شخصيّات من طرطوس.. لقاء مع الباحث الاقتصادي عبد اللطيف عباس شعبان
محاورة أبي حسن مع الباحث الاقتصادي عبد اللطيف عباس شعبان/عضو جمعية العلوم الاقتصادية – نائب رئيس فرع الجمعية في طرطوس – عضو مشارك في اتحاد الصحفيين/
بعد توقف نحو العامين عن اجراء لقاءات وحوارات مع شخصيّات ووجوه من محافظة طرطوس (منهم العلّامة المحامي الدكتور أحمد عمران الزاوي، الفنان جورج عشي، فضيلة العلّامة الشيخ محمد علي يونس، المربي الكبير الأستاذ أحمد لطش، ود. الحقوقي المعروف جورج جبور، والنهضوي المناضل الأستاذ محمود يونس... الخ) تعود فينكس لهذه اللقاءات، لتقف مطولاً مع الاقتصادي والباحث والناشط الأديب عبد اللطيف عباس شعبان، الذي يكاد يطرق أبواب الثمانين من عمره، وهو مُفعم بنشاط الشَّباب وحيويته من خلال عطائه على أكثر من صعيد، ولعلَّ أبرز نشاطاته في السنوات القليلة الماضية هو إنشاء المكتبة الأهلية في بلدية "الجرويه"- منطقة صافيتا، تلك المكتبة التي أمستْ علامة فارقة في محافظة طرطوس، بلْ وعلى مستوى الساحة السورية، بدلالة اتِّساع قاعتها وعدد كتبها ومن خلال نشاطاتها النوعية والمتميزة، والمدعومة من اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة والاتحاد العام للفلاحين.
تعمّدنا في هذا اللقاء أن نقف مطولاً، وبأكبر قدر مُمكن من الوضوح، عند تفاصيل الحياة في ريف الساحل السوري في خمسينات القرن الماضي، بدءا من البيت القديم، ونعني بيت "اللبن والطين" وكيفية بنائه، وماهي مكوِّناته، مروراً بندرة المدارس، وليس انتهاء بمشقَّات الحياة على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي، وآية ذلك كي تكون هذه التفاصيل بمثابة وثيقة من قبل من عاشوها بكل ما فيها من معاناة ومرارة، لكنها لا تخلو من لذَّة وحلاوة منبعها الصدق مع الآخر والذات، والجهاد في سبيل غد ٍأفضل.. لتكون وثيقة تؤكّد كيف عاش آباؤنا وأجدادنا.. كيف ناضلوا وجاهدوا لتحسين شروط حياتهم في واقع يفتقد لأبسط مقومات الحياة.
والآن إلى الحوار مع الباحث الاقتصادي عبد اللطيف عباس شعبان:
نسأله عن طفولته، وعن وضع البيئة التي نشأ فيها من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية، وعن الوضع الاقتصادي لعائلته وفي أية ظروف تعلّم، فيجيبنا:
النشأة في بيت اللبن والطين.. وحديث عن المعاناة في التعليم والحياة
ولِدتُ في قريتي "الجرويه" منطقة صافيتا يوم 10 / 12 / 1949 ونشأت في أسرتي الفقيرة التي تعمل بالزراعة، وتسكن في منزل مبني من الحجر والخشب والتراب بمساحة / 60 م2 / مفتوحة على بعضها بمثابة غرفة واحدة، يحمل سقفها الخشبي الترابي /بارتفاع 2.5 م/ جسور خشبية يسمَّى كل منها "وصل" باللهجة المحلية، محمولة على أعمدة خشبية تسمى سواميك (يوجد على بعضها حمالة جسور خشبية من جهتين تسمى منارة)، وعلى جدران المنزل الأربعة الخارجية / كل جدار بعرض / 75سم / مؤلف من طبقتين جانبيتين من الحجر زنة الواحدة ما بين / 10 – 50 كغ/ وبعضها أكبر، وبينهما حجر صغير زنة الواحدة حوالي / 500غ/ ، وجدارين من المنزل مشتركين مع منازل الجيران، وعلى الجسور الخشبية أخشاب صغيرة كل منها بطول حوالي مترين متباعدة قليلا عن يعضها، ومن ثم يوجد على الأخشاب الصغيرة هذه أخشاب أصغر متراصة قرب بعضها كل منها بطول حوالي / 50 سم/، وفوق الأخشاب الصغيرة يوضع البلان الذي هو نبات حراجي بري ناعم الغصون وصغير الورق، يتم رصه ليحمل التراب الذي يوضع فوقه، ومن ثم الطينة الترابية العلوية.
وللمنزل باب واحد من الجهة الشمالية بارتفاع 180 سم وعرض 90 سم، ونافذة واحدة فقط من جهته بارتفاع 90 سم وعرض 50 سم، وكان في الجدار الداخلي المشترك مع جارنا طاقة صغيرة بيننا نستخدمها لتناول هدايا الأطعمة أو بعض الحاجات أو الحديث القصير حول أمر ما، وهذا كان حال الكثير من المنازل في الريف الساحلي، وكان سطح منزلنا وسطح ثمانية منازل متصلة مع بعضها للأقرباء ونتزاور صيفا من على السطوح، وكان الكثيرون ينامون على الأسطح خلال أشهر الصيف كشفا أو تحت خيمة من خشب وأغصان الأشجار.
عشنا في هذا المنزل الذي يؤوينا أنا وأسرتي مع حيواناتنا الزراعية /أربع بقرات وأربع غنمات وحمار وعشرة دجاجات / جنبا إلى جنب مع أسِرَّة نومنا الخشبية والأرضية، وفي جهة من أرض المنزل كانت موقدة نار الحطب المكشوفة للطبخ والتدفئة أيام الشتاء، ودخان النار يملأ المنزل عند كل اشتعال، وكان بالقرب من الموقدة عمود خشبي صغير بارتفاع / 80 سم / مزركش قليلا يسمي المِشْرِزَة (يحمل سراجاً عبارة عن علبة معدنية صغيرة من التنك سعة / 50 سم3 / معبأة بالكاز الذي ضمنه فتيل قطني يتم إشعاله من رأسه ليؤمن الإنارة في المنزل، وعند اشتعاله يملأ المنزل بدخان الكاز. وبعد حصولي على الشهادة الثانوية عام /1967/ اشترى لي والدي بلورة إضاءة بمبدأ السراح نفسه، إلّا أن خزان الكاز بلوري والفتيل محاط ببلورة تخفف من دخانه.
كان لمنزلنا باب داخلي يفتح إلى منزل داخلي يسمَّى البيت الجوَّاني المخصص لمئونة أسرتنا ومئونة حيواناتنا، بمساحة / 50 م2 / مفتوحة على بعضها وسقفها محمول على جسور خشبية محمولة على أعمدة خشبية، على غرار المنزل الخارجي وعلى الجدران الأربعة (ثلاث منها مشتركة مع الجوار)، ليس لهذا المنزل أي باب خارجي ولا أية نوافذ، عدا نافذة دائرية في السقف فقط قطرها بحدود 25 سم نغطيها ببلاطة حجرية أيام المطر، وعند الانتهاء من البيدر (موسم حصاد ودرس القمح والشعير) كنَّا نثقب فوهة بقطر / 50 / سم في سطح البيت الجواني لننزل منها أكياس تبن الحب الذي نخزنه لغذاء المواشي، ومن ثم نغلقها للموسم القادم.
وباب منزلنا مفتوح على دار خارجي /60 م2/ له باب خارجي يفتح على طريق داخلي في القرية والذي كان يقال له حينئذ الزاروب، وكان في زاوية الدار الشمالية الشرقية غرفة صغيرة (تتسع لسرير وكرستين تنام فيها زوجة والدي السابقة لأمي /لم تنجب، ومن المتفق أن تنادى مني ومن أخوتي بكلمة خالتي)، وكان في وسط الدار جرن الدق وهو حجر بزنة /60/ كغ مجوفة في وسطها حيث تضع فيها والدتي كيلوغرام من القمح وتدقه عشرات المرات بمدقاق من حجر أسود بازلتي – زنة /4 كغ/ اسطواني الشكل بطول /25 سم/ وقطر/15 سم/ لغاية تحضير القمح لطبخة تعرف باسم القمحية يضاف لها بعد الطبخ العيران - اللبن المسحوب منه السمنة – وفي زاوية من الدار قطعة قماش تستر من يتحمم فيها، وفي زاوية أخرى يوجد الدرج الحجري الذي نصعد عليه إلى السطح، وتحت الدرج كوة بحجم متر مكعب هي المطبخ الصيفي بدل الموقدة الشتوية الداخلية، ولم يكن الصرف الصحي موجودا، إذ كان التخلص من الفضلات يتم في الأراضي الزراعية المتاخمة للقرية.
