كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أُبي حسن: عن زياراتي إلى جورج جرداق

نُشرت في موقع فينكس, للمرة الأولى, بتاريخ 2014-11-15
كنتُ أطرب لسماع صوته عبر أثير إذاعة "صوت لبنان", في برنامجه الصباحي "قليل من كثير وجورج جرداق على طريقته", سجلتُ له عبر أشرطة الكاسيت معظم الحلقات التي سمعتها.. لم أكن حينها قرأتُ له سوى مجلدين من مجلداته الخمسة عن "صوت العدالة الإنسانية", إذ استعرتها في ذياك الزمن من أحد الأصدقاء قبل أن أقتنيها صيف 1994..
عزمتُ أمري بغية زيارته, حاولتُ مرتين في صيف وخريف 1993, فقصدتُ بيروت بيد أني لم أوفق بالوصول إليه, عقب فشلي الثاني أتيتُ مباشرة إلى منزل الشاعر الراحل نديم محمد في طرطوس أقصّ عليه خيبتي في الوصول إلى جرداق, طالباً منه رقم هاتفه إن كان لديه, فبساطة تفكيري في باكورة العمر كانت تفرض عليّ أن أعتقد أن الأدباء والشعراء عائلة واحدة يعرفون بعضهم ويتواصلون فيما بينهم باستمرار.. كان مبدع "آلام" في وضع صحي لا يحسد عليه, قال لي, وقد كان عنده صديقه "أبو خالد": "اتصل بي جرداق منذ بضع سنوات يسألني عند سبب غيابي عن الساحة الأدبية".. فأجابه ما أجابه عن انكفائه بحسب قوله, لكنه لم يحتفظ بهاتفه. 
في شتاء العام ذاته(الشهر 12 منه), حاولت للمرة الثالثة, ووفقت في ذلك عن طريق إذاعة "صوت لبنان", حيث التقيتُ هناك بمهندس صوت اسمه إميل العلية (من جونيه) سيذكره جرداق لاحقاً في بعض مقالاته, رافقني إلى منزل صاحب "هذه ليلتي", الذي لم يكن يبعد عن المبنى الشاهق لـ"صوت لبنان" في الأشرفية ببيروت الشرقية أكثر من ثلاثمائة متر وربما أقل من ذلك بقليل. عندما رآني وعرف غرضي ومكان قدومي استقبلني بحفاوة وسرور أبويين, إذ كنتُ في التاسعة عشر من عمري, بدا سعيداً عندما علم إني أتابع حديثه الصباحي عبر أثير الإذاعة الذي يصل بثّها إلى القضاء الجبلي لبلدة "الشيخ بدر" في ريف طرطوس. كان صالون منزله, حيث جلسنا في زاوية منه, يعج بآلاف الكتب المكدّسة فوق بعضها, ذُهلت من المشهد, إذ كانت أول مرة في حياتي أرى هذه الكمية من الكتب في منزل ما.. قال جرداق وهو ينظر إلى جبل الكتب: "نرتب المنزل قليلاً, سأنقل غداً الكتب إلى منزل في الجبل  في برمانا".

لم أجد صعوبة, في لمس الحسّ الإنساني لدى جورج جرداق, وهذا الجانب كان أحد أهم الأسباب التي جعلتني أنظر إليه دائماً باحترام منقطع النظير. كنتُ أخبرته عن محاولتيّ السابقتين لزيارته وكيف باءتا بالفشل, وإني طلبتُ بُعيد عودتي (الثانية, الخائبة) هاتفه من نديم محمد إن كان بحوزته, فسألني من هو نديم محمد؟ استغربت السؤال, وأجبته بأنه شاعر, بل من الرموز الشعرية  في سوريا, وذكرت له ديوانه "آلام", فنفى معرفته به, لم أذكر له –من باب الأدب- أنّ نديماً أخبرني عن الاتصال الهاتفي.. عندما أتذكر هذه الحادثة الآن, أستطيع تفهّم دوافع نديم محمد لاختلاق ما قاله لي, لعلّ في مقدمتها هو الإهمال الذي عاشه ولم يكن يستحقه... الخ.

في زيارتي الثانية له, وكانت بتاريخ 17أيار 1994, قلت له: "يا أستاذي هدية العالم علمه", صمت وظل ينظر إلي بعينيه الوديعتين الصغيرتين مبتسماً, فأكملتُ: "أرجو أن تهديني كتاباً من نتاجك", عندها نهض من مقعده, دخل إحدى غرف المنزل ثم عاد, وبيده كتاب "نجوم الظهر", سألني باسم من تحب أن أكتب الإهداء؟ فأجبته على الفور: "باسم والدي لأنه هو السبب في معرفتي بك كما أخبرتك".. فكان إن كتب بخط يده الإهداء إلى والدي بعد أن سألني عن اسمه.. في تلك الجلسة قال لي: "لديّ نحو عشرين مخطوطاً لم تطبع بعد".اهداء كتابه لوالدي

