الأدباء والقاصرات
2025.10.09
علي بدر
تبدأ الحكاية من باريس. في كانون الثاني/يناير 2020 نشرت فانيسا سبرينغورا "الرضى" مذكرات قصدها فضح علاقة كاتب خمسيني بها وهي في الرابعة عشرة، لا باعتبارها "رومانسا" بل فعل افتراس مغطى بالهيبة الأدبية. انفجرت الضجة: فتح المدعي العام تحقيقا في تهمة اغتصاب قاصر، وأوقفت دار غاليمار تسويق كتب غابرييل ماتزنيف وسحبت بعض يومياته من السوق، وتكفل كتاب سبرينغورا بتغيير المزاج العام تجاه التطبيع الثقافي مع انتهاك القاصرات.
ولأن السؤال أخلاقي قبل أن يكون قانونيا، بدا المشهد كما وصفته مقالات لاحقة: نخبة بوهيمية طويلة العمر، احتفت علنا بسلوك مفترس وقدمته كتحرر.
من باريس إلى موسكو. إدوارد ليمنوف الروائي الروسي المعروف كتب سيرته على طريقة "الاعتراف بلا اعتذار". في نصه الشهير عام 2014 يروي لقاؤه بصديقته ليزا منتصف التسعينيات انجذابٌ عاصف، حياةٌ مضطربة، ثم عنفٌ صريح يقر به بنفسه. يكتب أنه كان يضربها حتى يجعل شراف السرير والستائر كلها ملطخة بالدم. وانه يطاردها بمسدس يريد قتلها قبل أن يوقفه حارس المبنى. كل هذا ورد بمذكراته.
وفي الفقرة نفسها يذكر سلسلة علاقاته: "ناتاشكا" ذات الستة عشر عاما، ثم "ناستيا، ذات الخمسة عشر عاما". قد تتقاطع هذه الأعمار مع تقلبات سن الرضا القانوني في روسيا خلال التسعينيات–الألفينيات، لكن ذكرها في نصه يبقى حقيقة اعترافية لا جدال فيها.
هنا تتجاور قصتان وتضيئان سؤالا واحدا: ماذا يفعل الأدب حين يتخذ هيئة "ذريعة"؟ في حالة ماتزنيف، أعطت اليوميات والصالونات شرعية لهيمنة رجل في الخمسين من عمره على مراهقة، حتى جاء كتاب سبرينغورا ليقلب المعادلة ويعيد اللغة إلى معناها لا رضى تحت عدم تكافؤ القوة.
وفي حالة ليمنوف عمره 60 عاما مع قاصرات، تتحول جمل "جميلة" إلى ستارٍ على وقائع قاسية، قاصرات في هامش السرد، وفتاة ضربت وكسر أنفها، ثم تطوى الصفحة بعبارةٍ شاعرية عن الثلج والقبور.
الاعتراف الأدبي مهم، لكنه ليس براءة ذمة. أن تقول "لقد فعلت" لا يسقط ثقل "لماذا فعلت؟" ولا ينقص حق من وقع عليه الفعل. وفي كل هذه الحكايات يطل اختلال القوة: فارق السن، الشهرة، النفوذ الثقافي، والقدرة على صياغة الرواية. وحين تتداخل المتعة الجمالية مع عنف واقعي ضد قاصرات أو شريكات حياة، فإن سؤال الأخلاق لا يعود هامشا بل يصبح مركز القراءة نفسه.
لذلك، لا يكفي أن نعجب بجملة محبوكة أو أسلوب صادق. علينا أن نرى من يغيبون خلف الأسلوب: مراهقة تسترد صوتها بعد ثلاثين عاما، امرأة تمسح دماؤها في ستارة، وفتيات تختصر أسماؤهن إلى قاصرات في سطرٍ واحد. الأدب الذي يستحق أن يقرأ هو الذي لا يبيض العنف، بل يسميه ويضعه حيث يجب أن يكون، هذه جرائم أخلاقية حتى اذا لمعها الأسلوب. هذه هي الخلاصة التي تبدأ من باريس مع "الرضى" وتصل إلى موسكو مع "ناتاشا": الاعتراف ليس تبريرا، والبلاغة لا تبطل المسؤولية.
في الصورة ليمنوف وليزا التي كان يهشم لها أنفها بالضرب المبرح حين يسكر.