وفي كل عام كنا نضع الطين الترابي مع التبن (أغصان نبات القمح المفتتة بنعومة لتقوية الطين) على سطح المنزل لمرة واحدة نهاية فصل الصيف، وكنا ندحله في الشتاء كل يوم بمدحلة حجرية اسطوانية دائرية بزنة /60/ كغ، موصولة بقوس من الحديد نجرها به، حيث نقلبها عليه مئات المرات مساء كل يوم متوقع مطره لغاية رص تراب السطح لمنع تسرب ماء المطر من ترابه إلى داخل المنزل، ومع ذلك كان الماء يتسرب أيام المطر الكثير إلى داخل المنزل في أكثر من مكان بما في ذلك أمكنة النوم، والماء المتسرب يسمى الدَّلف ويكون أصفر اللون مائل للسواد، نتيجة مروره على خشب السقف المشبع بدخان الموقدة ودخان السراج. وأحيانا وخاصة في الشتاء كانت تسقط بعض القطع الخشبية الكبيرة أو الصغيرة من السقف نتيجة اهترائها ما يستدعي المسارعة إلى تبديلها، وهذا كان حال أغلب مساكن الأسر الريفية، وخاصة في الساحل وغرب محافظات حمص وحماه وادلب.
لقد أنهيت دراستي الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية تحت سقف هذا المنزل المتواضع، ولم أعرف الطبيب لا أنا ولا أحد من أسرتي طيلة سكني فيه، وقد احتجت الطبيب لأول مرة عندما سكنت في حلب أيام السنة الثالثة من دراستي الجامعية، فيما والدي احتاج طبيباً بعد أن قطع عمر الـ/ 75 عاماً/، ورغم حالتنا السكنية المذكورة مع حيواناتنا لم نكن نشعر بالبعوض ولا بالذباب ولا بالرائحة الكريهة لروث الحيوانات، و تميَّز منزلنا عن كثير من منازل القرية بوجود بئر ماء مخروطي الشكل ضمن الدار بعمق ستة أمتار، كان قد حفره والدي في الصخر من فوهته العلوية الدائرية الضيقة /بقطر 50 سم/ حتى أسفله الدائري بقطر/ 4 م/، حيث كنا نملأه بالماء من مزراب سطح المنزل خلال فصل الشتاء، ولم يكن يكفينا ماؤه إذ كنا نسقي المواشي في الشتاء من رامة القرية ومن "عين الرويمات" و"نبع الدبدابة" المتاخمين للقرية، ومن مياه "نبع الغمقة" المجاور و"نبع الجرف" القريب منه، وكنا في الصيف نجلب بعض مياه الشرب من "عين ضهر صبيح" (2كم عن قريتنا) و"عين الكرم" (4.5 كم عن قريتنا)، وكانت والدتي كغيرها من نسوة القرية تحمل غسيلها وننزل معها لتغسلنا وتغسل ثيابنا على "عين المحيضبة" (وكان ماؤها ضعيفا) الموجودة في الوادي شرق القرية (1كم) مرة كل أسبوع أو أكثر.
تربيت في أسرتي على الحلال، وكان طعامنا من إنتاجنا الزراعي حبوباً وخضاراً وثماراً وزيت زيتون، ومن الحيواني حليب ولبن ومشتقاتهما وبيض ولحم دجاج في مناسبات الأعياد وعند حلول الضيوف، وكانت مشترياتنا من المتاجر تقتصر على الأقمشة ومواد قليلة جدا منها بعض الحلويات، وخاصة في المناسبة الرئيسية مع أول كل سنة ميلادية، حيث كان من المتعارف بأنه عيد الحلوة، وكنا نجفف ثمار التين ونصنِّعها على شكل عجينة نتناولها طعاما شهيا في الشتاء، وغالبا كانت قطعة منها أو بصلة كبيرة أو قرص شنكليش (قريش مخمر مستخرج من اللبن المسحوب منه السمنة) أو بعض حبات من الزيتون مع رغيف خبز، هي زاد من يذهب خارج البيت للعمل الزراعي، أيضا كنا نخزِّن ثمار شجرة الخرنوب لنأكل بعضها أثناء السهرة مع الضيوف، والخبز الذي كنا نأكله كان يتم عجنه وخبزه على التنور بيد والدتي كل يومين مرة، وطحينه كان من حبوب القمح أو الشعير أو الذرة حسب المتوفر، وطحين القمح هو الأفضل، وكان في قريتي طاحونا على الكاز (تسمى طاحون نارية) يطحن بها أهالي القرية والقرى المجاورة حبوبهم بأجور رمزية، وأيضا كان يوجد على تخوم أراضي قريتي ثلاث طواحين مائية تعمل على ماء نبع الغمقة خلال أيام الشتاء، يطحن فيها أهالي القرى المجاورة وعشرات القرى البعيدة.
وأتذكر أن والدَيَّ كانا يخصصان نسبة كبيرة من إنتاجنا القليل من الحليب إهداء لمن ليس عنده من الجوار والأقرباء والأصدقاء، حتى لم تكن حصتنا من حليب بقرنا تتجاوز الثلث، فيوم للأقرباء ويوم للأصدقاء ويوم لنا، وكنا نبيع كل عام واحد أو اثنين من حيواناتنا المعمرة أو الصغيرة، إضافة إلى إنتاجنا من دودة الحرير، ونستفيد من ذلك لصالح مشترياتنا من الألبسة وحاجيات أخرى، وكان أبي يعطيني الوفر القليل من النقود لأخبئُه وأنا صغير السن، وكانت والدتي تقول له: "عبد اللطيف صغير السن لا تكلّفه بذلك"، ولكن كان يجيبها: "أنا لي به ثقة كبيرة"، وكانت أمي تقول لي: "يا ابني احرص على ما يعطيك أبوك ولا تضيّعه، والمثل يقول من أمَّنك لا تخونه ولو كنت خوَّان"، وحدث أن تجمع لدينا ذات عام /400/ ل. س ووفّقْنا يومئذ (بداية ستينات القرن العشرين) بشراء عقار فيها يحوي /15/ شجرة زيتون مثمرة، وسنة دخولي في الجامعة عام/1967/ اضطر والدي أن يبيع ثور الفلاحة (عمره أربع سنوات) بـ/400/ ل. س لصالح نفقاتي في حلب، وأيضا استدان من الغير أكثر من مرة، ومنهم المرحوم محمد المحفوض من قرية رأس مندو المجاورة لقريتنا، واستدنت من زميلي الجامعي عيسى علي سلمان (الشيخ بدر).
ومن الجدير ذكره أن الباحث شعبان تخرج من جامعة حلب بداية صيف عام / 1971، وفي هذا الصدد يتذكّر ويقول: توفَّى والدي أواخر أيام عام 1971 عن عمر /79/ عاماً عقب أشهر من تخرجي من الجامعة، وكانت ديوننا حوالي ألفي ليرة سورية بتلك الأيام، والحمد لله وفَّيتُها خلال عام من أجوري في التعليم لمدة عام دراسي كامل /1971 – 1972/ في قرية "فجليت" ومدينة "الدريكيش".
التحقت بالخدمة العسكرية بصيف / 1972 / وأثناء وجودي تعرضت المدرسة العسكرية /م. ط/ في اللاذقية لقصف الطيران الاسرائيلي واستشهد بعض زملائي - رحمهم الله- وخلال الدورة تقدمت إلى مسابقة رئاسة مجلس الوزراء وكان ترتيبي الرابع بين الناجحين وتم تعييني في المكتب المركزي للإحصاء في دمشق أثناء وجودي في الخدمة العسكرية (خدمت برتبة ملازم مجند اختصاص دفاع جوي، وكنت ممن شاركوا في حرب تشرين التحريرية عام /1973/، وقد أُهْديت من القيادة العسكرية ساعة سايكو يدوية لا زالت في معصمي حتى اليوم)، وعقب انتهاء خدمتي العسكرية في 16 / 1 / 1975 نقلت وظيفتي من دمشق إلى مديرية إحصاء طرطوس وأمضيت فيها خدمتي الوظيفية، وهنا لا أنسى الدكتور أحمد رجائي /مدير المكتب المركزي للإحصاء يومئذ – رحمه الله/ ألذي ألح على إبقاء عملي في دمشق وهو يقول لي: "مستقبلك يا عبد اللطيف هنا في دمشق سيكون أفضل بكثير من طرطوس، أنصحك ألا تنتقل"، فشكرته ورجوته الموافقة لأن ظروفي العائلية تتطلب وجودي في طرطوس، فوافق وقال لي: "هذا قرارك وليس قراري أرجو لك التوفيق". إذ كنت أعرفه منذ نجحت في الصف الثالث الجامعي، إذ طلب يومئذ من عميد كليتي الدكتور محمد عادل عاقل أن يرشح له طالباً متفوقاً من طلاب قسم الإحصاء في الكلية ليشارك المكتب – في دمشق – في تنفيذ أول مسح إحصائي للمؤسسات الصناعية يجريه المكتب وقد تم ترشيحي لهذه المهمة وشاركت فيها لمدة شهر، وبنجاح. وهنا أتذكّر أنني فصّلت طقماً بقيمة 150 ليرة سورية خلال السنة الأولى من عملي الوظيفي، وفي العام نفسه تقدّمت بطلب قرض تسليف شعبي بقيمة 600 ليرة سورية تُسدد لمدة عام من راتبي وبمبلغ 50 ليرة كل شهر، وتابعت استلاف القروض باستمرار كل عام حتى نهاية خدمتي الوظيفية، كما أخذت قرضاً بعد التقاعد.
