كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

طاولات الصمت..

سامر محمد اسماعيل

 جربت اللقاء مع أصدقاء نادرين لي، ورغم ولعنا بالحكي والثرثرة وميلنا إلى تقليب المواجع واستحضار النكات والنميمة الحسنة، إلا أننا مؤخراً، وبعد فترات متباعدة من اللقاءات. كان الصمت ثالثنا. الصمت وليس السكوت هو من جلس إلى طاولتنا. كنا نتحدث لكن بلا كلام. أصلاً لم نكن نشعر بحاجة لذلك. مررت بهذه الحال في حياتي في فترات مبكرة.
أذكر أنه في لقاءاتي مع الشاعر جوزف حرب كانت تمر ساعة من الصمت ولا ينقطع الحديث. أيضاً مع الرسام نذير نبعه والشاعر نزيه أبو عفش كان الوضع ذاته.
هكذا صرت ألتقي وأشاهد أناساً صامتين في مقاهي المدينة. وصرت أتذكر طاولات شهيرة في مقاهي الشام وحاناتها ومطاعمها كان روادها من الصامتين المتحدثين.
تذكرت مثلا طاولة سبهان آدم وجهاد سعد مصطفى علي وسمير حسين وعصام التكروري وسالار أوسي في مقهى الروضة. وطاولة عبد اللطيف عبد الحميد وبسام كوسا ومحمد الأحمد وحسن سامي يوسف في مقهى الهافانا. طاولة أسامة إسبر وناظم مهنا ولؤي سلمان وعلي إسبر في نينار.
طاولة أسامة محمد وعمر أميرلاي في الداون تاون، طاولة محمد الماغوط في مقهى البرازيل. طاولة طلال نصر الدين في كافتيريا الثقافي الروسي. طاولة جورج عشي في مقهى الهافانا. طاولة خليل صويلح وعادل محمود ومحمد ملص ويعرب العيسى في مقهى الروضة. طاولة أحمد معلا وطلال معلا في مقهى البرازيل. طاولة ممدوح عدوان في مطعم وحانة القنديل. طاولة سعيد البرغوثي في بيته في حي الروضة قرب المؤسسة العامة للسينما. طاولة زيد قطريب في مقر جريدة النهضة.
طاولات خليل درويش وحربي عبد الله وحكيم مرزوقي في اسكندرون. طاولة حسين عبد الكريم في نادي الصحفيين. طاولة مجد حيدر في فندق الشام. طاولة أيمن الدقر في فندق أمية. طاولة بندر عبد الحميد في بيته في شارع العابد.
طاولات وطاولات وطاولات.
كلها كانت طاولات صامتة يتخللها كلام شحيح وصمت متحدث، وضحكات مجلجلة. والآن بدأ الصمت يهطل كما لو أنه القمر البدر. لقد صار بالإمكان سماع أصوات الصامتين مع بعضهم البعض، وصار الكلام جهراً بضاعة البشر الذين لا يطيقون الإصغاء لبثهم الداخلي، ويريدون ملء الهواء بالهذر المتجدد.
ما من أحاديث الآن سوى للصمت. الصمت الذي جعل من الحركة الأولى في السيمفونية الخامسة لبيتهوفن مكانتها وغموضها الفتاك. الصمت المبلل بظلال كراسي المقهى وسيل من شتائم تصوبها العيون للعسس وتجار الكلام وطوائفه.. الصمت المبجل الوقور الخجول الحاذق في انتقاء كلامه..