثانوية على مدينة فكخو السويدية العام الماضي ليضاف لسجل السوريين المتميزين أينما ذهبوا، كما أن ابنته مهندسة عمارة والثانية في الصف الثاني الثانوي حالياً، وغير المتعلمين والشهادات العالية فهناك العامل والمزارع (توجد زراعات محمية وذرة صفراء في الحميدية) والموظف أيضاً. وعن العادات المميزة يتذكر جلال الدين جدته التي توفيت أواخر التسعينات عن 97 عاماً تقريباً وطبعها المميز، مضيفاً أن الجيل الجديد اندمج بشكل كبير مع أهل المنطقة وبات التمايز قليلاً بينهم، خصوصاً بعد رحيل الأجيال القديمة.. وكمعظم أهل حوض البحر الأبيض المتوسط، يتابع جلال الدين هناك تشابه عموماً إن كان بالشكل أو بالطبيعة الاجتماعية والفكرية بين الناس.

وأبطال في الجيش:

كغيرهم من الأسر السورية، قدم السوريون من أصول يونانية الشهداء والجرحى ومنهم من يتابع خدمته الإلزامية والاحتياطية في الجيش العربي السوري، وهاهو الثمانيني حسين علي حسين أو حسين ترزلاكس (تعني الخياط طبعا لم تعمل العائلة بالخياطة هنا كما أن العديد من العائلات بات لها كنيات عربية بالنفوس)، فيتذكر بعينين براقتين ودامعتين كيف شارك بثورة الثامن من آذار وكان اختصاصه مدفعية مضادة للطيران، وكيف نال وسام شرف ورتبة عريف شرف بعد إسقاطه طيارة إسرائيلية بعام 1967م، ليشارك بعدها بحرب تشرين عام 1973م ضمن صفوف الاحتياط وتحت إمرة اللواء محمد شريف فاضل (كان مقدماً وقائد كتيبة ونال لقب بطل الجمهورية حينها)، و يتميز بضرب طائرتين معاديتين ما أنقذ حياة طيار سوري حينها..عائلة من الحميدية

وعند سؤاله عن سوريته ينفعل ويشير ليديه (اقشعر بدنه) ويقول:حميدية 4 مقاهي، وكان الرجال يجلسون ويتسامرون فيها، ولكنها أغلقت جميعها ولم يبق منها شيئ، فيما تقلصت الزيارات والجمعات خلال سني الأزمة التي فرضت عكارتها على الجميع وباتت أغلب الأسر تسهر ببيوتها. وعن الأكلات اليونانية اللذيذة يشير حسين أن زوجته ما زالت تخبز أحياناً الصمون المحبب بالسمن والزبيب، فيما انشغل الشباب بين هموم الحياة والحرب والانترنت..

أما شقيق السيد حسين ومن منزله المتواضع الذي ما زال حتى اللحظة دون تبليط، فيشير لنا بعينين دامعتين إلى صورة ابنه الشهيد المعلقة على باب المنزل ويقول: تسرح ابني الثاني في شباط 2021 ولم أستطع أن أدعمه أو أساعده ليبني حتى غرفة ليتزوج بها.. وهذا ما جعل فكرة السفر حلماً قوياً يراوده كغيره من أبناء هذا الجيل الذي بات يائساً من تأمين معيشته، ويناشد والد الشاب الجهات المعنية لمساعدة ابنه وحل المشكلة التي لن نذكرها وكلنا أمل بأن يستجاب طلبه..

وأعمال شاقة:

عمل السوريون من أصول يونانية في مقالع الحجر الرملي (يوجد حوالي 20 مقلعاً في المنطقة) و كبحارة وصيادين ومزارعين كما عملوا قديماً بحياكة النول..

