كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الخليلة التي قلبت الأحلاف في أوروبا وسببت حرب السبع سنوات

من ذاكرة التاريخ
الخليلة التي قلبت الأحلاف في أوروبا وسببت حرب السبع سنوات
مروان حبش- فينكس:
المرأة التي تنبأوا لها وهي في التاسعة من عمرها أنها ستتبوأ قلب ملك، والتي استطاعت أن تخترق صفوف البلاط الفرنسي، و هي ابنة الطبقة المتوسطة لتصبح عشيقة الملك لويس الخامس عشر، مما أكسبها الأعداء الذين أعدوها دخيلة، و حملها الشعب هفوات الملك، و ألفوا عنها الأشعار الساخرة التى عرفت بـ ”البواسينات”، بينما قال عنها فولتير إنها ”روح منصفة و قلب منصف". هي”جان أنطوانيت” التي اشتهرت بلقب المركيزة “مدام دى بومبادور” وهى سيدة مثقفة أثَّرتْ بشكل كبير في النواحي الثقافية والفنية والسياسة في البلاط الفرنسي، وكانت عشيقة لويس الخامس عشر في الفترة من 29 كانون الأول1745 حتى وفاتها في نيسان 1764.
استمرت علاقتها بالملك طيلة هذه الفترة الطويلة، لكنها تحولت في ما بعد إلى علاقة أفلاطونية، إذا جاز التعبير، بعد أن خمدت جذوة الحب بين العاشقين. غير أن مكانتها ونفوذها استمرا على حالهما.
كانت المركيزة تملك قوة شخصية تفوق الملك، وكانت راعية للفنون والفلسفة، ولعبت دوراً رئيسياً في جعل باريس عاصمة الذوق والثقافة في أوروبا.
من خلال موقعها كمفضلة لدى المحكمة، تتمتع بسلطة وتأثير كبيرين، تم ترقيتها في 12 أكتوبر 1752، إلى دوقة وفي عام 1756 إلى سيدة في الانتظار إلى الملكة، وهي أرفع رتبة يمكن أن تحصل عليها امرأة في المحكمة، لعبت بومبادور دور رئيس الوزراء بشكل فعال، وأصبحت مسؤولاً عن التعيينات والترقيات والمزايا والفصل والمساهمة في السياسة الداخلية والخارجية..] وجعلت نفسها لا تقدر بثمن بالنسبة للملك من خلال أن تصبح الشخص الوحيد الذي يثق به والذي يمكن الاعتماد عليه لإخباره بالحقيقة. حتى غدت راحة لا غنى عنها للملك الذي كان عرضة للكآبة والملل، وكانت وحدها قادرة على أسره وتسليته.
أرسلت ماريا تيريزا ملكة النمسا عام 1751، فينزل أنطون، أمير كاونتز- ريتبرج (الذي قال عنه ملك بروسيا إنه أحكم رأس في أوروبا)، سفيراً لها إلى باريس للسعي لإبعاد فرنسا عن تحالفها مع بروسيا، ووقع في نفس الملك، وخليلته دي بومبادور وقعاً طيباً لحسن تقديره لشؤون السياسة.
في عام 1955أرسل كاونتز، الذي أصبح مستشاراً للملكة، إلى (الخليلة الرسمية) خطاباً كله اطراءً، أرفق به مذكرة رجاها أن تسلمها للملك سرّاً، وكانت المذكرة من الملكة ماريا تيريزا وفيها أن تتخلى فرنسا عن تحالفها مع بروسيا. وطلب السفير منها التدخل في المفاوضات التي أدت إلى معاهدة فرساي الأولى 1955التي كانت هذه بداية الثورة الدبلوماسية التي تحالفت فيها فرنسا مع عدوها السابق النمسا.
مالت مدام دي بومبادور إلى الحرب وانقلبت إلى امرأة حربية بعد معاهدة فرساي الثانية عام 1957التي أبرمت بين فرنسا والنمسا، وقلبت الأحلاف في أوروبا رأساً على عقب، وتقديراً لمعوناتها أهدتها ماريا تيريزا ملكة النمسا صورة ملكية رصعت بالجواهر.
في ظل هذه التحالفات المتغيرة، دخلت القوى الأوروبية حرب السنوات السبع، والتي شهدت مواجهة فرنسا والنمسا وروسيا لبريطانيا وبروسيا.
عانت فرنسا من هزيمة على يد البروسيين في معركة روسباخ عام 1757، وفي النهاية خسرت مستعمراتها الأمريكية لصالح البريطانيين. و يُزعم أن مدام دي بومبادور، بعد هزيمة روسباخ، قد عزّت الملك با لقول المشهور: (لنبقى معاً، وليكن الطوفان بعدنا) .