      سأكتشف من خلال زياراتي المتعددة لجرداق أنه يجهل الكثير من أسماء الثقافة السورية, فمثلاً هو لا يسمع بصادق جلال العظم (طرحتُ اسمه على مسمعه عام 2008 وكانت صداقتي مع صادق في أوجها), فحدثته عن قصة كتاب "نقد الفكر الديني" للعظم أواخر ستينات القرن الماضي ومقاضاته في لبنان, أجابني إنه كان سننذاك في فرنسا, قبالة ذلك تجده صديقاً لرموز الحركة الموسيقية والدرامية المعاصرة له في سوريا (وبالتأكيد في كل من مصر ولبنان), فهو حمّلني في آخر زيارة إليه صيف عام 2009 سلاماً إلى الموسيقي سهيل عرفة (أذكر أني أخذت رقم هاتف "عرفة" من بيت ممدوح عدوان, حيث اتصلت به من هناك وأوصلت له السلام), كما تجمعه علاقة صداقة بدريد لحام, إذ كتب له ولفيلمون وهبي مسرحية بعنوان "قضية وحرامية", وتحدث بمودة عن رسول الكآبة- محمد الماغوط.

لم ترتق علاقتي به, رغم تعدد زياراتي إليه في منزله, إلى مستوى الصداقة.. ظلت في طور التلميذ المعجب بأستاذه البعيد عنه جغرافياً.. سألته ذات مرة عن التقمص, فأجابني على الفور أنه خرافة, فقلت له: ميخائيل نعيمة (وهو من قدّم له مجموعته عن الإمام علي) كان يؤمن به, وجبران خليل جبران لامسه, فأجاب بعد هنيهة: "ربما كان نعيمة يقصد بإيمانه ذاك مقولة لافوزييه: ما من شيء يضيع وما من شيء يخلق، كل شيء يتحول", فصمتُ ليس فقط لمعرفتي أن نعيمة تطرق إلى معاني فكرة لافوزييه من خلال بعض نصوصه بل لحقيقة كون نعيمة نظّر في التقمص بوضوح مابعده وضوح!..

ذات لقاء سألته عن رأيه في القول المنسوب إلى الإمام علي عن المرأة "كلها شرّ, وشرّ مافيها أنه لا بدّ منها", فاستهجن هذا القول مشككاً أن يكون للإمام علي, مضيفاً: "وإن كان الإمام قائله, فربما قاله في مرحلة صراعه مع عائشة كونه تأذى منها", مردفاً: "المرأة حبيبتي وزوجتي وأمي وأختي وابنتي فكيف تكون شرّاً؟!".

كانت أسعد اللحظات لديه هي عندما يتحدث عن علاقته بالأخوين رحباني, والأهاجي المتبادلة بينهم والمتفق عليها مسبقاً عبر صفحات "الشبكة", أذكر حديثه لي عن مقال نقدي له عن مسرحيتهما "جبال الصوان" وكان عنوانه "تلال الصوان".. أكثر من مرة سمعته يقول عند ذكره لعاصي الرحباني إن روحه عظيمة.. والأمر نفسه إذا ما ذكر محمد عبد الوهاب وأم كلثوم..

قصد ذات مرة في سبعينات القرن الماضي نجيب حنكش, يصحبه منصور الرحباني, كان الأول مقيماً في زحلة (إن لم تخني الذاكرة), يقول جرداق: "كان منصور غبياً في معرفة الطرقات ومع ذلك أرادنا أن نذهب عبر طريق غير الطريق المعروفة, وعندما طال طريقنا, توقفنا كي نسأل أحد المارة عن زحلة وكم تبعد عنّا, فأجابنا المار إن الطريق إليها ليس من هنا.. أنتم في بسكنتا (بلدة ميخائيل نعيمة).. عندها نظرت إلى منصور وقلت له شرّف نكفي إلى عند ميخائيل نعيمة ننام عنده الليلة". (توفي نجيب حنكش في 20 نيسان 1977).

في إحدى لقاءاتي به في منزله, وجدته منزعجاً, وعندما سألته عن السبب, أجاب: "توجد دار نشر اسمها دار صعصعة, في البحرين, نشرت كتابي عن الإمام (علي) دون إذن مني, راسلتهم محتجاً فلم يردوا عليّ!.. تصور قلّة الذوق!".