منذ الأيام الأولى لتخرجي من الجامعة بدأت بيدي حفر أساس منزل لي في الجهة الغربية من القرية، وتابعت تجهيزه حجرا بحجر وجدارا بجدار يوما بيوم شهرا بشهر عاما بعام، في ضوء إمكاناتي المادية إلى أن أصبح ثلاث غرف صالحة للسكن عام /1978/ مع فرندة تحتها خزان ماء أرضي إذ لم تكن توجد شبكة مياه حينئذ في القرية، وبالتوازي مع البدء لإعداد المنزل كنت أعد لعلاقة زوجية مع طالبة أديبة مجتهدة قريبتي (كانت في الصف السابع)، وتنامت العلاقة تدريجيا إلى أن تخرجَّت من دار المعلمين نظام السنتين، وتم زواجنا في 23 / 7 / 1978 في البيت الجديد المكون من غرفة لي ولزوجتي، وغرفة لوالدتي وخالتي، وغرفة لأخي وللضيوف، ومطبخ خارجي مسقوف بالتوتياء، وهجرت البيت القديم الذي هدمته لاحقا وبنيت مكانه غرفتين من البلوك والحديد والاسمنت لا زالتا على الهيكل/ وأنا أردد بيت الشعر:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ..... وحنينــه أبــدا لأول منــزلِ
وفد أنجبت من زوجتي المعلمة نجيبة شعبان ثلاثة أبناء هم: المهندس المدني حسان والمهندس الكهربائي باسل والمهندس الزراعي أحمد وابنتي المعلمة نغم، وزوجات أبنائي معلمات وزوج ابنتي مدرس وجميعهم استلموا عملاً وأنجبوا" وأما بنعمة ربك فحدث"
الحالة التعليمية
وعندما نسأله عن حالته التعليمية الدراسية وعما تعلمه في البدايات، لاسيّما أنه عاصر مرحلة ما كان يُعرف بالخطيب، ومن ثمّ كيف دخل المدرسة في بيئة كانت تفتقر إلى المدارس، يجيبنا:
كانت المدارس قليلة الانتشار في خمسينات القرن الماضي، وقد تكرم عليَّ والدي بأن وضعني عند شيخ القرية /ابن عمي الشيخ شعبان عبد الهادي شعبان/ لأتعلم القراءة والكتابة بالقرآن الكريم (الذي كان هو الكتاب الرئيس في منزلنا، مع كتاب ثورة المجاهد الشيخ صالح العلي ضد المستعمرين الفرنسيين لمؤلفه الأستاذ عبد اللطيف اليونس)، وطرق الحساب، وكان عمري /6/ سنوات، وخلال عام أتقنت ربع ياسين قراءة وكتابة، ومع بداية العام الدراسي /1957- 1958/ رغبت ورغب والدي أن يسجلني في مدرسة "الأسقف" الابتدائية القريبة من قريتي، وقد سألني مدير المدرسة الأستاذ دباح الموعي /رحمه الله/: "هل تحسن القراءة والكتابة؟"، قلت له: "نعم"، فاختبرني، وقرر أنني أستحق الدخول في الصف الثالث مباشرة نتيجة قراءتي للقرآن الكريم، ولكن لا يستطيع قبولي (وكان معي زميل من قريتي) لعدم وجود مقعد، ومطلوب أن نشتري مقعداً على حسابنا، وقد قبلنا، واتفق والدينا على شراء مقعد مدرسي لتلميذين من صافيتا بمناصفة قيمته بيننا، من عند النجار "ابراهيم علي /أبوفايز- قرية مجدلون البستان رحمه الله/"، وبلغت قيمته يومئذ /15/ ليرة سورية، واصطحبنا المقعد إلى المدرسة على حمارنا من مدينة صافيتا إلى مدرسة قرية "الأسقف"، وأمضينا العام الدراسي خمسة صفوف في غرفتين من الحجر والخشب والتراب لمختار القرية مع معلمين اثنين للصفوف الخمسة هما المعلم "دباح الموعي" و"المعلم سمير خوري"، وفي تلك الفترة كان الناجح في الصف الخامس يمنح الشهادة الابتدائية، وفي ذاك العام الدراسي تحققت الوحدة السورية المصرية باسم الجمهورية العربية المتحدة، وبعد نهاية العام الدراسي انتقلنا إلى مدرسة "رأس مندو" المحدثة مجددا والأقرب لقريتنا، وطلبت وزميلي أن نستعيد المقعد مع طلب النقل، ولكن المدير قال لنا لقد أصبح المقعد ملك المدرسة ولم يعد لكم، وبعد أن أمضيت العام الدراسي للصف الرابع في مدرسة "رأس مندو" مع معلم واحد هو "بهجت الموعي- رحمه الله" لجميع الصفوف وفي غرفة واحدة، اتفقت مع والدي للانتقال إلى مدينة صافيتا (مسافة 5 كم عن قريتنا) إلى مدرسة "أكثم بن صيفي" الابتدائية، وقد أمضيت فيها الصفين الخامس والسادس مع معلم لكل صف، وكان أحدهم من مصر التي كانت تعرف يومئذ (أيام الوحدة السورية المصرية) باسم الاقليم الجنوبي وكانت سورية الاقليم الشمالي، وأتذكر من المعلمين مدير المدرسة المعلم "ناجي بشور" -وكان ابنه همام في صفي- والمعلم "سمير جبور" والمعلمة "سعاد"، وكنت أذهب مع رفاقي من القرية والقرى المجاورة إلى المدرسة سيرا على الأقدام صيفا شتاء في الحر والقر، وكثيراً ما كنا نعاني من قطع نهر الغمقة في أيام الشتاء، وكان دوام المدارس حينئذ قبل الظهر وبعد الظهر باستراحة فاصلة ساعة ونصف، وكنت - كزملائي أبناء القرى- أصطحب معي طعام (الزوادة) أتناوله في فترة الاستراحة، ومن كان معه خرجية فرنك أو فرنكين يشتري فيها أثناء الفرصة من بائعة تجلس قرب ساحة المدرسة أو من التجار القريبين أثناء الاستراحة النهارية، وكان الفرنك (1/ 20 من الليرة السورية) يشتري يومئذ قطعة معمول أو /100/ غرام حمص مملح، والفرنكين قطعة أكبر، أو 200 غرام أو شعيبية أو 200 غرام تمر أو هريسة.
من المعروف أنه لم تكن توجد طوال تلك الفترة أية مدرسة حتى ابتدائية في قرية "الجرويه"، وهذا ما يؤكده لنا الباحث شعبان بقوله: "لم تكن ثمة مدرسة في قريتي"، ليحدثنا عن بدايات إحداث المدرسة الابتدائية في قريته بما سبقها و واكبها من ارهاصات، مستطرداً: لكن أثناء وجودي في الصف السادس كان أهل قريتي قد أكملوا بتعاونهم بناء مدرسة من غرفتين، واتفقوا أن يخبروا السلطة لإحداث مدرسة لهم فيهما، وقد قرر المختار "أحمد عبد الكريم" وعضو الهيئة الاختيارية "جميل حيدر" - رحمهما الله - اصطحاب أطفال القرية - العشرين يومئذ – إلى مكتب مدير منطقة صافيتا (وكان اسمه يومئذ "أدهم عكاش") ليطالبوه بإحداث مدرسة في الغرفتين، وطلبوا مني أن أغادر مدرستي وألتقيهم أمام السرايا، وعندما اصطفينا وراء بعضنا وأمامنا المختار وزميله ودخلنا مكتب مدبر المنطقة صاح بنا بصوت عالي: "من أنتم؟ لماذا دخلتم؟ اخرجوا، وليبقى أنت وأنت" - وأشار إلى المختار وزميله- وهذا الطفل (ويقصد أنا إذ كنت أكبر الأطفال الموجودين)، ثم قال بصوت عالي: "ماذا تريدون؟"، فرد عليه السيد "جميل حيدر" بصوت عال: "هؤلاء الأطفال يريدون مدرسة لهم في قريتهم، وقد بنى أهاليهم غرفتين جاهزتين من حسابهم"، فرد مدير المنطقة بصوت هادئ: "قدِّموا لي غدا طلبا بذلك"، ومساء كتب الطلب بخطه الجميل ابن عمي (معلم القرآن الشيخ شعبان)، وثاني يوم سلّمه المختار إلى مدير المنطقة، وبعد أيام عاد الطلب من دمشق ممهورا بالموافقة على أن يكون كاتب الطلب مدرساً فيها نظراً للخط الجميل للشيخ شعبان، ولكن الشيخ شعبان لم يكن يحمل أية شهادة علمية تخوله ذلك، وتم افتتاح المدرسة بمعلمين اثنين هما الأستاذ "دباح الموعي" الذي انتقل من "الاسقف" لها والأستاذ "سعيد محمد" المُعيّن مجددا.