ولما واصل فردريك ملك بروسيا انتصاراته، نصح برنيس وزير خارجية فرنسا وغيره من الزعماء الفرنسيين الملك بعقد الصلح، ولكن مدام دي بومبادور تغلبت عليهم، وأحلت عام 1758 الدوق شوازيل وزيراً للخارجية بدلاً من برنيس.
وقد حملت، في نظر الشعب، وفي البرلمان، وفي القصر، أكثر التبعية عن هزائم فرنسا في حرب السبع سنوات، واعتبرت المسؤولة عن الحلف البغيض مع النمسا وأدت إلى الكارثة التي حاقت بالجيش.
خرجت فرنسا من حرب السبع سنوات والضرائب الثقيلة أرهقت كاهلها وثبطت الزراعة فتركت آلاف الأفدنة التي كانت تزرع، وأخذت تتحول إلى براري قاحلة، واستنزفت الماشية والأغنام، وشحت المخصبات، وجفت التربة، وافتقر كثير من الفلاحين إلى الدفء في الشتاء إلا أن يلتمسوه من الماشية التي تسكن معهم. وكانت الحكومة عاجزة فاسدة، وهكذا ظل الفقر والجوع جاثماً على الصدور.
حين عانت الجماهير الباريسية من غلاء الخبز، صاحت (أن تلك البغي التي تحكم المملكة تجر عليها الخراب)، وارتفع صوت من المجتمعين يقول: (لو وقعت في أيدينا هنا لما تخلف منها ما يكفي لإحالتها إلى رفات)، ولم تعد تجرؤ على الظهور في شوارع باريس، وكان الأعداء من حاشية الملك يحيطون بها في فرساي.
وقال روسو: إن باريس، ربما كانت المدينة الوحيدة في العالم التي تعظم فيها فوارق الثروات، والتي يسكن فيها الثراء الصارخ والفقر المدقع جنبا إلى جنب.
اعتمد الملك على كبار الصيارفة أمثال إخوان باري، لاسيما باري دو فرنيه، الذي أبهج مدام دي بومبادور كثيراً بشعوذته المالية حتى استطاع خلال الحرب أن يرفع وزراء ويخفضهم.
كان البرلمان الفرنسي قد أبغض مدام دي بومباردو لأنها شجعت الملك على أن يتجاهله، وأبغضها الأكليروس لأنها صديقة لقولتير ولكتاب الموسوعة، وقال رئيس أساقفة باريس (إنه يتمنى أن يراها تحرق بالنار).
احتفظت الخليلة بحنانها لأقربائها وللملك فقط، وحصلت على ألقاب النبلاء لنفسها ولأقاربها، وأنشأت شبكة من العملاء والداعمين. وكانت حريصة بشكل خاص على عدم تنفير الملكة.
كانت الخليلة دي بومبادور التي فاوضت الدبلوماسيين والسفراء، ورفعت الوزراء والقواد وخفضتهم، وزجت ببعض خصومها في الباستيل وتركتهم فيه سنوات، راحت في غضون ذلك تدخر لغدها، وبنت القصور لها وزيَّنتها، كما أمرت ببناء ضريح لها بالقرب من ميدان فاندوم. واتهمها فردريك ملك بروسيا بأنها تودع المبالغ الطائلة في المصارف البريطانية، وسماها (الآنسة سمكة) والخليلة الرابعة للملك لويس 15 ).
أثناء مرضها بالتهاب دموي في الرئتين، وفي نيسان 1764، وثَّقت وصيتها الأخيرة، فتركت فيها هبات لأقربائها، وأصدقائها، وخدمها، وأوصت للملك لويس 15 بقصرها الباريسي، الذي يشغله الآن رؤوساء جمهورية فرنسا باسم قصر الإيليزيه.
بعد موتها، اغتبط البلاط لتحرره من سلطانها، أما الشعب فقد لعن اسرافها الشديد اسرافها الكبير، على أن ديدرو كان قاسياً في حديثه عنها إذ قال: (إذن ماذا بقي من هذه المرأة التي كلفتنا هذا الثمن الغالي في المال والرجال، وتركتنا دون شرف ولا همة، وقلبت نظام أوروبا السياسي بأسره، حفنة من تراب؟). أما فولتير فقد كتب من فرنيه يقول: (يحزنني جداً موت مدام دي بومبادور، كنت مديناً لها بالفضل، وأنا أبكيها عرفاناً بصنيعها، ويبدو من السخف أنه في الوقت الذي يظل فيه على قيد الحياة كاتب عجوز لا يكاد يقوى على المشي، تموت امرأة حسناء في عنفوان مجدها وهي بعد في الأربعين، ولو أنها استطاعت أن تعيش كما أعيش في هدوء، فربما كانت اليوم حية، لقد أوتيت انصافاً في عقلها وقالها، إنها نهاية حلم).

آب 2022