كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من ذاكرة التاريخ.. صلح وستفاليا عام 1648

مروان حبش- فينكس:

كان "الكونت هنريك ثورن" البروتستانتي من براغ وزعماء البروتستانت قد جهدوا لمنع الكاثوليكي المتحمس والمتطرف الأرشيدوق فرديناند من اعتلاء عرش بوهيميا، وكان ماتياس امبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة قد عين خمسة نواب ليتولوا حكم بوهيميا في أثناء غيابه، واستبد هؤلاء الحكام بالبروتستانت، مما دفع الكونت ثورن عام 1618، ليقود حشداً من البروتستانت الغاضب إلى قلعة أوسكين في بوهيميا، وصعدوا إلى الحجرات التي كان يجلس بها إثنان من الحكام الكاثوليك، وألقوا بهما مع سكرتير من النافذة، كما طرد ثورن رئيس الأساقفة والجزويت، وشكل حكومة مديرين ثورية، فكانت هذه الأعمال تحدياً للإمبراطور، وللقضية المقدسة (الكاثوليك). وبذلك أُشعلت نار الحرب، وأطلقت كلابها من عقالها. وأصبحت المدن الكبرى أطلالاً خربة، وصار السكان يتسولون وينهبون ويسرقون من أجل لقمة العيش، وأفقرت الضرائب كل الناس، عدا الحكام وقواد الميليشيات وأمراء الحرب. كما ذوت وذبلت، في أتون هذه الحرب، الفنون والآداب التي كانت تضفي على المدن شرفاً ومجداً، وانهارت الأخلاق والروح المعنوية، واختفت كل المُثُل الوطنية بعد جيل سادة العنف.
كان الحكام ورجالهم الدبلوماسيون منذ سنة 1635 يجسون النبض ويتحسسون الرأي من أجل السلام، وفي تلك السنة اقترح البابا أوربان الثامن عقد مؤتمر لبحث مشروع المصالحة. واجتمع المندوبون في مدينة كولون، ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة، وبعدها في مدينة هامبورج عام 1641
حيث صاغ ممثلو فرنسا والسويد والامبراطورية اتفاقية مبدئية تمهيداً لانعقاد مؤتمر مزدوج في وستفاليا عام 1642. وجاء التأخير نتيجة إجراءات الأمن وقواعد البروتوكول، ليعود وينعقد المؤتمر في 4 كانون الأول 1644، وضم 135 مندوباً بما فيهم رجال اللاهوت والفلاسفة، وانقضت ستة شهور في تحديد نظام الأسبقية في دخول المندوبين إلى القاعة وجلوسهم، وما كان السفير الفرنسي ليدخل في المفاوضات إلّا إذا خوطب بلقب "صاحب الفخامة"، وعندما وصل السفير الإسباني تجنب السفير الفرنسي ونأى بنقسه عنه، لأن أي منهما لا يعترف للآخر بالأسبقية، واتصل كل منهما بالآخر عن طريق شخص ثالث. وأيضاً، عدم رغبة المندوبين السويديين في الاجتماع تحت رئاسة ممثل البابا، ورفض ممثل البابا أن يجلس في صعيد ولحد مع "الزنادقة".
وعلى قدر ما كانت جيوش كل فريق منتصرة أو مهزومة، كان المندوبون يتلكؤون في المفاوضات أو يعجلون بها، وكان يمكن أن ينفض المؤتمر دون نتيجة لولا اجتياح بافاريا، وهجوم السويد على براغ في تموز 1648، وهزيمة الاسبان. وهذه الأسباب كلها أجبرت الإمبراطور بالتوقيع. ووقعت آخر الأمر معاهدة وستفاليا في مدينتي مونستر (عاصمة مقاطعة وستفاليا) وأوسنابروك (عاصمة مقاطعة سكسونيا بألمانيا) معاً في 24 تشرين الأول من عام 1648. وتعالت صيحات "الشكر لله" في جبهات القتال. وأنهت حرباً دامت ثلاثين عاماً.
لا بد من التسليم بأن المفاوضات واجهت من مشكلات التوفيق ما هو أكثر تعقيداً من أية مشكلات واجهها مؤتمر صلح قبل القرن العشرين وأن المندوبين عملوا بحكمة على تسوية المطالب المتعارضة، بقدر ما سمحت الكراهية والغرور والكبرياء والقوة والسلطة بين المجتمعين. ولا بد من تلخيص هذه المعاهدة التي أعادت تشكيل أوروبا من جديد، لأنها أوجزت وأخرجت قدراً كبيراً من التاريخ، ولم تعد البابوية قوة سياسية عظمى وانحط شأن الدين في أوروبا، واعترفت المعاهدة بالكنيسة الكالفينية، وكانت الضحية الخفية للحرب هي المسيحية. وارتاب الناس في أن حكامهم يتمسكون بعقيدة حقة، وأنهم رجال نبلاء طاهرون تقدموا لإنقاذ الديانة الحقة، بل أنها شهوة السلطة هي التي تتحكم فيهم. وأن ملك السويد، كأنموذج، ما كان ليدخل الحرب ويقاتل بولندا الكاثوليكية، وروسيا الأرثودكسية، والدانمرك البروتستانتية، لولا إيمانه بضرورة الحفاظ على استقلال بلاده، ونموها الاقتصادي.
لقد أنهى صلح وستفاليا سيطرة اللاهوت على العقل في أوروبا، وترك الطريق إلى محاولات العقل واجتهاداته غير معبدة، ولكن يمكن المرور عليها.