بعد نجاح الباحث عبد اللطيف عباس شعبان في الصف السادس الابتدائي من مدرسة "أكثم بن صيفي" (وحينئذ أصبحت الشهادة الابتدائية تمنح عند النجاح في الصف السادس)، تايع دراسته في ثانوية "بني صافيتا"، وأفادنا أنه بعد حصوله على الشهادة الإعدادية، اصطحبه والده إلى مدينة صافيتا، واشترى له قطعة قماش جوخ إنكليزي بمبلغ أربعين ليرة سورية، وخاط منها بنطالاً بأجرة خمس ليرات. وتقدّم بعدئذ إلى دار المعلمين في مدينة حمص (نظام أربع سنوات بعد الثالث الإعدادي)، ووفق أنه لم يُقبل، ويذكر أنه تضايق حينئذ من سؤال أحد أعضاء اللجنة لماذا اسم قريته "الجرويه"، والطريف في الأمر أنه بعد سنوات استضاف شعبان بعض طلاب المعسكر الطلابي القطري الإنتاجي الذي أُقيم في قريته ولكن أحد الطلّاب قال له: "قريتكم جميلة وأهلها كرماء، ولكن أن اسمها غير جميل"، ما دفع باحثنا لأن يجري تحقيقاً حول كلمة "الجرويه" ليقدمه في محاضرة أمام طلبة المعسكر ويثبت من خلالها أن الاسم الحقيقي للقرية هو "الجراوئ" وآتٍ من كون القرية مصدر ماء بدليل مياه الينابيع الجارية ووفرة الآبار فيها، ويشير إلى هذا المعنى أيضاً بيت الشعر لابن الأعرابي الذي وجده في القاموس وهو:
ألا لا أرى ماء الجراوئ شافياً صدايا وإن روى غليل الركائب
إذ أن القرية مشهورة بمائها من خلال مجاورتها لنبع الغمقة الغزير ووجود عشرات الآبار الصخرية القديمة الكائنة في أراضي القرية، ويبدو أن اسمها المكتوب "الجرويه" يعود للكاتب الذي كتبه لأوّل مرة استناداً للتصحيف الذي عادة ما يستخدمه الناس في كلامهم العاميّ.
وبعد أن حصل الباحث شعبان على الشهادة الثانوية الفرع العلمي عام /1967/، انتسب إلى جامعة حلب – كلية العلوم الاقتصادية وتخرج منها عام / 1971/ كما أسلفنا.
نسأله: طالما كان عندك بعض الميل باتجاه أن تكون معلماً عندما تقدمت إلى دار المعلمين بعد حصولك على الشهادة الاعدادية ونيتك بالتقدم إلى الصف الخاص بعد حصولك على الشهادة الثانوية، هل حدث أن مارست التعليم؟ فيجيب: حقيقة الأمر كنت أحب هذه المهنة نتيجة لتقديري الكبير لكثير من أساتذتي المعطائين، ودفعتني الحاجة لأن أنقطع عن الدراسة الجامعية أول شهرين من الصف الثالث الجامعي لأدرِّس مادة الرياضيات في إعدادية قرية "بدادا" مكلّفاً من خارج الملاك، ثم التحقت بالجامعة، وفي الصف الرابع الجامعي درّست المادة نفسها (الرياضيات) في اعدادية الحسن بن الهيثم في حلب، وبعد تخرجي من الجامعة درست أيضاً المادة نفسها في اعدادية "فجليت" أواخر عام 1971 (الأشهر الثلاثة الأولى من العام الدراسي عام 1971، والأشهر الستة الأولى منها عام 1972 في ثانوية الدريكيش)، ومن ثم درّست المادة نفسها عامي 1976– 1977 / في الثانوية التجارية في طرطوس إلى جانب عملي الوظيفي بموافقة رسمية، وقد انتابني المزيد من السرور عند ارتياح طلابي لتدريسي بالترافق مع ارتياح إدارة المدرسة، والسرور الأكبر كان عندما كنت أصادف بعد أعوام طلاباً ممَّن درَّستهم، أكنت أتذكرهم أو يعرفوني بأنفسهم، فمهنة التعليم مهنة شريفة جداً، ونعم الحديث القدسي الشريف الذي يقول: "من علمني حرفا كنت له عبداً". وكم كان موفقاً أمير الشعراء أحمد شوقي عندما قال:
قم للمعلم وفِّه التبجيلا ..... كاد المعلم أن يكون رسولا
وعندما نسأله إن كانت دراسته للاقتصاد رغبة وقرارا ام هذا ما كان المتاح؟ يفيدنا:
بعد حصولي على شهادة الدراسة الثانوية الفرع العلمي عام /1967/، كنت أنوي دراسة الصف الخاص يومئذ لأصبح معلّماً بسبب عدم قدرتي المالية للدراسة الجامعية، ومن ثم عدلت وكانت دراستي الجامعية لفرع الاقتصاد رغبتي وقراري لأن كلية العلوم الاقتصادية التي درست فيها كانت مُحدثة حينئذ، وكان هذا الاختصاص يلفت الانتباه في تلك الأيام. ثم يترحّم شعبان على قريبه الأستاذ محمد ابراهيم جديد، الذي شجعه على الانتساب إلى الجامعة ولم يكن ذلك يخطر في باله ذلك نظرا لفقره المادي. هنا يقول لنا: الحمد لله اجتزت الدراسة الجامعية بأربع سنوات وبتفوق، إذ كان دخولي إلى الجامعة عام /1967/، وتخرجي منها عام /1971 /، وكنت أحصل كل عام على مكافأة مالية نتيجة تفوقي، ومعونة مالية نتيجة فقري (500 ليرة سورية لكل حالة)، وهنا أتذكر أن الموظفة الجامعية التي أجرت معي المقابلة لتتأكد من فقري الذي يستحق المعونة، كانت تندهش لدرجة صعوبة التصديق، عندما حدثتها عن فقري من خلال واقعي المعيشي والسكني البسيطين، ولكنها تيقنت من نقاء كلامي ودموعي وملامح وجهي وأقرت استحقاقي للمعونة، فلها عالي شكري وتقديري ورحمة الله عليها.
ومما يذكره عن سكنه في حلب أثناء دراسته الجامعية قال: أنه سكن سنتين في حي الأشرفية وسنتين في حي السريان، السنة الأولى في الأشرفية سكن مع قريبه الطالب في كلية الزراعة يومئذ عبد الكريم ابراهيم جديد، بتوجيه من أخيه الأستاذ محمد ابراهيم جديد الذي كان حينئذ يدرس الحقوق بدون دوام وهو معلّم، وطوال عام كامل عاشا معاً بتفاهم عالي المستوى، وفي السنة الثانية سكن في غرفة في دار يسكنه ثلاث أسر أشراف (من صافيتا- الدريكيش- جبلة) وعاشوا حياة أسرية سعيدة.
أما في السنتين الثالثة والرابعة سكن في حي السريان في غرفة ضمن بيت صاحبه من جبلة، وعاش كفرد من الأسرة، وفي السنة الرابعة لم يأخذوا منه أجراً – نظراً لظروفه المادية - قائلين له تدفعه لنا لاحقاً بعد تخرجك، وكان ذلك. ويختم هنا: "طوال سكني في حلب لم أشعر إلّا وكأنني في قريتي، نظراً لنقاء الحياة الاجتماعية حينئذ".
