أُبي حسن: عن زياراتي إلى جورج جرداق
عزمتُ أمري بغية زيارته, حاولتُ مرتين في صيف وخريف 1993, فقصدتُ بيروت بيد أني لم أوفق بالوصول إليه, عقب فشلي الثاني أتيتُ مباشرة إلى منزل الشاعر الراحل نديم محمد في طرطوس أقصّ عليه خيبتي في الوصول إلى جرداق, طالباً منه رقم هاتفه إن كان لديه, فبساطة تفكيري في باكورة العمر كانت تفرض عليّ أن أعتقد أن الأدباء والشعراء عائلة واحدة يعرفون بعضهم ويتواصلون فيما بينهم باستمرار.. كان مبدع "آلام" في وضع صحي لا يحسد عليه, قال لي, وقد كان عنده صديقه "أبو خالد": "اتصل بي جرداق منذ بضع سنوات يسألني عند سبب غيابي عن الساحة الأدبية".. فأجابه ما أجابه عن انكفائه بحسب قوله, لكنه لم يحتفظ بهاتفه.
في زيارتي الثانية له, وكانت بتاريخ 17أيار 1994, قلت له: "يا أستاذي هدية العالم علمه", صمت وظل ينظر إلي بعينيه الوديعتين الصغيرتين مبتسماً, فأكملتُ: "أرجو أن تهديني كتاباً من نتاجك", عندها نهض من مقعده, دخل إحدى غرف المنزل ثم عاد, وبيده كتاب "نجوم الظهر", سألني باسم من تحب أن أكتب الإهداء؟ فأجبته على الفور: "باسم والدي لأنه هو السبب في معرفتي بك كما أخبرتك".. فكان إن كتب بخط يده الإهداء إلى والدي بعد أن سألني عن اسمه.. في تلك الجلسة قال لي: "لديّ نحو عشرين مخطوطاً لم تطبع بعد".
سأكتشف من خلال زياراتي المتعددة لجرداق أنه يجهل الكثير من أسماء الثقافة السورية, فمثلاً هو لا يسمع بصادق جلال العظم (طرحتُ اسمه على مسمعه عام 2008 وكانت صداقتي مع صادق في أوجها), فحدثته عن قصة كتاب "نقد الفكر الديني" للعظم أواخر ستينات القرن الماضي ومقاضاته في لبنان, أجابني إنه كان سننذاك في فرنسا, قبالة ذلك تجده صديقاً لرموز الحركة الموسيقية والدرامية المعاصرة له في سوريا (وبالتأكيد في كل من مصر ولبنان), فهو حمّلني في آخر زيارة إليه صيف عام 2009 سلاماً إلى الموسيقي سهيل عرفة (أذكر أني أخذت رقم هاتف "عرفة" من بيت ممدوح عدوان, حيث اتصلت به من هناك وأوصلت له السلام), كما تجمعه علاقة صداقة بدريد لحام, إذ كتب له ولفيلمون وهبي مسرحية بعنوان "قضية وحرامية", وتحدث بمودة عن رسول الكآبة- محمد الماغوط.
لم ترتق علاقتي به, رغم تعدد زياراتي إليه في منزله, إلى مستوى الصداقة.. ظلت في طور التلميذ المعجب بأستاذه البعيد عنه جغرافياً.. سألته ذات مرة عن التقمص, فأجابني على الفور أنه خرافة, فقلت له: ميخائيل نعيمة (وهو من قدّم له مجموعته عن الإمام علي) كان يؤمن به, وجبران خليل جبران لامسه, فأجاب بعد هنيهة: "ربما كان نعيمة يقصد بإيمانه ذاك مقولة لافوزييه: ما من شيء يضيع وما من شيء يخلق، كل شيء يتحول", فصمتُ ليس فقط لمعرفتي أن نعيمة تطرق إلى معاني فكرة لافوزييه من خلال بعض نصوصه بل لحقيقة كون نعيمة نظّر في التقمص بوضوح مابعده وضوح!..
ذات لقاء سألته عن رأيه في القول المنسوب إلى الإمام علي عن المرأة "كلها شرّ, وشرّ مافيها أنه لا بدّ منها", فاستهجن هذا القول مشككاً أن يكون للإمام علي, مضيفاً: "وإن كان الإمام قائله, فربما قاله في مرحلة صراعه مع عائشة كونه تأذى منها", مردفاً: "المرأة حبيبتي وزوجتي وأمي وأختي وابنتي فكيف تكون شرّاً؟!".
كانت أسعد اللحظات لديه هي عندما يتحدث عن علاقته بالأخوين رحباني, والأهاجي المتبادلة بينهم والمتفق عليها مسبقاً عبر صفحات "الشبكة", أذكر حديثه لي عن مقال نقدي له عن مسرحيتهما "جبال الصوان" وكان عنوانه "تلال الصوان".. أكثر من مرة سمعته يقول عند ذكره لعاصي الرحباني إن روحه عظيمة.. والأمر نفسه إذا ما ذكر محمد عبد الوهاب وأم كلثوم..
