كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من "ليل العبيد" إلى ليل الحضيض

أبيّ حسن- موقع الرأي الالكتروني- Saturday, January 29- 2005

سبق لأكثر من أديب عربي معاصر أن لجأ إلى التاريخ بغية محاورته ومساءلته إسهاما منه في معالجة مشاكل واقعه بتسليط الضوء عليه من خلال إيجاد معادل تاريخي له, فعلى سبيل المثال لا الحصر ,عندما كتب جمال الغيطاني عن المستبد رحلّ موضوعه إلى القرن السادس عشر, و سبق لمحمود الورداني أن عالج واقعا ارتآه بكتابته عن مرحلة تعود إلى زمن سيد الشهداء, ولم يكن المسرح العربي, بحال من الأحوال, بمنأى عما يجري في محيطه الزمكاني, فقد عالج سعد الله ونوس ما كان قد أفرزه (أو استنسخه) واقعه المتردي في أكثر من مسرحية وجدت لها صدى في التاريخ كـ"مغامرة رأس المملوك جابر" و"الملك هو الملك" وغيرها, كذلك كان حال ممدوح عدوان الذي قرأ واقعه في تناوله العديد من الأعمال التاريخية ذات الصبغة الإسلامية (بافتراض أن تاريخنا إسلاموي في مجمله), ومن أعمال ممدوح تلك مسرحية "كيف تركت السيف" و"محاكمة الرجل الذي لم يحارب" و "ليل العبيد", أما الكاتب المسرحي طلال نصر الدين فقد رأى راهنه في زمن "عمر بن عبد العزيز".

مع العلم أن الاختلاف في الأزمان التي تناولها أولئك الكتاب, وغيرهم ممن لا يتسع المقام لذكر أعمالهم, لايعني بالضرورة الاختلاف في بؤس الواقع الذي انطلقوا منه, بل على العكس من ذلك إذ الواقع واحد بمساوئه وبالآتي القضايا التي تناولوها تكاد تكون واحدة من حيث دلالتها, تماما كما مسببها واحد ألا وهو الاستبداد مهما اختلفت السبل التي ينتهجها, ولئن تعددت وتباينت طرائق تناول هذه القضية (المشكلة) أو تلك, سواء أكان التعدد والتباين من حيث نوع الجنس الأدبي أم من حيث زاوية تناولهم وطرحهم للموضوع.

السؤال الآن: إذا كان كل هذا الكم الهائل من الأعمال الإبداعية المعاصرة قد وجد له معادلا موضوعيا في التاريخ (أكرر الاسلاموي) ترى مالذي تغير في تاريخنا اذاً؟ وأين هي مكامن الجدة فيه؟ ومن ثمّ ماهو التاريخ وماذا يعني بالنسبة لنا من حيث درجة استيعابنا وإدراكنا له كنتاج بشري وحراك اجتماعي يسهم في إنتاجه أفراد المجتمع المعني بافتراض أنهم حملة التاريخ ومادته, لا تاريخا جامدا يقوم على الشخصانية و الفردانية التي تلغي ما قبلها ليبدأ معها (وحدها) التاريخ وبالتأكيد ينتهي معها. والسؤال هنا ينطوي, حتما, على مدى إمكانية إنتاجنا للمعرفة بطريقة اتوماتيكية و من ثم معانقة التطور والارتقاء إراديا بما يخولنا أن نكون فاعلين حضاريا وثقافيا لا منفعلين؟

ومن صميم تلك الأسئلة يلد سؤالٌ آخر لا يقل مشروعية وأهمية ـ حسب زعمي ـ عما سبقه ألا وهو مالذي أوصلنا إلى هذا الحضيض الذي هو قطعاً إحدى "ثمار" الاستبداد الذي على ما يبدو لم نستطع الاستغناء عنه بعد إذ تفننا شعوباً وحكومات بالمحافظة عليه أكثر من أي شيء آخر.