اجتمعتُ بصاحب دار نشر شهيرة في بيروت, الناشر وصاحب مكتبة من الكويت وأنا, تطرقنا إلى سلسلة جرداق عن الإمام علي, قلتُ لهما: "عندما سألت جرداق عن الزمن الذي استغرقه في كتابتها قال لي إنه سريع جداً في الكتابة, فقد أنهى كتابتها ببضعة أشهر, وقد كان عمره دون الثلاثين!", ابتسم الناشر, وقال بهدوء: "جرداق لم يكتب شيئاً عن الإمام علي", وعندما عبّرت نظراتي ونظرات ضيفه الكويتي عن استغرابنا لما نسمعه, أردف: "هل سألتم أنفسكم لماذا لم يكتب حرفاً واحداً عن الإمام, بعد مضي أكثر من نصف قرن على سلسلته؟ ألم يكتشف الكاتب وهو في سن الخمسين أو الستين مثلاً في شخصية الإمام ما يمكن أن يكتب عنه؟", عندها سألته من إذاً كتب السلسلة؟!", أجاب بهدوء: "كان شقيقه فؤاد يقيم في بغداد, وهو من كتب هذا العمل, وعند وفاة فؤاد في بغداد أرسلوا له حوائجه وأغراضه وكتبه ومخطوطاته وكانت هي ضمنها, فدفع بها جورج إلى المطبعة, ووضع اسمه عليها".. طبعاً, لم أعلّق على الموضوع, وقصدتُ جرداق في الزيارة ذاتها, وكانت في خريف 2009 (آخر زيارة لي إلى بيروت) من جهة كي أطمئن عليه لاسيما وجدته في حجي الأخير إليه يشكو من متاعب صحية في القلب, ومن جهة أخرى كي أطرح عليه السؤال بطريقة أو بأخرى, لكن مع الأسف لم أجد يومذاك أحداً في المنزل, فعدتُ خائباً ومررتُ في طريق عودتي إلى "صوت لبنان" حيث تركتُ له سلاماً..

سأعلم لاحقاً إن شقيقه فؤاد توفي في بلدته مرجعيون عام 1965م, مايعني إن ما ذكره الناشر البيروتي على مسمعي كان هراء (سلسلة جرداق عن الامام صدرت عام 1960م).
وبمعزل عما سبق ذكره, يجد المتأمل في مجموعته عن الإمام أن مجلداتها الخمسة كان يمكن أن تخرج في كتاب من جزأين, فالوصف والإنشاء سمتان بارزتان في صفحات المجموعة, والسمتان كانتا دارجتين لدى كتّاب ذياك الزمن.

كان يذكر أم كلثوم بكثير من الاحترام, وأنه دُهش عندما زارها في منزلها  في القاهرة, حيث لم ير صوراً أو لوحات فنية معلقة على الجدران في صالون منزلها, فقط كانت تعلّق مقالاً (ضمن إطار) كتبه هو عنها (أو عن إحدى أغانيها, لم أعد أذكر) لشدة إعجابها بالمقال.. سألته حينها: "هل صحيح إن أم كلثوم كانت مدمنة على المخدرات كما يُشيع البعض؟", أجاب على الفور: "أعوذ بالله! سيدة عظيمة مثل أم كلثوم تمشي يومياً في الصباح نحو ثماني كيلومترات تتعاطى المخدرات؟!.. نحن نعلم أن من يتعاطى هذا الوباء ليس بمقدوره المشي هذه المسافة!", ثم يسألني: "من أين سمعت هذه الشائعة؟ وكيف يشيعون على سيدة عظيمة مثل هذا؟", فأجبته: "من يشيع ذلك يستدل على مقولته من خلال المنديل الذي كان ملازماً لها", طبعاً, أدرك أنه استدلال أوهن من بيت العنكبوت, ويجيبني جرداق موضحاً سبب وجود المنديل بيدها, وقد كانت وجهة نظره مقنعة.

رحل جرداق, وهو الكاتب غزير الكتابة والعطاء غزارة ينابيع مسقط رأسه مرجعيون, ونقي العبارة كثلج  صنين.. رحل, و أمثاله متى يرحلون وفي أي سن يغادرون, فإنهم يغادرون قبل زقزقة العصافير.

 

 

 

 

 

هيثم المالح وشيخوخة الكبار التي لم تراع
موسى أبو مرزوق: "السلطة الفلسطينية تعني «فتح» و«حماس»"
دبي: أعجوبة أم مشهد عابر؟
سورية المبتدأ والخبر
أُُبي حسن في ((سورية المبتدأ والخبر)).. جرأة الطرح وخلخلة المسلمات
جريدة فينكس الالكترونية: منبر إعلامي سوري جديد مستقل موضوعي وعادل
حفل إطلاق جريدة فينكس الإلكترونية بحلتها الجديدة بحضور رسمي واعلامي
حفل اطلاق جريدة فينكس الالكترونية بحلتها الجديدة
شعارها ”سورية وطن يسكننا” الاحتفال بإطلاق جريدة (فينكس) الألكترونية بحلتها الجديدة
انطلاق (فينكس) بحلته الجديدة..
د. خالد حدادة أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني (في حوار قديم معه)
حركة الإصلاح الديني مجدداً ودور المثقف الوطني
صادق جلال العظم: حزب الله انتصر في حربه مع إسرائيل, لكنه نصر غير مظفر
زياد جيوسي: همسات الروح لفينكس في العيد العاشر
كتب إحسان عبيد: فينكس.. فنار بحري.. (بمناسبة دخوله عامه العاشر)