في إحدى لقاءاتي به في منزله, وجدته منزعجاً, وعندما سألته عن السبب, أجاب: "توجد دار نشر اسمها دار صعصعة, في البحرين, نشرت كتابي عن الإمام (علي) دون إذن مني, راسلتهم محتجاً فلم يردوا عليّ!.. تصور قلّة الذوق!".
اجتمعتُ بصاحب دار نشر شهيرة في بيروت, الناشر وصاحب مكتبة من الكويت وأنا, تطرقنا إلى سلسلة جرداق عن الإمام علي, قلتُ لهما: "عندما سألت جرداق عن الزمن الذي استغرقه في كتابتها قال لي إنه سريع جداً في الكتابة, فقد أنهى كتابتها ببضعة أشهر, وقد كان عمره دون الثلاثين!", ابتسم الناشر, وقال بهدوء: "جرداق لم يكتب شيئاً عن الإمام علي", وعندما عبّرت نظراتي ونظرات ضيفه الكويتي عن استغرابنا لما نسمعه, أردف: "هل سألتم أنفسكم لماذا لم يكتب حرفاً واحداً عن الإمام, بعد مضي أكثر من نصف قرن على سلسلته؟ ألم يكتشف الكاتب وهو في سن الخمسين أو الستين مثلاً في شخصية الإمام ما يمكن أن يكتب عنه؟", عندها سألته من إذاً كتب السلسلة؟!", أجاب بهدوء: "كان شقيقه فؤاد يقيم في بغداد, وهو من كتب هذا العمل, وعند وفاة فؤاد في بغداد أرسلوا له حوائجه وأغراضه وكتبه ومخطوطاته وكانت هي ضمنها, فدفع بها جورج إلى المطبعة, ووضع اسمه عليها".. طبعاً, لم أعلّق على الموضوع, وقصدتُ جرداق في الزيارة ذاتها, وكانت في خريف 2009 (آخر زيارة لي إلى بيروت) من جهة كي أطمئن عليه لاسيما وجدته في حجي الأخير إليه يشكو من متاعب صحية في القلب, ومن جهة أخرى كي أطرح عليه السؤال بطريقة أو بأخرى, لكن مع الأسف لم أجد يومذاك أحداً في المنزل, فعدتُ خائباً ومررتُ في طريق عودتي إلى "صوت لبنان" حيث تركتُ له سلاماً..
سأعلم لاحقاً إن شقيقه فؤاد توفي في بلدته مرجعيون عام 1965م, مايعني إن ما ذكره الناشر البيروتي على مسمعي كان هراء (سلسلة جرداق عن الامام صدرت عام 1960م).
وبمعزل عما سبق ذكره, يجد المتأمل في مجموعته عن الإمام أن مجلداتها الخمسة كان يمكن أن تخرج في كتاب من جزأين, فالوصف والإنشاء سمتان بارزتان في صفحات المجموعة, والسمتان كانتا دارجتين لدى كتّاب ذياك الزمن.
كان يذكر أم كلثوم بكثير من الاحترام, وأنه دُهش عندما زارها في منزلها في القاهرة, حيث لم ير صوراً أو لوحات فنية معلقة على الجدران في صالون منزلها, فقط كانت تعلّق مقالاً (ضمن إطار) كتبه هو عنها (أو عن إحدى أغانيها, لم أعد أذكر) لشدة إعجابها بالمقال.. سألته حينها: "هل صحيح إن أم كلثوم كانت مدمنة على المخدرات كما يُشيع البعض؟", أجاب على الفور: "أعوذ بالله! سيدة عظيمة مثل أم كلثوم تمشي يومياً في الصباح نحو ثماني كيلومترات تتعاطى المخدرات؟!.. نحن نعلم أن من يتعاطى هذا الوباء ليس بمقدوره المشي هذه المسافة!", ثم يسألني: "من أين سمعت هذه الشائعة؟ وكيف يشيعون على سيدة عظيمة مثل هذا؟", فأجبته: "من يشيع ذلك يستدل على مقولته من خلال المنديل الذي كان ملازماً لها", طبعاً, أدرك أنه استدلال أوهن من بيت العنكبوت, ويجيبني جرداق موضحاً سبب وجود المنديل بيدها, وقد كانت وجهة نظره مقنعة.
رحل جرداق, وهو الكاتب غزير الكتابة والعطاء غزارة ينابيع مسقط رأسه مرجعيون, ونقي العبارة كثلج صنين.. رحل, و أمثاله متى يرحلون وفي أي سن يغادرون, فإنهم يغادرون قبل زقزقة العصافير.