* * *

للإجابة على الأسئلة سابقة الذكر, أو بعضها, سألجأ إلى مسرحية "ليل العبيد" لممدوح عدوان لأسباب عدة منها أن العنوان بحد ذاته لا يزال قابلا للإسقاط على الواقع سواء أكان في مفردة "الليل" الحاضرة بقوة في راهننا أم "العبيد" الذين لم يقدّر لهم (لاحقا كما سابقا) الارتقاء إلى درجة المواطنة بعد ذلك بفعل الكثافة التاريخية للاستبداد المنتج الشرعي لتاريخ الفرد ما يعني مسخه لصيرورة المجتمع ـ أي مجتمع ـ وبالتالي اخصاءه لسيرورة هذا المجتمع أو ذاك لحساب الفرد, فضلا عن أن جوهر النص المسرحي للمسرحية المشار إليها ولد من رحم ظروف استثنائية عايشتها سورية ردحا من الزمن, ومن الجدير ذكره أن العقلية التي منعت عرض المسرحية (أواخر سبعينيات القرن الماضي), إلا في حال عرض جثة كاتب النص, كما صرحت تلك العقلية ممثلة بوزير أوقاف سورية آنذاك, هي العقلية نفسها (و ان كان بأشخاص آخرين) التي ساهمت بشكل أو بآخر في وصولنا إلى مانحن فيه من تخلف.

* * *

أبطال المسرحية يشكلون بانوراما تمثل الاتجاهات الفكرية والسياسية والثقافية التي كانت سائدة قبل الدعوة الإسلامية, وما بعدها بقليل, قبالة إصرار الكاتب على إبراز القوى الاقتصادية المهيمنة على رأس المال, في محاولة من قبله لفهم لحظة من لحظات إفراغ التاريخ من محتواه.

و من تلك الشخصيات الفاعلة مسرحيا بعض من رأى فيهم محمد عابد الجابري أنهم يمثلون الجانب الراديكالي في الإسلام كبلال بن رباح الذي مات وهو يحلم بإقامة دولة الحق بوجود الإسلام (معادلها الموضوعي دولة القانون), و الشاعرالبرغماتي (إن صح القول) الحطيئة خير ممثل لشخصية المثقف الانتهازي ونده الشاعر حسان بن ثابت الذي لاشبيه له سوى وزراء إعلام العالم العربي, ووحشي المتطوع لقتل حمزة بن عبد المطلب قبالة نيله حرية لم يهنأ بها, إضافة إلى هند وزوجها أبي سفيان الطامح إلى استلاب ملك يعود بموجبه إلى دائرة الضوء ولو كان على حساب فساد مجتمع (كان) لا يزال في طور تحضره وتمدنه؛ هذه الشخصيات, وغيرها, من خلال تفاعلها وصراعها مع واقعها المتناقض تحمل الكثير من دلالات تظهر لنا أن القضايا التي جاء الإسلام من أجلها (من حيث هو ثورة اجتماعية إصلاحية ينطوي على قيم كونية بمعزل عما فيه من شعائر) هي ذاتها القضايا الفارضة نفسها على العقل العربي المعاصر وكأننا ببنية هذا العقل لم تتطور ولم تتغير؟

فمن بعد أن أصبح للإسلام دولة بمقاييس ذلك العصر كما يقول بلال الراديكالي (حسب الجابري) الممسرح عدوانيا: "في البدء لم يكن يأتي إلى الإسلام إلا المؤمنون به, الآن بعد أن أصبح الإسلام دولة يأتي إليه كثيرون, يأتي من يريد أن ينتفع به أو من يربد أن يستثمره أو يحوره لصالحه أو ليتسلط عليه ويحكم باسمه", شكوى بلال هذه تضعنا مباشرة بموازاة الأحزاب المعاصرة التي وصلت (بقدرة قادر) إلى السلطة في بلدانها ونيتها تحقيق أقصى درجات العدالة فإذا بها تحقق أقصى درجات اللاعدالة, وبتذوقها حلاوة السلطة تنسى (أو تتناسى) ما كانت تنادي به من مبادئ وقيم وهي بطبيعة الحال تحمل الكثير من القيم الكونية, و بافتراض أنها أحزاب احتكرت الحياة السياسية (الشأن العام) تماما كما سبق واحتكرها الإسلام إبان ظهوره (من غير أن يخامرنا الشك أن دافعه ناجم عن نوايا طيبة) مايعني إقدامها ـ الأحزاب الحاكمة ـ على إعادة إنتاج المجتمعات وفق مقاسها ورؤيتها, وقد مرّ زمن, أكثر ما ينبغي, ونحن ندرك مدى زيف الوعود التي كانت تغدقها علينا تلك الأحزاب التي انطوى تحت ألويتها مثيل من كان يتخوف بلال من انضمامهم إلى الإسلام (وهنا ينبغي علينا التمييز بين الإسلام والمسلمين), ربما هذا ما يفسر لنا أيضا تخوف وحشي الذي يفصح لبلال بهواجسه: "إن الأغنياء يريدون أن يغتنموا فرصة انتصاركم ليتغلغلوا في دينكم...", ورغم طمأنة بلال الحالم لصديقه إلا أن رؤية وحشي تصدق, وحينها سيكون من حق وحشي أن يهذي وحده (بعد إسلامه وصفح الرسول عنه لقتله عمه حمزة): "من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن, بيت أبي سفيان" إلى أن يصرخ مناديا: "يا بلال.. يا بلال تعال وقل لي إذا لماذا تحملت العذاب كله, يا عمار بن ياسر تعال واشرح لي معنى ما فعلته", كما يحق لأي رعية عربي معاصر أن يهذي وهو يرى بأم عينيه كيف يُحلب وطنه ويُنهب من قبل "النخبويين" في الأحزاب الحاكمة الذين ما دخلوا هذه الأحزاب "اليسارية تحديداً" إيماناً منهم بها وبالتأكيد ليس لفرط ولعهم بالاشتراكية.