و يقول الدكتورعلي صولاكي طبيب الأسنان المحبوب في الحميدية بأنه يتذكر حديث والده عن جار جده المسيحي في اليونان، والذي أتى خصيصاً لتفقد أحواله في الحميدية بعد ست سنوات من مغادرته كريت مطمئناً إياه من أنه حفظ بيته وممتلكاته وداعياً إياه للعودة بحمايته إلا أن الجد رفض وقال له بات هنا منزلي وأرضي ولن أعود بعد الآن.. فيما عمل الجد بالزراعة كما عمل بالأغنام وكان يقول لا يرمى شيء من الخاروف بل يستفيد من كل مافيه فمن اللحم للعظم للصوف للقرنين الذين يصنع منهما أيضاً السكاكين وغيرها من الأشياء وطبعاً كانت معرفته بهذا المهنة قد أتى بها من اليونان، فيما لم يبن هؤلاء اليونانيين أي ثروات تذكر، و عن هذه النقطة يبتسم الدكتور صولاكي ويقول: كانت العائلات القادمة من اليونان تحب الحياة وتعيش كل يوم بيومه ولا يفكروا بتجميع الأموال، حتى أن الأجداد أول ما أتوا أرسلوا خبراً للقائم مقام بأنهم لا يريدون كل مساحات الأراضي التي أعطيت لهم حيث زرعوا ما استطاعوا، وبالإمكان توزيع الأرضي على غيرهم لزراعتها! أما الصبية خلود كبساليس فتقول لنا: أمي من عرب الشاطئ و والدي من أصول يونانية وكانت جدتي تحكي لنا كيف أتوا قديماً مع السلطان عبد الحميد وكيف كانت المنطقة مهجورة، وهم أول من سكنها ببيوت قليلة تم بناؤها لهم حينذاك، وعن العادات والأجواء تبتسم كبساليس وهي تتذكر الحلويات والطعام اللذيذ واهتمام جدتها القديم بترتيب المنزل وصنع "التنتة" وهي مشغولات السنارة التي يزين بها الطاولات والمساند..

وعادات فريدة:مواطنة سورية عجوز في الحميدية

عدا الموسيقى اليونانية التي يحبون الاستماع إليها وحب الحياة والسهر والطعام اللذيذ، يتميز السوريون من أصوول يونانية بالتزامهم بزوجة و باحترامهم الشديد لكبار السن، أما عن طقوسهم المميزة في المآتم والأعراس، فيشير مختار البلدة أنهم في مناسبات العزاء يقدمون نوع من الحلوى اليونانية المكونة من الطحين والسمن والقطر مع ماء الورد والتي تحضر على نار الحطب الهادئة مع التحريك المستمر (اسمها خيفا)، فيما يذكر من الحلويات الأخرى المعروفة بينهم (بوريتش ومنغير ورادوريز)، أما في الأعراس، فيتم نقل جهاز العروس قبل يومين من العرس على أطباق من القش بشكل استعراضي مع أغاني فرحة سورية ويونانية ويقدم لحاملي الجهاز مناديل كذكرى، وفي ليلة الزفاف يذهب الرجال مع العريس لصلاة العشاء في الجامع ثم يوصلوه لبيته مع رش الورد عليه ويقدمون له ملعقة جوز وعسل ثم يعطوه كأس مثلاً ليكسره على مدخل البيت، كما يقوم العريس بلصق عجينة على حائط منزله ويضعون زوج سكاكين أو خنجرين ليمر من تحتهم لبيته، أما العروس فيتم وضع ربطة حمراء على خصرها من قبل والدها قبل دخولها لمنزل الزوجية، وبعد الزواج وفي ردة الرجل للعروس لمنزل ذويها على الزوج أن يسرق غرضاً ولو صغيراً يعود لحماته كنوع من المزاح ودلالة على الحرب والهدنة المستمرة بينهما..

أما العائلات المعروفة بالحميدية فهي كما يذكرها المختار (ترزلاكي- جولاماكي- كولافاكي- جولاكاكي- باشازاكي- صولاكي- بولزاكي- أرنفالي- كمزولاكي- بكراكي- صوفاراكي- كردفالي- أفنداكي- موديراكي- بدواكي- كبسلاكي- دمراكي- صوراغاكي- قبضاكي- كولدفاكي- كردلاكي- سقلاكي- مازاكي- قوقولاكي- ارنفاكي- صولفاكي- بصلاكي- سكلاكي- منساكي- ضمراكي- بلالاكي- كيلناكي- منساكي..).

ويختم مختار الحميدية جلسته معنا بأغنية يونانية محببة لديه نترجمها لكم كما قالها: "تماسياسو ماسيامو/ تفرياسو سوزيكامو/ تاشيرسو خريساكليزيا" وتعني (عيونك عيوني، حواجبك حواجبي، ويديكي مفاتيح من ذهب..).