كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

معن حيدر: الصوفية

الصوفية في الأصل: هي حركة دينية انتشرت في العالم الاسلامي في أواخر عصر التابعين (القرن الثالث الهجري / العاشر الميلادي)، بدأت كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل على الانغماس في الترف الحضاري، ثم تطورت حتى صارت حركات وطرقاً معروفة باسم (الصوفية)، ويُرجع الكاتب "أحمد بهجت" في كتابه (بحار الحب عند الصوفية) نشأة الصوفية إلى أيام الفتنة الكبرى في الاسلام التي بدأت بقتل الخليفة الراشدي الثالث "عثمان بن عفان"، عندما اعتزل بعض الصحابة في بيوتهم زهداً وردة فعل على الدماء التي أريقت في تلك الفتنة ..
وهي حسب تعريف كبار الصوفيين: منهج أو طريق يسلكها العبد للوصول إلى معرفة الإله والعلم به بالكشف والمشاهدة، وهو ما يعبّرون عنه بمعرفة الحقيقة، وذلك عن طريق تربية النفس وتطهير القلب، بغية إخضاع الجسد للنفس للوصول الى معرفة الله تعالى.
ويقولون: (هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق) (هو أن تكون مع الله بلا علاقة) (هو تصفية القلب عن موافقة البرية) (هو أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيء)
ويذهب "ابن النديم" في (الفهرست) إلى أن "جابر بن حيان" (وهو تلميذ الإمام جعفر الصادق ت 208 هـ) كان أول الصوفيين.
+وقبل أن نتحدث عن نشأة وتطور الصوفية والتيارات التي ظهرت ضمنها، لابد من مقدمة تتحدث عن المناخ الفكري والثقافي الذي كان سائداً حينذاك:
يمكن القول، إن معظم الحركات الفكرية والسياسية التي قامت في تلك المرحلة التاريخية (القرن الثالث الهجري / العاشر الميلادي) كانت نتيجة تمازج الفكر الذي جاء به الإسلام مع الموروث الفكري لشعوب البلاد التي نشأ وانتشر فيها (كبقايا الموروث الفكري لمرحلة ما قبل الإسلام، ولشعوب بلاد الشام ومابين النهرين وفارس والهند ...)، ونتيجة النهضة العلمية والفكرية التي شهدها العصر الذهبي للدولة العباسية وما رافقه من ترجمة للكتب الهندية والإغريقية والرومانية، وقد نتج عن هذا التمازج الحركات الفكرية التي بدأت أول ما بدأت مع المعتزلة الذين اعتمدوا على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي، ثم مع إخوان الصفا، ثم بدأ الكلام عن التأويل مع دخول الأفكار الغنوصية، وعن خلق القرآن ونفي الصفات، وهل الإنسان مسيّر أم مخيّر وما إلى ذلك ... وكرد فعل على تلك الحركات قامت حركات أخرى دعت إلى التمسك بالنص وعلى رأسها الأشعرية والماتريدية وغيرها.
وقد تأثر التصوف الإسلامي بتلك المؤثرات الداخلية والخارجية (وخاصة الغنوصية، حيث عرفت بلادالرافدين تواجد أربع ديانـات غنوصية، ثلاث منها ظهرت قبل المسيحية وواحدة بعدها وهي المندائية، الحرانية، الإيزيدية، المانوية)، ونجد ذلك واضحاً لدى الحلاج صاحب نظرية الحلول، والبسطامي صاحب نظرية الفناء، وابن عربي صاحب فكرة وحدة الوجود، ناهيك عن بعص الشطحات في تصوف ابن الفارض (الحب الالهي) والشريف الرضي وجلال الدين الرومي ونور الدين العطّار والشبلي وذي النون المصري و السَهْرَوَرْدي (الفلسفة الاشراقية).