وعندما سألته هل المعونة كانت شهرية أم سنوية وهل كانت تكفيك؟ أجاب: "معونة الـ /500 ليرة سورية/ كانت سنوية ومن الجامعة، وكذلك المكافأة على التفوق"، وهنا يخبرنا الباحث شعبان عن المقدرة الشرائية لتلك المعونة المالية، قائلا:
لاتنس أن الـ/500/ ل. س في تلك الأيام كانت مكسباً كبيراً.. كان دفتر الـ/100/ ورقة بنصف ليرة، وكانت أجرة النقل الداخلي فرنكاً ونصفاً، يعني الليرة تكفي أياماً! وكانت أجرة الطريق من صافيتا إلى حلب /4 ل. س/، وكان كيلو الخبز بـ/7 فرنك/، يعني الليرة تشتري /3 كيلو خبز/...، ثم يختم بالقول، متحسراً على تلك الأيام: "آه يا زمان".
وعن الكتابة الأدبية
وحيث أن الأستاذ عبد اللطيف شاعر وكاتب يكتب في الصحف منذ سنوات وله عدة مؤلفات، فقد سألته عن كيفية مزاولته للكتابة، ومتى بدأت هذه الاهتمامات لديه، فيكشف لنا أن هذه الرغبة بدأت، بشكل مُقِلْ، منذ أيام دراسته الثانوية وتنامت أيام دراسته الجامعية، حيث كان يكتب في جريدة الحائط للكلية التي كان يدرُس فيها – كلية العلوم الاقتصادية – (ولا زال يحتفظ ببعض مواد) ومن ثم تابع كتابات قليلة لم ينشرها، ولاحقا تكثفت كتاباته أثناء وجوده في سلطنة عمان لمدة أربعة أشهر أواخر عام 1993 وأوائل عام 1994، وكان كتابه الأول عام 1994 "مختصر الكلام عن الرجل الهمام"، وهو عن المحسن الكبير الخطيب النحرير والبرلماني الشهير "الدكتور عبد اللطبف اليونس، الذي تكرَّم ببناء مركز صحي (على نفقته جاهز على المفتاح) في قرية "الجرويه" تخليدا لذكرى المجاهد الكبير الشيخ صالح العلي، لكن بقي كتابه هذا مخطوطا بيده، إلى أن حظي بأصدقاء كرام أوفياء كرام أثنوا عليه وشجعوه على طباعته وقدموا له (الشاعر الأديب الشيخ عبد الحميد علي الملقب ببدوي الساحل – الشاعر الأديب الشيخ محمد أحمد يوسف / أبو يونس.....) وكان ذلك عام /2006/ إذ طبع /500/ نسخة ووزعها على أصدقائه (وقد حصل الكتاب على موافقة اتحاد الكتاب العرب)، وطبيعي أن يكون في غاية السرور عندما لمس الارتياح الكبير من الدكتور اليونس ومن جميع أصدقائه على مضمون كتابه، الذي طبع منه لاحقاً /250/ نسخة، وبعد أن توفى الله الدكتور عبد اللطيف اليونس عام /2013/ أضاف الباحث شعبان جزءاً ثان للكتاب – بحجم الجزء الأول- وطبع منه /500/ نسخة عام /2015/، ولاحقا /300/ نسخة أخرى.
الكتابة للصحافة
أما عن بداية كتابته للصحافة، فيخبرنا أنه أثناء زيارته لصديقه الأديب الروائي والشاعر أحمد يوسف داود (يوم كان رئيس تحرير مجلة تشرين الاسبوعي في دمشق عام /2002/) طلب منه كتابة مقال للمجلة التي كان يرأس تحريرها ولم يقبل اعتذاره، وبالطبع كان عبد اللطيف في غاية السرور عندما اطلَّع صديقه داود على مقاله وأبدى إعجابه الشديد له، وازداد سروره عندما رأى المقال منشوراً في المجلة، وبعدئذ تشجع عبد اللطيف وبدأ إرسال مقالات إلى الصحف الرسمية /تشرين – الثورة – الوحدة - البعث وملحقيها /الإداري والأسواق/، ومن ثم إلى العديد من الدوريات الاعلامية الخاصة (القنديل – الخبر – الاقتصاد – الاقتصادية – موقع فينكس – موقع أخبار سورية الوطن.......) حتى تجاوزت مقالاته الألف مقال في المجال الاقتصادي والإداري والفكري والسياسي والأدبي (الاقتصادي والإداري هو الأغلب ونتيجة توسعه في ذلك لقبُّه معارفه وقراءه بالباحث الاقتصادي)، ومن دواعي سروره الكبير أنه لم يُرفَض له نشر أي مقال، بل ولم يتم أي تعديل على مضمونه، إذ حظيت كتاباته بتقدير عال من محرري الصحف، وفي هذا الصدد لا يفوته شكر إدارات ومحرري جميع المنابر الإعلامية التي كتب فيها، مع لفت الانتباه إلى أنه ما زال يكتب حتى الآن في "موقع أخبار سورية الوطن".
ويفيدنا الباحث شعبان أنه طبع مقالاته الصحفية (ما بين 2002 – إلى نهاية 2024) في 15 كتاباً من القطع المتوسط تتراوح صفحات كل كتاب من /300 – 500/ صفحة، ولكل كتاب عنوان يتفق مع المقالات الصحفية المبوبة والمصنفة ضمنه حسب تاريخ المقال والصحيفة التي صدر فيها، ومن ثم جمعهم في خمسة مجلدات من الحجم الكبير، وسبق أن منحه اتحاد الصحفيين عضوية الانتساب إليه عام /2007/ بصفة عضو مشارك، تقديراً لكمية ونوعية مقالاته الصحفية، وأيضاً منحه الاتحاد شهادة تقدير مع جائزة مالية عام /2016/ بمناسبة فوزه بمسابقة أفضل مقال صحفي على مستوى فرع اتحاد صحفيي طرطوس، وكان مقاله يومئذ عن شجرة الزيتون.
أيضا للباحث شعبان مؤلفات أخرى، منها كتاب بعنوان "دراسات اقتصادية"، وآخر بعنوان "دراسات سياسية" كل منها يزيد قليلا عن /500/ صفحة، تضمنت العديد من المواضيع، ومنها بعض المحاضرات التي ألقاها في المراكز الثقافية، وكتاب آخر بعنوان "أدعية مختارة من سور القرآن الكريم /182 صفحة/"، وديوان شعري /520/ صفحة، جزأه إلى ثلاثة دواوين (قصائد وطنية واجتماعية – قصائد في الرثاء –عمانيات - وقد حصل الأثنان الأوليان على موافقة اتحاد الكتاب العرب)، وكتاب بعنوان "أنا والشعراء / 260 / صفحة"، وكتاب "كلمات في مناسبات / 290 / صفحة"، وما زال يعد لكتب جديدة.
نعود ونسأله، لقد ذكرت لنا فيما سبق أنّك طوال فترة سكنك في بيت "اللبن والطين" لم تحتج طبيباً، حتى إنّك لم تزره إلى أن صرت في الجامعة، لنسأله إن كان السبب هو الفقر أم الغذاء الصحي والحياة المتماهية مع الطبيعة، أم ترى السبب في عدم توفر الأطباء في تلك الفترة؟ فيجيبنا: كان للفقر دور في ضعف اللجوء لطبيب، وكان لعدم وجود أطباء دور أيضاً، إذ كان يوجد طبيبان في المنطقة فقط وصيدلية واحدة أواخر خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضي (أما اليوم، ففي كل شارع وكل قرية عدة أطباء وعدة صيدليات). ويضيف: "إنما يعود السبب الرئيس للغذاء الصحي الطبيعي البسيط المنتج محلياً الذي لم تتخلله أية مواد صناعية، فالمنتج الزراعي لم يكن يعرف الأسمدة الكيماوية ولا المبيدات ولا المغذيات، وماء الشرب لم يكن يخالطه معقم الكلور، وغذاء المنتج الحيواني كان نتيجة أعلاف من الطبيعة خالية من أية مركبات صناعية أو معالجات بمواد بيطرية؛ وأيضا عدم الحاجة للطبيب كان يعود للحياة المتماهية مع الطبيعة والعمل الدؤوب في الحرّ والقرّ الذي كان بمثابة رياضة انتاجية متتابعة أغلب أوقات النهار، لا رياضه إلهائية كما هي حال رياضة هذه الأيام، ولكن من المؤكد أن المرض كان موجوداً ببن حين وأخر، وكثير من علاج المرض كان يتم بصبر المريض مع الراحة من العمل وبوصفات طب شعبية مجربة، أو بأداء ركعات صلاة أو صدقة أو قراءة القرآن أو بوضع القرآن عند رأس المريض في فراشه أو على صدره، أو بدعاء من شيخ درويش تقي محلي أو عابر، حيث يطلب المريض أو أهله ذلك، فيقف الشيخ بكل خشوع لربه ويده فوق رأس المريض ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويقرأ من القرآن الكريم سور الفاتحة والناس والفلق والاخلاص وأية الكرسي ويقول: أسألك اللهم بما جاء بمحكم كتابك المنزل عل نبيك المرسل، بقولك الحق "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين".... "وإذا مرضت فهو يشفين".. أسألك يا باسط الأرض ورافع السماء أن تمنح هذا المريض الشفاء من كل مرض وداء، وتدفع عنه كل شدة وبلاء يامن أنت بعبادك لطيف خبير رؤوف رحيم ...إلخ، ويقول للمريض احذر أن تقول إنني أنا الذي شفيتك إذا شُفيتَ من مرضك، فالله هو الشافي الكافي المعافي وأنا عبد من عباده، وكثير من هذه الاجراءات كانت تستجاب، ويعقبها الشفاء في ضوء إرادة الله واستحقاق المريض".
