كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

فلاسفة حران وأفاميا وجذور خلايا المنطق الحيوي الكوني

د. رائق النقري

لم تكن أفاميا وحرّان مجرد مدينتين سوريتين في التاريخ القديم، بل كانتا بمثابة خلايا فكرية حية نابضة بتفاعل العقل والروح، شكلت الجذور الأولى لما يمكن تسميته اليوم بالمنطق الحيوي الكوني — منطق يرى أن الوجود كلّه كائن حيّ متوازن بين الشكل والحركة، بين المادة والمعنى، بين التعيّن والانفتاح.
لقد احتضنت المدينتان، منذ العصر الهلنستي وحتى بدايات العصور المسيحية والإسلامية، نخبة من الفلاسفة الذين سعوا إلى توحيد الحكمة الشرقية بالمنطق الإغريقي، فكانت أفكارهم أقرب إلى ما يسميه المنطق الحيوي الحديث بخلايا الوعي الكوني، أي النوى الأولى التي تنبض بقوانين الشكل، الحركة، الاحتواء، الاحتمال، والنسبية.
فلاسفة أفاميا
1. نومينيوس الأفامي (Numenius of Apamea)
هو رائد المدرسة الأفلاطونية المحدثة في الشرق، دعا إلى وحدة الحقيقة بين الوحي والعقل، مؤكدًا أن الفلسفة الإلهية هي لغة كونية تتجلى في جميع الثقافات. مثّل نومينيوس الخليّة التوحيدية للمنطق الحيوي، إذ جمع بين مبدأ الخير الأعلى (الحياة)، والنظام العقلي (العدل)، والروح الساعية للتحرر (الحرية).
وفي فكره تتجلى القوانين الحيوية الخمسة بوضوح: الشكل، الحركة، الاحتواء، الاحتمال، النسبية.
2. بوسيدونيوس الأفامي (Posidonius of Apamea)
فيلسوف كان رواقياً وعالماً في الطبيعة والتاريخ، جمع بين الرياضيات والفلك والأخلاق والسياسة، وسعى إلى فهم الكون بوصفه كائنًا حيًا تحكمه علاقة تناغمية بين النار والعقل والحركة. تمثل فلسفته الخليّة التجريبية للمنطق الحيوي، حيث تتحرك القيم وفق قوانين الطاقة الكونية المتبادلة.
فلاسفة حرّان
1. ثابت بن قرة الحرّاني (Thabit ibn Qurra)
عالم رياضيات وفيلسوف في القرن التاسع الميلادي، جمع بين الفكر اليوناني والعلم العربي، ورأى أن الأعداد ليست مجرد رموز حسابية، بل هي أشكال حية لانسجام الوجود. يُمثل ثابت الخلية العقلية للمنطق الحيوي.
2. سنّان بن ثابت وإخوان الصفا
ورثوا عن تراث حران فكرة التوحيد بين العلوم والطبيعة والدين. في رسائلهم يظهر المنطق الحيوي في صورته الأخلاقية، إذ يرون الكون جسدًا حيًا، والإنسان خلية واعية فيه، تتوازن بين الخير والشر عبر تربية النفس والعقل.
3. الصابئة الحرّانيون
شكلوا الجذر الأعمق للاتجاه الروحي–العلمي الذي ربط العبادة بالمعرفة، واعتبروا النجوم رموزًا للانسجام الكوني. في رؤيتهم نلمح البذرة الروحية للمنطق الحيوي.
وحدة التيارين – أفاميا وحرّان
لقد التقت أفاميا وحرّان في تكوين شبكة الوعي الحيوي الكوني؛ الأولى مثّلت البعد الميتافيزيقي والفلسفي، والثانية مثّلت البعد العلمي–الرياضي–الطقسي. ومن تفاعلهما نشأ تيار فكري يرى في الإنسان مرآة الكون، وفي الكون امتدادًا للذات العارفة، تمامًا كما يعبّر عنه المنطق الحيوي في قوانينه الخمسة وثالوثه الكوني (الحياة – العدل – الحرية).
من المنطق الكوني إلى المنطق الحيوي المعاصر: الجسر نحو ياسمين–رائق
إنّ ما بدأ في أفاميا وحرّان من سعي لتوحيد الوحي بالعقل، والروح بالمادة، لم يكن مجرّد مرحلة منسية من تاريخ الفلسفة، بل هو ما يمكن اعتباره الخلايا الجنينية الأولى للمنطق الحيوي الكوني الذي أعاد رائق وياسمين النقري إحياءه في العصر الحديث.
لقد شكّلت رؤى نومينيوس وبوسيدونيوس وثابت بن قرة سلسلة فكرية تبحث عن قانون يفسّر حيوية الوجود في توازن الشكل والحركة والاحتواء والاحتمال والنسبية.
ثم جاء المنطق الحيوي عند النقريّين ليعيد قراءة هذا الإرث ضمن رؤية علمية تربوية معاصرة تربط الفلسفة بالحياة اليومية، والعقل بالعدالة الكونية، والحرية بقدرة الإنسان على تعويض قصوره وتوليد مفارقاته الإبداعية.
بهذا يكون المنطق الحيوي المعاصر هو الامتداد الطبيعي للمنطق الكوني القديم — جسرٌ يصل بين أفاميا وحرّان من جهة، وبين باريس ودمشق ودبي من جهة أخرى — ليؤكد أن الفكر الإنساني، في جوهره، كائن حيّ يتطور عبر الذاكرة الكونية للوعي المشترك.