+أما التيارات الصوفية، أو طبقات المتصوفين، فيمكن أن نصنّفها إلى:
-التيار الأول: التصوف/ الزهد
يمثله طبقة من أئمة من أهل السنة والجماعة (مثل الحسن البصري والحارث المحاسبي والجنيد) تحض على الزهد في الدنيا والاستقامة والتزام السنّة ونهج السلف، وإن كان ورد عن بعضهم، مثل الجنيد (المتوفى 298هـ ويُلقب بسيد الطائفة) آراء خاصة في التوحيد و النفس وعدّها العلماء من الشطحات، كما ظهرتْ لدى بعضهم ادعاءات الكشف والخوارق، ويمكن أن نصنّف "النِّفَّري" منهم (ت 309 هـ، صاحب عبارة: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، وله كتابي المواقف والمخاطبات)
-التيار الثاني: التصوف الفلسفي
ويمثله طبقة من المتصوفين تأثرت بالعرفانية (الغنوصية) والأفكار الموروثة والأفكار الفلسفية التي دخلت عن طريق الترجمة، وفيها اختلط التصوف بالفلسفة وبعبارات التأويل والباطنية، ولذلك ظهر في كلامهم مصطلحات: الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، والفناء، وشاع بينهم التفرقة بين الشريعة والحقيقة، وتسمية أنفسهم أرباب الحقائق وأهل الباطن، وسموا غيرهم من الفقهاء أهل الظاهر والرسوم.
وظهرت نظريات الفيض والإشراق على يد الغزّالي ت 505 ه، والسَهْرَوَرْدي 587هـ، ومن أشهر رموز هذه الطبقة أيضاً: أبواليزيد البسطامي ت263هـ، ذوالنون المصري ت245هـ، الحلاّج ت 309 هـ، ابن الفارض 632هـ، وابن عربي ت638هـ
وكان الحلاّج هو أول من صرّح بالحديث عن الاتحاد والحلول، وقد رُمي بالكفر وقُتل مصلوباً.
-التيّار الثالث: طبقة الصوفيين أصحاب الطرق، وسيأتي الحديث عنها لاحقاً.
-ويوجدأيضاً تيار المشعوذين
+ أصل تسمية التصوف:
من الصِّفة: إذ أن التصوف هو اتصاف بمحاسن الأخلاق والصفات.
من الصُفَّة: لأن صاحبه تابعٌ لأهل الصُفَّة الذين هم الرعيل الأول من رجال التصوف (وهم مجموعة من المساكين الفقراء كانوا يقيمون في المسجد النبوي ويعطيهم رسول الله من الصدقات والزكاة طعامهم ولباسهم).
من الصوف: لأنهم كانوا يؤثرون لبس الصوف الخشن للتقشف والاخششان.
من الصفاء: فلفظة "صوفي" على وزن "عوفي"، أي: عافاه الله فعوفي.
ويرى المستشرقون أن كلمتي صوفي وتصوف أخذتا من الكلمتين اليونانيتين (سوفيا) و(تيوسوفيا).
+العقيدة الصوفية:
يعتقد الصوفيون أن الدين شريعة وحقيقة، والشريعة هي الظاهر من الدين، وأنها الباب الذي يدخل منه، والحقيقة هي الباطن الذي لا يصل إليه إلاّ المؤمن الصادق، وهناك درجات مثل الصدّيقين والشهداء والصالحين والأخيار.
ويتحدث الصوفيون عن العلم اللدني الذي يكون في نظرهم لأهل النبوة والولاية، كما كان ذلك للخضر عليه السلام.
تثبت العقيدة بالإلهام والوحي الذي يتلقاه الأولياء والاتصال بالروحانيين، وبعروج الروح الى السماوات، وبالفناء في الله، وانجلاء مرآة القلب حتى يظهر الغيب كله للولي الصوفي، وبالكشف، وبربط القلب بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث يستمد العلوم منه.
أما القرآن والسنّة فإن للصوفية فيهما تفسيراً تأويلياً، حيث يسمونه أحيانا تفسير الإشارة ومعاني الحروف، فلكل حرف في القرآن معنى لا يطّلع عليه إلا الصوفي المتبحر، المكشوف عن قلبه.
ويدخل تحت الكشف الصوفي جملة من الأمور منها : النبي صلى الله عليه وسلم، والخضر عليه الصلاة السلام، والإلهام والتلقّي (سواء كان من الله تعالى مباشرة، أو عن الأنبياء غير النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشياخ المتوفين)، والفراسة، والهواتف (سماع الخطاب من الله تعالى، أو من الملائكة، أو الجن الصالح، أو من أحد الأولياء، أو الخضر، أو إبليس، سواء كان مناماً أو يقظةً)، الإسراءات والمعاريج، الكشف الحسي، الرؤى.
+أصحاب الطرق: (الطريقة اصطلاحاً: اسم لمنهج أحد العارفين في التزكية والتربية والأذكار والأوراد، أخذ بها نفسه حتى وصل إلى معرفة الله، فيُنسب هذا المنهج إليه ويعرف باسمه).
