كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قراءة مشاكسة لنص روائي

أُبيّ حسن

الأسبوع الأدبي: العدد 864 تاريخ 28/6/2003

سبق أن كتبت عرضاً موجزاً عن رواية "تقاسيم الحضور والغياب" للروائي غسان كامل ونوس، وكما رأيتُ أن الرواية تنطوي على أفكار جديدة، معاصرة، متطرفة في أحد أوجهها للعودة إلى الأصول.‏

تتمثل تلك العودة بالشيخ مرزوق، الذي كان في شبابه قدوة لأهل السوء. إضافة إلى ذلك يفرز التطور المحدود للشخصيات صراعاً غير متكافئ بين مرزوق "الشيخ" وأتباعه وبين الفريق العلماني المتنوّر، المتمثل بنبيل ابن الشقيق الوحيد لمرزوق، ونفرٍ قليل من صحبه.‏

تنتهي الرواية بانتصار التيار الأصولي، على العلماني الذي يكاد يصبح أُصولياً هو الآخر!! نلمسُ ذلك في آخر سطر منها، حيث نشهد قدوم واصف – صديق نبيل وزميله في الدراسة الثانوية- إلى القرية ملوحاً بصحيفة في يده، مصيحاً أمام بيت نبيل: [صدقت نبوءة عمك الشيخ مرزوق... ونجحنا..!!..] ص193.‏

إزاء انتهاء الرواية بالجملة المذكورة آنفاً، يحضرني الكثير من الأسئلة، هذا قبل أن أتطرق إلى الرواية من الناحية الفنية. ومن جملة هذه الأسئلة: هل أراد الروائي من خلال تصويره لشخصية مرزوق أن يعكس بعضاً من واقعنا؟ بمعنى أن يصور لنا تلك العودة. الإرادية/ الجماعية (في مجملها)، الشرسة إلى الأصول، حتى ولو كانت عودة من أجل التجارة أو الوجاهة أو الاثنين معاً، كحال مرزوق؟ هذا ولن نغفل أن تلك العودة على أرض الواقع ناجمة عن أسباب عدة لسنا في وارد ذكرها الآن.‏

إذا كان ما سبق أن ذهبت إليه هو أحد الأوجه التي أرادها الروائي، يحق لي أن أتساءل لماذا جعل ما تبقى من سر وميض العقل، المتمثل روائياً بنبيل، يسلّم بالأمر الواقع. ويركن له؟!! تُرى هل أراد غسان كامل ونوس أن يقول لنا: إنه حتى العلمانيين باتوا ينهزمون أمام السطوة الدينية، حتى ولو كانت زائفة؟! أم تراها شخصية نبيل هي صوت الروائي وبالتالي ما تسليم نبيل سوى تسليم الروائي للواقع وبه وباللاوعي؟ أم أنه أراد لنا أن نرفع الراية البيضاء أمام الديكتاتورية الدينية "القادمة". وهي أشرّ من أية ديكتاتورية عسكرية؟!! أم تراه رسمنا كما رآنا، مستكينين، جماعات وأفراداً، أمام تردي الواقع وتخلفهِ؟‏

في هذا الصدد أعتقد أن الاحتمالات كلها مفتوحة، والاجتهادات جميعها مشرعة، وتلك النقاط التي أثارها الروائي، والبؤر التي سلط الضوء عليها، إضافة إلى بعض القضايا التي تطرق وأشار إليها، ملمحاً إلى بعضها الآخر هي أهم ما يميز الرواية، إذ فيها تكمن قوتها من ناحية الفكرة.‏

غير أنّا إذا أردنا الحديث عن ا لرواية من الناحية الفنية، سأجد نفسي مضطراً للقفز إلى ص67، حيث يستحضر الروائي طفلاً دون العاشرة من عمره.. هو شخصية متقمصة.. نرى الطفل، الذي كان يعرف في جيله السابق بأبي إبراهيم، يتعرف إلى الأماكن والمواقع، دالاً الناس إلى الموقع الذي حدث فيه الانفجار الذي مات بسببه "سابقاً"، كذلك يدل زوجته أم إبراهيم أو "شفّوق" كما كان يحب أن يناديها في جيله السابق، إلى موقع في إحدى زوايا البيت الحجرية، حيث خبأ أوراقاً دون علمها، فيها "حجة" بأرض طالبها أحد المتنفذين باسترجاعها بعد وفاته... الخ.‏

