كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

استمرار (قصة قصيرة)

محمد صباح حواصلي

من حيث الظاهر، كان جالساً، مطرقاً، في ركن باهتِ الإضاءة في مقهى بشارع (برودويه)، وكان ساعداه هامدين فوق الطاولة الصغيرة المستديرة، وأمامه كتاب مغلق وفنجان قهوة أمسى فاتراً.
أما في داخله، فقد كان متكوماً على الأرض وكانت ساقاه منطويتين إلى صدره، ورأسه ساقطاً بين ركبتيه، ويداه تضم كتلة جسده بشده وخوف؛ فقد كان يرى هول كل الذي جرى ويجري.. وقد تعذر عليه أن يدفع عن نفسه صور الآتي بتجلياته البغيضة.
كان يحدق في فراغ موصولٍ بذاكرة يقظة تتوارد فيها دقائق المأساة المستمرة بكل تفاصيلها الوحشية. وقد تواشجت العتمة باكراً في نسيج ذلك المساء التشريني. شعر الآن أن الهدوء أصبح أكثر حضوراً، وأن المكان أصبح فارغاً إلا من نادلة كانت تمسح الأرض، وأخرى قد أطفأت أنوار المقهى الخارجية وتلك التي فوق المشرب، وسكتت الموسيقى، وتقدمت منه النادلة التي كانت تمسح الأرض وقالت:
"سنغلق بعد خمس عشرة دقيقة يا سيدي، بإمكانك أن تنهي قهوتك خلالها.."
رشف من قهوته وأعاد الفنجان إلى الطاولة والتقط كتابه المغلق، وقام بتثاقل وكأنه قد جلس لقرن من الزمان.
"عمتَ مساءً يا سيدي.."
"عمتِ مساءً يا آنسة.."
وخرج إلى العتمة المضاءة بمصابيح الشارع وأنوار السيارات، وصوت طرش الماء وتلأليء انعكاس الأنوار على الإسفلت المبلول، وتلقى جسده برودة منعشة أيقظت مكامن الرؤى اليقظة في داخله، وكان القليل من مارّة الليل يسيرون بخطو متعب وقد طفت على وجوههم ظلال باهتة..
كان كل شيء من حوله فيه الكثير من ملامح آخر اليوم، ويهب إحساساً لا محيد عنه أن الاستمرار ليس اختياراً بل هو مآل حتمي لبداية جديدة قادمة.
مجلة الجديد- لندن- 2015