ورغم وصول خليفة عادل كعمر بن الخطاب إلى الخلافة لم يتمكن الإسلام من إقامة دولة العدل المنشودة, ما أفضى بالمحاولات التي قام بها الجانب "الثورجي" في الإسلام إلى الفشل, فبلال تصور أن قضية محاربة الفساد ومنع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وإقامة دولة المساواة بين الناس تتعلق بالخليفة وحده غير مدرك للعمق الزمني لقوة العقليات السلطوية التجارية المحيطة بالخليفة نلمس ذلك من خلال قوله: "...عمر هو الخليفة وإننا نحاول أن نضرب حوله سياجا لا يخترقه تجار قريش وأثرياؤها فنمنعهم من الالتفاف على الخليفة والتأثير عليه, نحن نريد أن يظل الإسلام تشريعا للعدل والإنصاف وحماية للفقراء والجائعين", هذه المحاولات النبيلة ستصبح قبض ريح أمام قوة العقلية "الإقطاعية" المهيمنة المتمثلة بمساعي وفكر أبي سفيان أثناء شرحه للزبرقان: "نحن الآن نحيط بالخليفة كالطوق ومعظم الولاة يؤيدوننا حتى أن الشكاوى التي تأتي إلى الخليفة لم تعد تصل إليه."

إذاً ثمة صراع بين ثقافتين "بدائيتين" متناقضتين في مصالحهما وآلية التفكير, وهذا ما نلمسه في حوار بين هند وبلال إذ تقول له: "هكذا تفهمون الإسلام. تكاتف العبيد والهجناء والصعاليك وضائعي الأنساب (تقصد الحطيئة) لاقتناص سيادة العرب.", فيجيبها بلال: "نحن لسنا طامعين بالسيادة, لكننا لن نظل عبيدا.. نحن طامعون بالكرامة".

هذه الجدلية غير المتكافئة بين أطراف الصراع والتي ستستنسخ واقعاً لم يتمكن الإسلام من إزالته كما يبدو يجسدها قول الحطيئة لوحشي: "إن سادتك في الجاهلية هم سادتك في الإسلام..." إلى إن يشعر وحشي بالأسى وهو يقول: "...كنت أعتقد أنني أحارب السادة لأقيم دولة العبيد وإذ بي أخدم السادة وأمكنهم من العبيد".

الجدلية سابقة الذكر هي ذاتها الجدلية الماثلة في راهننا وفي هذا الجانب نجد أن التاريخ لدينا لم يتغير والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى عربياً.

ليس حلم بلال (مسرحياً) وحده فقط لم يتحقق, بل أحلام العبيد جميعهم لن ترى النور و سيجدون أنفسهم أمام نفوذ قوة المال التي أعادت ترتيب نمط عالم العبيد وفق ما تقتضيه مصالحها, تماماً كما أعادت "النخب" الحاكمة حالياً ترتيب نمط حياتنا وفق مصالحها.