بالعودة معه إلى تربية دود القزّ نسأله: هل كانت متعبة؟ والأهم هل كانت عوائدها المادية مغرية؟ وأين كنتم تبيعون نتاجكم من دود القزّ؟ فيفيدنا بالقول: نعم كانت تربية دود القز متعبة قليلا لأنها تتطلب تكثيف عمل في مدة قصيرة وتشغل حيزا كبيرا من البيت الضيِّق، ومن غير الجائز أي تأخير، فدودة القز تحتاج عناية دقيقة ومراقبة مستمرة، وكنا ننفذ ذلك بسرور لأن النتيجة مجدية جداً، فموسم عمل تربية دودة القز قصير / 40 – 45 / يوماً، ولكن أسرتي كانت تعاني من قلّة أعداد شجر التوت التي ورقها هو الغذاء الرئيس لدودة القز، إد إضافة لما كان يوجد عندنا كنا نشتري قسما منه من قرى مجاورة مسافة / 5 – 7 / كم، حيث كنا ننطلق مع الفجر سيراً على الأقدام مع دابة في طرق جبلية وعرة لنصل مع سطوع الشمس ونقطف الورق ونجلبه لنطعمه للدود فور وصولنا وهو ينتظر ذلك بلهفة، وأتذكر أنه في أحد الأعوام اضطر ابن عمي لأن يجلب الورق ذات يوم من منطقة "جبلة" بريف اللاذقية، لكي يحافظ على حياة الدود عنده.
ويكمل الباحث شعبان: بعد اكتمال الشرانق كنا نحلَّها لتصبح خيوط حرير، إذ كان يوجد في قريتنا دولابان يدويان لحل شرانق الحرير، وكنا نبيع الحرير في حمص، وأحيانا يشتريه التجار من البيت، وفي بعض السنوات نخزنه لسنين قادمة، ومن كان لديه مخزون حرير كان يقال عنه "ما شاء الله، الله يرزقه، صندوقه ملآن حرير"، ولكن السياسة الاقتصادية الفاشلة بل المخربة خلال العقود المنصرمة قضت على هذه التربية كلية، ولم يبق إلّا آحاد المربين بعد أن كانوا بعشرات الآلاف، ولم ولن تنجح محاولات إعادة التربية رغم التهويل الجاري بهذا الشأن ، نظرا لفقدان المتطلبات اللازمة، ولن يتحقق ذلك رغم كل ما يشاع من تمنيات، مالم تقم شركات متخصصة موسَّعًا بذلك.
المكتبة الأهلية في بلدية الجرويه
وكان من الطبيعي، أن نخصص جزءاً من لقائنا معه للحديث عن المكتبة الأهلية في بلدية الجرويه، تلك المكتبة التي يعود له الفضل الأوّل في إقامتها، علماً أنه لم يدِّعِ هو هذا الفضل أو يستأثر به، بل يرى أن الفضل في وجودها اليوم على قيد الحياة يعود لكل من ساهم بها من لحظة المباشرة بإقامتها حتى الآن، وفي هذا الصدد سألناه: كيف خطرت ببالكم الفكرة؟ وهل لقيتم تعاوناً رسمياً وأهلياً في حينها؟ فيجيبنا: أنا أحب الكتاب منذ صغري، وقد اشتريت واقتنيت الآلاف منها، وعلى جدران كل غرفة من غرف منزلي أكثر من مكتبة، وأهديت كل ابن من أبنائي مكتبة. وأهديت الكثير للأصدقاء وللطلاب، وكان حلمي أن أُحدث مكتبة أهلية عامة في قريتي، وقد طرحت الفكرة بداية عام /2022/على الصديق الأديب منذر يحي عيسى رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب في طرطوس، فأجابني: "ونحن في فرع الاتحاد نهدي المكتبة / 1000/ كتاب حال إحداثها، ولكن الحاجة ماسة لأن تُؤمّن مقراً مناسباً للمكتبة؟"، وعلى الفور خطر ببالي أن يكون مقرها في قاعة الاجتماعات /100 م2 مع قرابة 100 كرسي وعدة طاولات/ الموجودة في الطابق الثاني من بناء الجمعية الفلاحية التعاونية في قريتي، فطرحت الأمر مع مجلس إدارة الجمعية والمعنيين في قريتي وأيدوا الفكرة فوراً، وحيث أن الأمر يتطلب موافقات أعلى فقد حظيت حينئذ بتعاون مشكور من رئيس مجلس إدارة الجمعية يونس محمد عباس، ونضال طاهر نجوم، ومختار القرية - عبد الحميد ونوس - ورئيس اتحاد فلاحي طرطوس السيد محمود ميهوب، ورئيس الاتحاد العام للفلاحين السيد أحمد صالح، ورئيس المكتب المالي في الاتحاد العام السيد موسى درويش، ورئيس الرابطة الفلاحية في صافيتا السيد فؤاد علوش، وعلى أن تقدّم الجمعية القاعة مع كراسيها وطاولاتها ومبلغ مالي من أجل خزانة للكتب وقد تم ذلك، ومن المؤسف أن بعضهم تعمّد عرقلة إحداث المكتبة في بناء الجمعية بذريعة أنها لا تقدّم أية أرباح، فقلت لهم إن نشر الثقافة هو أحد أهداف المنظمة الفلاحية، وواجهتهم بقانون التنظيم الفلاحي الذي ينص في البند الأول من المادة الخامسة "على تحسين أحوال الفلاحين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، فأجابوني أنه لم يسبق لهم أن اطلعوا على هذه المادة ولاذوا بالصمت، واندفع الأخيار لتسريع الموافقات المطلوبة وتم ذلك خلال أيام.
ويستطرد الباحث شعبان بالقول: بدأت متابعة العمل بشؤون المكتبة والعمل لزيادة خزائن الكتب والكتب، فراجعت جمعية السبيل الخيرية التي تفهمت الأمر وتبرعت بخزانة كتب، وتم التبرع لاحقا برفوف من صاحب محلات الحسن في طرطوس، وقد أهديتُ المكتبة /1600/ كتاباً، ووردني من اتحاد الكتاب /750/ كتاباً. وتم افتتاح المكتبة بوم 19/5/2022 بحفل جماهيري كبير تحت رعاية رئيس اتحاد الكتاب العرب -سنتذاك- الدكتور محمد الحوراني، بحضور رسميين من المحافظة منهم السيد رئيف بدور عضو المكتب التنفيذي للشؤون الثقافية ممثلا للسيد محافظ طرطوس والأديب منذر يحي عيسى رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب في طرطوس ومديرية الثقافة في طرطوس واللواء محمد سليمان رئيس فرع رابطة المحاربين القدماء في محافظة طرطوس ومدير منطقة صافيتا والمسؤولين الرسميين في إدارات المنطقة وبلدية الجرويه والبلديات المجاورة وكوكبة من أدباء اتحاد كتاب العرب، منهم الأديب المهندس غسان كامل ونوس والشاعر محمود حبيب والشاعرة أحلام غانم والشاعر المهندس نسيم وسوف والشاعر نادر العجي وأخرون، والأسرة التربوية وعشرات من الكوادر التعليمية ومئات من الطلاب ومئات من المواطنين بحيث قارب عدد الحضور الألفي شخص لمدة ساعتين تحت شادر كبير وفي ساحة المدرسة، وكانت عريفة الحفل الشاعرة المهندسة ميساء يوسف/ المشرفة في ملتقى صافيتا الأدبي/.