هنا إذا وقفنا في موضوع التقمص، وطريقة إدخاله النسيج الروائي، وتوظيفه على صعيد الحدث، نرى أنه أُقحم إقحاماً. إذ لم نره صعّد الحدث الروائي!! ولا كان سبباً في تطور سيرورة الشخصيات! إذ كل ما فعله أنه أثار بعضاً من الأسئلة لدى بعض أبطال الرواية كنبيل، وسليم... ص102: [مثلاً، ما رأيناه ثلاثتنا، ذلك الولد الذي تعرّف على الناس والأماكن والأغراض، أما كنتَ حاضراً يا سليم؟!‏

- تقصد أبا إبراهيم الصغير؟!‏

- في الحقيقة الأمر يحتاج إلى وقفة فعلاً. صحيح أن هذه الحالات قليلة، ولكن أمر تصديقها ليس سهلاً.‏

- أو تكذيبها...]‏

لعمري أن هذه الأسئلة المثارة في الحوار، أقرب ما تكون إلى مونولوج داخلي/ ذاتي، بين الروائي العلماني المتشكك، وذاته المتسائلة إزاء ما تشاهده من ظواهر يعجز العلم عن الإجابة عليها في الوقت الراهن، غير أنها حقائق، أو وقائع تقع أحياناً. طبعاً الذي دفعني إلى هذا الاستنتاج هو البيئة/ المجتمع الحاضن لمجريات وأحداث الرواية، بيئة/ مجتمع مشابه لبيئة/ مجتمع الروائي. إذ يدخل التقمص في بنية النسيج الاجتماعي، مشكلاً زاداً روحياً لمجتمع ما.‏

من ثم بما أن الروائي تطرق إلى ذلك الموضوع لماذا ألبس ثوب التقمص لشخصية معدمة روائياً؟ حتى زوجة المتقمص، أم إبراهيم نفسها، شخصية هامشية! حيث لا ذكر لها في طول الرواية وعرضها إلا في ذلك الموضوع تحديداً!‏

يخطر ببالي أن أسأل الروائي، لماذا لم تكن ٍتلك الشخصية لأبي سعد زوج أم سعد "الأرملة"، سيما أن الأخيرة ذات حضور قوي وفاعل ومؤثر في مجريات العمل الروائي ككل؟‏

لا أدري لماذا أتذكر الآن شخصية المتقمص "كامل الفضل" في رواية "قصر المطر" لممدوح عزّام، تلك الشخصية الموظفة توظيفاً محكماً، إذ كان لها أثرها الواضح والفاعل في مجريات الحدث الروائي.‏

من الأمور الأخرى التي أحب التوقف عندها، اختزال الروائي الكثير من الأحداث في صوت السارد، فمثلاً غياب مرزوق بعد أن يفعل ما فعل بشهلا، ومن ثم تَوظُفُه في المدينة. ناهيك عن ماهية وظيفته التي ندركها لاحقاً من خلال حوار وحدثٍ مفتعلين.‏

الأمر نفسه ينطبق على دخول شهلا العصفورية، بعد أن تحمل من مرزوق. فمن الذي أدخلها المشفى؟ وكيف؟ ما هو مصير أولادها من بعدها؟ بل ما هو مصير الجنين الذي حملت به من مرزوق؟ لا أدري! حتى السارد نفسه لا يخبرنا!!‏

ألم يكن الأحرى بالروائي أن يُلبس ما ذكرته آنفاً، ومثله الكثير، ثوب الأحداث، جاعلاً الشخصيات تُعلن للقارئ رحلة تطورها أو تدهورها؟ وبالتالي تُفصح عن معاناتها. ومن ثم صيرورة نضجها.؟‏

في بعض مواطن الرواية نَلمس ذلك، أحياناً بطريقة فنية رائعة، كما في الفصل الأوّل، وأحياناً بطريقة هشة، مثل ذلك استحضار الروائي لأخ عز الدين (كلا الشخصيتين –عز الدين وأخوه- مقحمتين) الذي يدعي أن أخاه قُتل في الحرب ص151-152، بسبب عدم مساعدة مرزوق له عندما كان موظفاً، إذ كان بمقدوره حينها نَقلهُ من على الجبهة إلى مكان قريب لذا يلومه، متهماً إياه بقتل أخيه. هنا نتعرف على ماهية عمل مرزوق أثناء غيبته التي استمرت عشرين عاماً خارج القرية، إذ كان في سلك الجيش ومن المرجح أن رتبته لم تتعد المساعد أوّل، بسبب من تحصيله التعليمي الزهيد.‏

