الخمرة
2023.07.01
محسن سلامة:
وجد المتصوّفة أنّ الخروج على الطقوس الدينيّة في إطار التعبير عن الحريّة الفرديّة توصل إلى المطلق والإمساك بسرّ الوجود،
وتضع الحلول للاغتراب الروحيّ في مجتمع ظالم لايُلبّي طموح مثل هؤلاء الشعراء، ولا يرتقي إلى سموّ نفوسهم،
ألم تسمع مقالَ اللّه تعالى فيها: لذّة للشاربينَ
فلو كانت حراماً لم تكن في .... جنان الخلد شرب المتّقينَ
و هذا ابن الفارض سلطان العاشقين المتصوّفين يقول في هذا المعنى:
وقالوا: شربتَ الإثمَ؟! كلّا، و إنّما ... شربتُ التي في تركها الإثم
(الإثم في الشطر الأوّل الخمرة، وفي الثاني الخطيئة)
عليكَ بها صرفاً، وإنْ شئتَ مزجَها ..... فعدلُكَ عن ظلم الحبيب هو الظلم
- قال أبو نُوَاس من الغُبن أن تظلّ صاحياً في الحياة الماديّة:
فما الغُبنُ إلّا أن تراني صاحياً .... وما الغُنْمُ إلّا أن يُتَعْتِعُني السكرُ
فقال ابن الفارض:
فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحياً ... ومن لم يَمُتْ سُكْراً بها فاتَهُ الحَزْمُ
- وإذا كان أبو نُوَاس يتغزّل بالساقي والشادن والأغنّ، فتلك المواجد شبيهة بتلك التي خلعها الصوفيّة على معشوقهم، ورمزوا فيها إلى الذات العليا، يقول أبو نواس:
هو البدر إلّا أنّ فيه ملاحةً ..... بتفتير لحظٍ ليس للشمس والبدر
جفاني بلا جرمٍ إليها اجترمْتُهُ ..... وخلّفني نِضواً خليّاً من الصبر
فيقول ابن الفارض في هذا المحبوب رامزاً من خلاله إلى الذات العليا:
سيفاً تُسَلُّ على الفؤاد جفونُهُ .... وأرى الفتور له بها شحاذا
وبطرفه سحرٌ، لو أبصرَ فعلَهُ ..... هاروتُ، كان له به أستاذا
- وهذا أبو نواس يصف مجالس الخمرة وكأنّها مجالس الصوفيّة حول موائد الصفاء حين تتجلّى لهم الذات العليا،
فانظر أيّ وجدٍ هذا؟ وأيّ شوق؟ وأيّ مجالس تنتهي عند أبي نُوَاس إلى هذا الفيض من الدموع؟
فبعض الندامى في سرور وغبطة .... وبعضُ الندامى للمدامة في أسْرِ
وبعضٌ بكى بعضاً ففاضتْ دموعُهُ ..... على الخدّ كالمِرجان سالَ إلى النَّحر
وليست هذه الدموع إلّا شبيهة بدموع ابن الفارض العاشق الهائم حين يقول:
هي أدمعُ العشّاق جادَ وليُّها ..... الوادي، ووالى جودُها الألواذا
- وإذا كان أبو نُوَاس قد سبق الجميع فلا شكّ أنّ من جاء من بعده قد أخذ عنه الكثير، و لد أبو نواس عام 145هجريّة، 762 ميلاديّة،
بينما ابن الفارض ولد عام 576 هجريّة، 1181 ميلاديّة.