ولا يفوته القول أن يذكر أنه تم لاحقا التبرع بخزانتين وطاولتبن ومنبر من جمعية البتول الخيرية، وخزانتين من فاعل خير لم يرغب ذكر اسمه، وقدّمت وزارة الثقافة /600/ كتاب عن طريق مديرية ثقافة طرطوس، وكتب من دار طلاس للنشر أرسلوها بالبريد، وكتب من دار معابر للنشر أوصلوها باليد إلى المكتبة، ومن أعضاء اتحاد الكتاب العرب/ المهندس الأديب غسان ونوس والدكتور محمد الحاج صالح كل منهما قدّم /300 كتاب/، ومن صديقي المغترب الاقتصادي الدكتور أسامة عزيز نجوم من منطقة جبلة /200/ كتاب، حيث اتصل مع والده وقال له اطلب من عبد اللطيف شعبان الحضور إلى عندك ولينتقي من مكتبتي ما يشاء هدية مني إلى المكتبة التي أحدثها، وقد حضرت برفقة الصديق الدكتور المهندس منذر عمران الزاوي وانتقيت /200 /كتاب بالشؤون الاقتصادية بعضها باللغة الأجنبية، ووردني من سيدات دمشقيات (30 سيدة)، زرن المكتبة لمدة ثلاثة أيام، /300/ كتاب، و/100/ كتاب من كل من الشاعرة أحلام غانم والشاعرة نجوى رحمون والدكتور عدنان صقور والمهندس ميشيل خوري ومجموعة دواوين الشاعر عبد اللطيف محرز، ودواوين الشاعر الكبير حامد حسن مع كتب من مكتبته، والعديد من مؤلفات الدكتور المحامي أحمد عمران الزاوي والدكتور المهندس الجيولوجي أحمد بلال والمهندس شاهر نصر ومئات أخرون منهم /اللواء المتقاعد محمد سليمان رئس فرع رابطة المحاربين القدماء في طرطوس، والعميد المتقاعد نافذ الموعي والعميد المتقاعد محسن حبوس..../ قدموا من مؤلفاتهم أو من مكتباتهم عشرات الكتب، وأخرون قدموا الآحاد والعشرات من الكتب، والجميع أسماءهم مسجلة في وثائق المكتبة، إلى أن أصبحت موجودات المكتبة حاليا حوالي عشرة آلاف كتاب، ولا زلت موعوداً بإهداءات كتب من عدة أصدقاء، وأمل بإهداءات خزائن أخرى للكتب، وجميع حيثيات المكتبة بما فيها الأنشطة مسجلة في سجلات المكتبة مع جميع وثائق إحداثها والتبرعات العينية التي تمت، وجميع ما تم كان حصيلة تعاون رسمي وشعبي معاً. وقد منحني اتحاد الكتاب العرب شهادة شكر وتقدير على جهودي في إحداث المكتبة وشهادة مماثلة من مجلس بلدية الجرويه، والشهادتان معلقتان في المكتبة.
أما عن أنشطة المكتبة، فيقول شعبان: تعتمد المكتبة منذ إحداثها إعارة الكتب للقرَّاء - كباراً وصغاراً- وإقامة محاضرات ثقافية مرتين كل شهر، شارك فيها أدباء وشعراء وأساتذة جامعات ومفكرين من المنطقة والمحافظة وعدة محافظات، ومدعاة للسرور أن بعضهم – مشكوراً – هم الذين أبدوا الرغبة والتطوع المسبق – كل منهم لتقديم محاضرته - تقديراً منهم لأهمية إحداثها، ونقيم في المكتبة حفل تكريم للمتفوقين في الشهادات الدراسية – ضمن قطاع بلدية الجرويه - كل عام..
جمعية العلوم الاقتصادية
أخيراً: متى انتسبتم لجمعية العلوم الاقتصادية؟ ومتى نشأت هذه الجمعية؟ ماذا تحدثنا عن مهامها؟ ولماذا لم يسبق أن لمسنا لها أثراً على الأرض؟ فأجاب:
أنا أؤمن بالتنظيم النقابي، ما دفعني أن أتنتسب إلى جمعية العلوم الاقتصادية عام /1972/ برقم عضوية /82/، وذاك عقب عام من تخرجي من كلية العلوم الاقتصادية، والجمعية محدثة منذ عام / 1965 / وهي عضو في اتحاد الاقتصاديين العرب، ولها حضورها الفكري الاقتصادي البارز منذ إحداثها من خلال البحوث والدراسات والرؤى الاقتصادية التي قدمها أعضاؤها وأصدقاؤها من داخل سورية وخارجها في كثير من المناسبات الدورية والعرضية، وخاصة ما كان من خلال برنامجها الاقتصادي الفكري الدوري /الثلاثاء الاقتصادي/ الذي كانت تنظمه كل يوم ثلاثاء لعدة أشهر كل عام، بحضور بعض الرسميين والكثير من المهتمين بالشأن العام، وكان محررو الدوريات الاعلامية يحضرون ويعرضون وقائع هذه المحاضرات في اليوم التالي، وكان مجلس إدارة الجمعية يطبع مئات النسخ من كل محاضرة، ويجمع أعداداً منها في مجلدات ويحتفظ بها في مكتبة الجمعية، وسبق أن ذهبت مرات عديدة إلى دمشق لحضور اجتماع الهيئة العامة للجمعية أو للمشاركة في ملتقى الإعداد لأحد برامج أنشطتها أو ندوة من ندواتها.
لقد تم إحداث عدة فروع للجمعية الأول في حلب وقدّم العديد من الأنشطة، ومن ثم فرع في اللاذقية وطرطوس عام /2009/ مقره اللاذقية، وكنت عضواً في مجلس الإدارة، وقد قدّم العديد من المحاضرات الاقتصادية في أكثر من برنامج في كلا المحافظتين، ومن ثم أصبح فرعين، فرع في كل من اللاذقية وطرطوس الذي أُحدث فيها عام /2013/ وأنا نائب رئيس فرع طرطوس منذ إحداثه، وكل من الفرعين قدّم العديد من المحاضرات، ولا زال دور الجمعية قائما بدمشق والمحافظات، ولكن السنوات الأخيرة شهدت انخفاض حجم الدور المعهود لأنشطة الجمعية وفروعها.
الحياة المهنية والوظيفية
وعند سؤاله هل سبق لك أن تسلمت مهام إدارية خلال مسيرة حياتك العملية؟ أجاب نعم وبكل فخر واعتزاز، فقد تم انتخابي رئيساً للجمعية الفلاحية التعاونية في قريتي وتوابعها عام /1977/، والغريب أن بعض أصدقائي لاموني مستغربين كيف أُقدم لهذه المهمة وأنا أحمل شهادة جامعية! وبعضهم قال لي مهمتك مخجلة يا أستاذ، أنت يجب أن تكون مدير مديرية أو مدير عام شركة أو رئيس هيئة، فقدَّرت احترامهم ولكن لم أبال بذلك، فقد كان إقدامي لهذه المهمة بهدف أن أعمل لإحداث مخزن استهلاكي تعاوني في الجمعية، على غرار مخازن كانت مُحدثة في بعض الجمعيات، لما في ذلك من فائدة كبرى لهذا المخزن، ومنذ الأيام الأولى من عملي في الجمعية بدأت في هذا الأمر، ولكن الرصيد المالي للجمعية في المصرف كان حوالي /3200/ ل. س وهذا المبلغ لا يكفي لإحداث مخزن، ومع ذلك عزمت وحظيت بموافقة مجلس إدارة الجمعية ورابطة فلاحي صافيتا واتحاد فلاحي طرطوس، مقدِّرين حماستي وهم يقولون ستجد صعوبة بل عدم موافقة من الاتحاد العام للفلاحين، وحملت أوراق الموافقات الأولية بيدي إلى الاتحاد العام للفلاحين في دمشق، وسجلتها في الديوان الذي أحالها إلى رئيس المكتب المالي، الذي اطلَّع عليها وقال لي مع عدم الموافقة، وهمَّ بأن يكتب هذه العبارة، فقلت له رجاء توقَّف واسمعني؟ فقال لي يا أستاذ هذا المبلغ البسيط لرصيد الجمعية لا يسمح بإحداث مخزن وستفشلون ويضيع المبلغ، وحدث ذلك مع جمعيات كان رصيدها أضعاف هذا المبلغ. فقلت له رجاء أعطني الأوراق وحملتها ودخلت إلى مكتب رئيس اتحاد الفلاحين حينئذ الأخ مصطفى العايد /رحمه الله/ وطلبت مساعدته، فـأجابني كلام رئيس المكتب المالي هو الصح وفكرتك خاطئة، فقلت له أرجو أن تسمعني، فقال: أسمعك، وشرحت له خطتي في استثمار هذا المبلغ البسيط كمدخل وما سيرافق ويتبع ذلك، لمدة نصف ساعة وهو يصغي لكلامي دون أن يعقب لاقتناعه به، ثم قال لي كفى ومسك بيدي بقوة وأدخلني إلى عند رئيس المكتب المالي وقال له وافق على طلب هذا الشاب، فقال له يا أخ مصطفى من المستحيل أن ينجح مخزن استهلاكي بهذا المبلغ، فقال له أنا أطلب منك الموافقة وأنا سأوافق، فإما سينجح هذا المخزن كما حدثَّني هذا الشاب أو يفشل ونحاسبه. وتمت الموافقة أصولا:
عدت بالموافقة مسروراً ومهنأ ممَّن وقفوا معي في الجمعية والرابطة في صافيتا وخاصة رئيسها يومئذ السيد محسن يوسف /أبو آصف رحمه الله/ واتحاد فلاحي طرطوس وخاصة الأخوين حبيب شعبان وعبد الكريم جديد /رحمهم الله جميعا/ وبالتعاون مع مجلس إدارة الجمعية وبالأخص المحامي محمود أحمد سلامي والمشرف الزراعي صالح عبدو أحمد وآخرين، بدأت التنفيذ فاستأجرنا محلاً بـ/20/ ل. س في الشهر، واشترينا ميزاناً بـ/150/ ل. س، وقباناً بـ/600/ ل. س ومتر خشب بـ/800/ ل. س لأجل رفوف المخزن، واشترينا أغراضاً بسيطة بالمتبقي من الرصيد، وبدأنا نستدين من الميسورين في القرية ونشتري بضاعة ونرد لهم مالهم لاحقاً، وفتحتا علاقة تجارية مع المؤسسة العامة الاستهلاكية ومع تجار الجملة، ونظمنا قيود الشراء والبيع واستأجرنا محلاً ثانٍ للحبوب، وأتذكر أننا كنا نأتي بالقمح من دير الزور، ويقول لنا صاحب الشاحنة /حسين الشاويش – رحمه الله/ أنه مرَّ فوق الجسر المعلَّق، وأن كلفة شاحنة القمح واصلة / 16500 / ل. س.