يُرجع الصوفية أصل طرقهم وأورادهم إلى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كالذكر بالاسم المفرد (الله)، أو الذكر بالنفي والإثبات (لا إله إلا الله)، ثم نُقلت الطريقتان إلى الصوفيين الذين أضافوا إليها أورادهم وأدعيتهم.
ويمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية للطرق الصوفية وانتشارها، ويُقال إنها انتقلت من إيران (أسسها أبو سعيد محمد أحمد الميهي الصوفي الإيراني430هـ) إلى المشرق الإسلامي، فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبدالقادر الجيلاني، المتوفى سنة 561ه‍، وكانت الرفاعية هي ثاني طريقة (لأبي العباس أحمد بن أبي الحسين الرفاعي ت 540هـ)، وتلت هذه الطريقة المولوية المنسوبة إلى الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي ... وتنتشر في العالم اليوم مئات الطرق.
,,,,,,,,
هامش 1- الأشعرية: فرقة كلامية ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري (80 هـ- 131 هـ) في البصرة (في أواخر العصر الأموي) وقد ازدهرت في العصر العباسي، برز هذا المنهج على يد "أبي الحسن الأشعري" الذي واجه المعتزلة وانتصر لآراء أهل السنة وكان إمامًا لمدرسة تستمد اجتهادها من المصادر التي أقرّها علماء السنة فيما يخص صفات الخالق ومسائل القضاء والقدر. بهذا مثّل ظهور الأشاعرة نقطة تحول في تاريخ أهل السنة والجماعة التي تدعمت بنيتها العقائدية بالأساليب الكلامية كالمنطق والقياس، فأثبت "أبو الحسن الأشعري" بهذا أن تغيير المقدمات المنطقية مع استخدام نفس الأدوات التحليلية المعرفية يمكن أن يؤدي إلى نتائج مختلفة. وإلى جانب نصوص الكتاب والسنّة، فإن الأشاعرة استخدموا العقل في عدد من الحالات في توضيح بعض مسائل العقيدة، وهناك حالات استخدم فيها عدد من علماء الأشاعرةالتأويل لشرح بعض ألفاظ القرآن الموهمة للتشبيه.
هامش 2- "الحلول": ويفسره قول "أبو يزيد البسطامي"، وهو من أئمة الصوفية، مخاطباً الله عز وجل: (فقلت: زّيني بوحدانيتك، وألبسني انانيتك، وارفعني الى أحاديتك ..).
- "وحدة الوجود": التي تعني في العقيدة الصوفية أنه ليس هناك موجود إلا الله سبحانه وتعالى فليس غيره في الكون، وما هذه الظواهر التي نراها إلا مظاهر لحقيقة واحدة هي الحقيقة الإلهية.
- "مفهوم الحب الإلهي" كما يبدو عند هؤلاء المتصوفة يعني الاندماج مع الذات الإلهية، أو الانصهار بها. بحيث تكون هناك ذات واحدة وليست ذات عابد ومعبود – عاشق ومعشوق.
عموماً فالمتصوف هنا إنما يحوّل عبادته إلى عشق – حب للذات الإلهية، الذات المطلقة، وبالتالي فإنه يحاول أن يصل بإي طريقة ممكنة لهدفه، وأفضل طريقة برأي الصوفي هي الحب – الهيام بالذات الإلهية بغية الحلول بها.
ومن هنا نرى "الحلاج" يبين إن الذات الإلهية المطلقة اللامتناهية حلّت في الذات الإنسانية المحدودة التي هي ذات المتصوف / المريد، حيث يقول:
ما تراني أصغي إليه بسمعٍ
كي أعي ما يقول من كلماتِ
كلمات من غير شكل ولا نطق
ولا مثل نغمة الأصواتِ
هامش 3- يرى الصوفية أن الولي هو: "من يتولى الله سبحانه أمره فلا يكله إلى نفسه لحظة، ومن يتولى عبادة الله وطاعته، فعبارته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان".
وحقيقة الولي عند الصوفية: انه يُسلب من جميع الصفات البشرية ويتحلى بالأخلاق الإلهية ظاهراً وباطناً.
ولهم تقسيمات و درجات للولاية: هي الغوث والأقطاب والأَبْدال والنُجباء.
هامش 4- حصل التأخر في النشر لسبب طاريء خارج عن إرادتي.
هامش 5- أعتذر عن الإطالة إلا أنني لم أستطع الاختصار أكثرمما اختصرت.