هذه الخيبة المريرة تدفع بهجّاء كالحطيئة أن يقول لوحشي بتهكم: "ها أنت حر في أن تموت جوعا. هذه هي حريتك الوحيدة الآن". قد تنقصنا نحن الآن هذه الحرية لصالح الموت إما جبراً وإما قهراً.

وحشي الذي قتل حمزة كي يستطيع أن يتأمل حرائر العرب بمنتهى حريته, وكي تأمره هند فيخدمها كالعبد والراغب في أن تخترق عيون الناس سواد وجهه ليروا تحته إنسانا مثلهم, لن يظفر بشيء من هذه الحرية سوى انه تحرر من سيادة جبير (سيده) ليقع تحت سيادة الناس كلهم, ليصل به الأمر إلى به الأمر وهو في حالة يأس وإحباط وسكرالى أن يعرض نفسه للبيع, مثله في ذلك مثل الثوار الأوائل الذين ناضلوا ضد "المستعمر" الفرنسي و "الاحتلال" البريطاني مطلع القرن الماضي أملاً في الظفر بالكرامة والسيادة و.... الخ, غير أن خيبتهم ستكون مريرة وهم يرون فلذات أكبادهم يطوون الوطن في حقيبة سفر أو ينتظرون طيه على أبواب السفارات لا كرهاً به أو زهداً بما ناضل من أجله الآباء والأجداد إنما فقط كي يتحرروا من استعمار واستبداد "النخب".

* * *

وكعود على بدئ نستنتج بأن شيئا جديدا لم يطرأ على تاريخنا, إذ هي التراجيديا ذاتها تعيد إنتاج نفسها في البلاد العربية والإسلامية إلى درجة نتذكر معها في هذا السياق المقولة الشهيرة لصادق جلال العظم "ذلك الماضي الذي لا يمضي", ولئن كان يقصد بها صادق أمراً آخر لكن لا نستطيع إلا أن نردد متسائلين: لماذا ماضينا في جوهره هو ذاته حاضرنا؟ و لماذا استطاع الغرب أن يصنع تاريخه (الصناعي و التكنولوجي والحداثي وما بعد الحداثي) بعد قرون من الظلام في زمن ننشدّ فيه نحن دون سوانا من أمم الأرض إلى ذلك الظلام الذي نجاهر بعودتنا إليه من غير خجل .

وبافتراض أن التاريخ لدينا هو هو, بكلمة أخرى لاتاريخ (من حيث المدلول العلمي للكلمة) لدينا, وسنفترض أننا نكتب ونعمل من أجل المستقبل الذي نأمل أن يغدو تاريخاً, انطلاقاً من هنا أسمح لنفسي أن أقترح على الكتاب العرب الذين تستهويهم قراءة "التاريخ", والولوج فيه كتابة, في حال أرادوا معالجة مشاكل واقعهم أن يحاكوا ذلك الواقع بإيجاد مواز له في أمة لديها تاريخ لا أمة لا تاريخ لها.

هيثم المالح وشيخوخة الكبار التي لم تراع
موسى أبو مرزوق: "السلطة الفلسطينية تعني «فتح» و«حماس»"
دبي: أعجوبة أم مشهد عابر؟
سورية المبتدأ والخبر
أُُبي حسن في ((سورية المبتدأ والخبر)).. جرأة الطرح وخلخلة المسلمات
جريدة فينكس الالكترونية: منبر إعلامي سوري جديد مستقل موضوعي وعادل
حفل إطلاق جريدة فينكس الإلكترونية بحلتها الجديدة بحضور رسمي واعلامي
حفل اطلاق جريدة فينكس الالكترونية بحلتها الجديدة
شعارها ”سورية وطن يسكننا” الاحتفال بإطلاق جريدة (فينكس) الألكترونية بحلتها الجديدة
انطلاق (فينكس) بحلته الجديدة..
د. خالد حدادة أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني (في حوار قديم معه)
حركة الإصلاح الديني مجدداً ودور المثقف الوطني
صادق جلال العظم: حزب الله انتصر في حربه مع إسرائيل, لكنه نصر غير مظفر
زياد جيوسي: همسات الروح لفينكس في العيد العاشر
كتب إحسان عبيد: فينكس.. فنار بحري.. (بمناسبة دخوله عامه العاشر)