كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الورم الخبيث.. ترجمة: اسكندر حبش

مريم البسّام

أن تقول: إسكندر حبش في زماننا الصحافي والأدبي، فذلك لم يكن اسمَ عَلَم، إنّه اسمٌ علَّمَ فينا دون معرفة شخصيّة، حالةٌ وهالةٌ وفكرةٌ مُتَرجَمة ومُعرَّبة ومنسوجة على ثقافةِ غربٍ وشرق.
الناقدُ في جريدةِ السفير، المستخرجُ من ميثاقيّةِ “حبش” الواردةِ نصُّها بكلّ لغةِ حبّ الأرض والهويّة، تُخشاه على صحّةِ السلامة، وتحتسبُ لنقدِه ورأيِه بلا أدنى لقاء.
نخسرُ كلَّ يومٍ أصدقاءَ ومعارفَ وصُحبةَ كار ، لكن أن تهزّك خسارةُ كاتبٍ صحفيّ وناقدٍ لم تعرفْهُ إلّا من خلالِ فكرِه الواسع! فالخسارةُ هنا متراكمةٌ لعدمِ توفّرِ لحظةِ لقاء، وعليك أن تقولَ له: إلى اللقاء؟
يعلّمك، من هزَّ الكتابَ بيمينِه وأرْداه مُعرِّبًا بتقديمِه، فلسفةَ المرضِ ومُخاوَاته، لتخوضَ معه حربًا كيماويّةً ومنازلةً وجوديّة.
يهزُّ إسكندرُ الوجعَ كما الكتبَ، التي يرفع عنها حواجزَ الترجمة، لتلتقي مع كبارِ فلاسفةِ وكُتّابِ العالم دونَ عوائقِ اللغة.
هذه قصائدُ كيرككورد فيلسوفًا دينيًّا، للمفكّرِ الروسيّ ليون شيستوف، وهذا اليابانيّ يوكيو ميشيما يموتُ في منتصفِ الصيف، ويحزنُ ذبابُ الخريفِ للروسيّة إيرين نيميروفسكي، وتأتي سلسلةُ إميل زولا لتصحبنا عند الحقول ومن أجلِ ليلةِ حب،
هكذا تكلّم الإيطاليّ أومبرتو إيكو على صفحاتِ إسكندر، وهكذا خرجَ للتوّ عبد الرحمن منيف من مدن الملح ليشتبكَ مع القراءة والنسيان في حواراتٍ من خارجِ نوافذِ التيه وباديةِ الظلمات.
كان إسكندر يراكمُ مكتبةً غنيّةً بالفكرِ والمفكّرين، عاشَ بينهم كنصفِ تفّاحة، ورسمَ “بورتريه رجل من معدن”.
شكا لنا الخريف، وأقام بين غبار، وقال في إحدى
إصداراتِه: “لا أملَ لي بهذا الصمت”.
لكن أبعدَ من كلّ مؤلّفاتِه وترجماتِه كانت رحلتُه مع ما أسماه “السيّد سين”، ذاك المرضُ الخبيث الذي لازمَ إسكندر حبش، فحاربَه بغزارةٍ تحت مبدأ: “ثمّة ألمٌ آخرُ لم نكتبْه بعد”.
قرأتُ عنه في رصيف 22:
“كان يرى أنّ السرطان كما الحياة، حادثٌ عابرٌ وعارض، حيثُ الموتُ هو الحقيقة. نحن نولدُ لنموت. الرهانُ هو كيف نتقبّل موتَنا. نحن نحيا في هذه الحياة كي نرتّبَ موتَنا في نهايةِ الأمر”.
وهكذا أصبحت يوميّات السيّد سين روايةً لمرحلةِ السرطان، يدوّنُ في إحداها:
“ما أشعرُ به هو حالةُ الحربِ الدائمةِ التي أعيشُها. حربٌ ضدّ من؟ ضدّ السيّد س؟ من هو فعلًا هذا السيّد س الخاصّ بي؟ إنّه أنا. الأورامُ مصنوعةٌ منّي، تمامًا كما أنّ عقلي وقلبي مصنوعان منّي. إنّها حربٌ أهليّةٌ تمّ اختيارُ الفائزِ بها بالفعل”.
في تكريمِه لدى محفلِ خيراتِ الزين الثقافي، قرأ حبش بعضًا من قصائدَ ومقطوعاتٍ تأمّليّةٍ مرويّةٍ عن رحلةِ العلاج، حيث يقول:
“نوبةٌ تستمرُّ يومين على أقلّ تقديرٍ أتعلّمُ فيها كلَّ لغاتِ الصبر، وأتعرّفُ إلى جسدي من الأوّل بسبب الجرعاتِ الكيماويّة. تأتي النوبات، تتصاعد، كأنّها عزفٌ موسيقيّ. أشعرُ باليأسِ حين تبدأ، لكنّه يبقى ليُكمِلَ معزوفته إلى ما لا نهاية. وعندما يشفقُ عليّ، أدخلُ في نوبةِ تعبٍ وإرهاقٍ، فألجأ إلى النوم. وبين كلّ ذلك أحاولُ أن أبحثَ عن إنسانيّتي. لا النضجُ ولا الكتبُ التي قرأتُها ولا العلاقات، فلا شيء في مثلِ هذه اللحظات سوى وجهي إلى الحائط. ليست الحياةُ الآن سوى سلسلةٍ من عوالمَ لا تنتهي، وليست التفاهاتُ التي نعيشُها سوى حكرٍ على الأحياء. كلُّ شيءٍ تفكّك في جسدي، كلُّ شيءٍ يذوي، يموت، وأنا على سريري أنتظر، وعليَّ أن أتقبّلَ ذلك”.
مُغرَّبًا مُعرَّبًا، كان إسكندر محفلَ فكرٍ وموسوعةَ تنوير، وناقدًا وشاعرًا شيّدَ رحيلَه بهندسةٍ معماريّةٍ ورقيّة.
غابَ ابنُ اللدّ وبيروت، تعبتِ المدنُ من الإقامةِ بين ضلوعِه، وتعبنا نحن من الخساراتِ التي يراكمُها المسترُ اللعين.
رحل على صورة ما كتب:
“بابٌ مواربٌ،
كهذا الليلِ القديم،
تُمسكُ بيدِك ثلجًا متمهّلًا.
الرمادُ منذورٌ لمستقبلٍ شيّدتَه
في ظلّ ما تحذفُه من أيّامِك.
تحذفُ نفسَك أيضًا
من فصولٍ أحببتَها بطرقٍ مختلفة.
لا طريقَ بعد
إلّا عبرَ هذا البابِ الموارب،
عبرَ إقامةٍ في غبارٍ لم يكن يملكُ أرضًا،
لتشيّدَ عليه قبرًا كي ترتاحَ أيّامُك المتبقّية"
الى اللقاء