هذا المخزن الذي كان محط تخوُّف البعض من فشله وفّر الكثير من السلع لمواطني قرى الجمعية وجوارها بأسعار عادلة وحقق أرباحا مشروعة متتالية لسنوات مكّنت الجمعية – بالتتابع- من تشييد بناء خاص لها من طابقين كل منهما بمساحة حوالي /300 م2/، وما من جمعية فلاحية في سورية حققت هذا النجاح وتملك بناء مماثلاً.
عقب جاهزية الطابق السفلي أصبح المخزن يشغل حيزاً منه وبجواره مخزن للأعلاف ومخزن للغاز (كل ذلك بإدارة مجلس إدارة الجمعية) وبقربه محلّات مؤجرة للغير، والطابق الثاني قاعة اجتماعات (أصبحت لاحقاً مقراً للمكتبة الأهلية) وبجانبها شقة مؤجرة للبلدية وثلاثة شقق صغيرة، كل ذلك تم بتعاون مجتمعي. ومع الأسف تم إلغاء المحزن قبل سنوات، ولكن تم استثمار مكانه بعقد إيجار مجزٍ قياسا بأرباحه.
وهنا من واجبي أن أنوّه أن ظروف عملي الوظيفي لم تمكني من الاستمرار في رئاسة الجمعية إلّا لسنوات قليلة، ولكنني كنت يداً بيد مع مجلس الإدارة وكأنني عضو فيه، رب ارحم من مضى واحرس من بقي.
وهنا قلت له لقد أجبت وبكل فخر أنك تبوأت مهمتك الشعبية في رئاسة الجمعية الفلاحية في قريتك وتوابعها، ولكن هل من مهام رسمية مررت بها في حياتك الوظيفية، فأجاب نعم، لقد تبوأت مهام وظيفية من رئيس شعبة حتى مدير، واُنتخبت عضواً لمجلس محافظة طرطوس في الدور التشريعي /2018 – 2022/ وكان حضوري بارزا في جميع جلسات المجلس، إذ ما من جلسة إلّا وكان لي فيها كلام وطروحات، وقد حظيت معظم طروحاتي بالاستجابة من المسؤولين، ما كان منها يخص خدمة قطاع بلديتي أو المنطقة أو المحافظة، وأحتفظ بجميع محاضر الجلسات للسنوات الأربع، وبجميع الطلبات التي تم تنفيذها بناء على طروحاتي، وكنت والحمد لله منتجاً وعملي مقدرا بسمُوّ عالي ممن عملت معهم /رؤساء ومرؤوسين/ طيلة حياتي العملية في جميع مهامي.
سفر خارج البلاد
وختاماً أسألك هل حدث أن سافرت خارج القطر، فأجاب: نعم لقد تم إيفادي رسمياً من عملي الوظيفي للحصول على شهادة الدبلوم العالي من المعهد العربي للبحوث والتطبيقات الاحصائية في بغداد لمد تسعة أشهر /العام الدراسي 1978- 1979/ وكان قرار الإيفاد عقب شهرين من زواجي، وقد ترددت إلى قريتي مرتين -ثلاثة أيام - كل ثلاثة أشهر، وحينها زرت مشهد الإمام الحسين (ع) في كربلاء، إلى أن عدت يوم 12/7/1979 بشهادة تفوق من المعهد، أيضا تم إيفادي إلى سلطنة عمان لمدة أربعة أشهر أواخر /1993/ وأوائل /1994/ بصفة خبير إحصائي للمشاركة في تنفيذ التعداد العام للسكان الذي تجريه سلطنة عمان حينئذ لأوّل مرة، وكانت الأشهر الأربعة من أجمل أيام حياتي، إذ انسجمت مع الشعب العماني العربي الأصل والقريبة عاداته من عادات مجتمعي، وكنت ألازم العمل طيلة النهار وبعضاً من الليل حال لزوم ذلك وتم توجيه تقدير لي، وحدث أن تمت استضافتي من أعيان عمانيين– في بيوتهم– بكل احترام عدة مرات، تقديراً لما لاحظوه من جديتي في العمل، وأيضاً تمت استضافتي مرات عدة من مخطِّط التعداد وخبيره الأكبر يومئذ "الأستاذ نادر حلاق" (السوري) الذي كان سابقاً مديراً للمكتب المركزي للإحصاء، وحظيت بتقدير عالي من السفير السوري الأستاذ عبد الكريم صباغ ومعاونه الأستاذ عبد الرحمن محمد.
لقد فاضت شاعريتي في السلطنة فنظمت عشرات القصائد عن عُمان والتعداد السكاني فيها، وتمت دعوتي لإلقاء قصيدتي الطويلة "عمان والزمان" في الاحتفال السنوي بمناسبة العيد الوطني العماني، وعندما أعلمت السفير بهذه الدعوة تملكه سرور كبير وحظيت بموافقته على إلقاء قصيدتي، وبعد سنوات جمعت كتاباتي في سلطنة عمان في ديوان شعري أسميته عمانيات /190 صفحة/، ولاحقاً تم ترشيحي لمهمة خبير سوري لتعداد السكان في جمهورية السودان عام /2007/ وأعلمني السفير السوداني في دمشق أنه حجز لي إقامة في أفضل فنادق الخرطوم، ولكن تأخر المراسلات أعاق وصولي إلى السودان في الموعد المحدد.
أود أن أسألك في، في ختام حديثنا، في أي عام كان تقاعدك من العمل الوظيفي؟ وماهي الأعمال التي تمارسها بعد التقاعد؟
كان وجوب تقاعدي الحقيقي أول الشهر الأول عام / 2010 /حسب السن/، ولكن إدارتي المركزية مددت لي العمل لثلاث مرات /كل مرة ستة أشهر تقديراً لجهودي وحاجتي في العمل/، وكان تقاعدي الفعلي في الشهر السابع عام / 2011 /، ولكنني لم أمارس أي عمل بعد التقاعد لا زراعة لا صناعة لا تجارة، ولا أي عمل مع جهة أخرى عامة أو خاصة، فقد حافظت على استمرارية كتاباتي في الصحف وقراءاتي، وانكببت على تجميع ما كتبت للطباعة في كتب كما ذكرت سابقاً، وأتابع بلا ملل ولا كلل عندي ولا فراغ، ووقتي بكامله مشغول قراءة كتابة وأداء واجبات خدمات عامة وأهلية، وأستغرب من يقول قتلني الفراغ، وأنا لا أمارس الألعاب /طاولة- منقلة – ورق – شطرنج.../، ولا الرياضة، بل أمار س رياضة المشي بانتقالي العملي من مكان لآخر بما لا يقل عن ساعتين يومياً./
ودعني أنا أختم يا صديقي الباحث المحترم بأن أحييك على تعاونك معي في هذا الحوار التراثي، وإني لكم من الشاكرين.
أشكرك بكل احترام أيها الصحفي الصديق، وأرجو ألا يجد القارئ في هذا الحوار ما لا يجب أن أكون قد ذكرته من وجهة نظره، فإجاباتي كانت في ضوء أسئلتك، وقد سبق لي أن اطَّلعت على بعض حواراتك مع من هم أعلى شأنا مني، ولك تحياتي.