إذا كان هدف الروائي من إتمام هذه الحادثة، تعريف القارئ على طبيعة عمل مرزوق، تُرى هل بإمكان الأخير أن ينقل عسكرياً من على الجبهة؟ وفي زمن الحرب؟!! اللهم إلا إذا كان مساعد أوّل.‏

وكي أطوي الصفحة السابقة، سأنتقل إلى عنصر المأساة، الحاضر بقوة وواقعية، في الرواية. نلحظ ذلك أثناء رفض مرزوق "الشيخ" أن تدفن شهلا في مقبرة القرية، ولماذا؟ كونها مجنونة (!)، ناهيك عن أن الصلاة على فاقد العقل لا تجوز!! (كما أفتى مرزوق).‏

وقد تكون المأساة الجماعية ظاهرة في الرواية، أكثر ما تكون في الفصل الأوّل، وهو أكثر فصولها تكثيفاً على صعيدي اللغة والحدث، حيث نشهد في هذا الفصل عملية سوق الآباء لبناتهم الريفيات إلى المدينة –بيروت- بغية العمل فيها خادمات. طبعاً بإمكاننا أن نتصور حجم تلك المعاناة/ المأساة، الجماعية، الناجمة عن ظروف الحياة القاسية، إضافة إلى ظلم الطبيعة التي أفرزت بدورها بيئة جبلية وعرة لا تصلح للزراعة.. ما دفع الآباء لجرِّ بناتهم إلى بيروت... ما يحسب للروائي في هذا السياق اختزاله تلك المأساة/ المعاناة الجماعية، بشهلا، والجدير ذكره أن صوت السارد في هذا الفصل –الفصل الأوّل- يكاد يختفي، أو على الأقل تخف وطأته، فاسحاً المجال للأحداث والمنعطفات التي تمر بها الشخصيات، فالأحداث المتوالدة هي سيدة الموقف، فمن خلالها، وخلال مجريات حياة الأشخاص، ندرك حجم المعاناة/ المأساة.‏

ظاهرة عمل البنات الريفيات كخادمات، تقودنا آلياً إلى الزمن الروائي، الذي شمل بدوره جيلين.‏

فزمن الجيل الأوّل ندركه من ظاهرة عمل الريفيات كخادمات إذ استفحلت هذه الظاهرة في نهاية أربعينات القرن الماضي وبداية خمسيناته، ولم تنحسر إلا مع بداية ستيناته، لتتلاشى تدريجياً بعد الثامن من آذار 1963. الأمر الذي يفيدنا بأن زمن بداية أحداث الجيل الأوّل هو بداية خمسينات القرن الماضي.‏

زمن الجيل الثاني نشهد حضوره في الفصل الثاني من الرواية، وما يليه.. جيل نبيل، وسليم، وواصف.. الخ، وقد بلغوا سن الشباب –أصغرهم بكالوريا- نستشفه بدقة من خلال آهات واصف لنبيل في ص156: [إيه...! رحم الله أيام بيروت، بيروت الآن تحترق، آه لو تعود!!].‏

بين ذينك الزمنين (1950-1975) تجري أحداث الرواية، وسيبقى السؤال، في حال صدقت رؤيتنا، حول العودة إلى الأصول، تُرى هل كانت هذه العودة قد بدأت عام 1975؟ أم أنها كانت ستنتظر عقداً آخر من الزمن؟‏

هيثم المالح وشيخوخة الكبار التي لم تراع
موسى أبو مرزوق: "السلطة الفلسطينية تعني «فتح» و«حماس»"
دبي: أعجوبة أم مشهد عابر؟
سورية المبتدأ والخبر
أُُبي حسن في ((سورية المبتدأ والخبر)).. جرأة الطرح وخلخلة المسلمات
جريدة فينكس الالكترونية: منبر إعلامي سوري جديد مستقل موضوعي وعادل
حفل إطلاق جريدة فينكس الإلكترونية بحلتها الجديدة بحضور رسمي واعلامي
حفل اطلاق جريدة فينكس الالكترونية بحلتها الجديدة
شعارها ”سورية وطن يسكننا” الاحتفال بإطلاق جريدة (فينكس) الألكترونية بحلتها الجديدة
انطلاق (فينكس) بحلته الجديدة..
د. خالد حدادة أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني (في حوار قديم معه)
حركة الإصلاح الديني مجدداً ودور المثقف الوطني
صادق جلال العظم: حزب الله انتصر في حربه مع إسرائيل, لكنه نصر غير مظفر
زياد جيوسي: همسات الروح لفينكس في العيد العاشر
كتب إحسان عبيد: فينكس.. فنار بحري.. (بمناسبة دخوله عامه العاشر)