كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: أوضاع الدولة العثمانية بأقلام معاصريها العرب

* يلخّص مؤرخ الشام محمد كرد علي الحالة في تلك العصور بالجملة التالية: "كان أهل الشام بين ظالم ومظلوم" .1
* قبل قرنين من كلام كرد علي, وصف المؤرخ ابن جمعة المقار الأحداث في دمشق سنة 1136 هجرية -1725 م كما يلي:
 "...وفي هذه الأيام كان الظلم الشديد الزايد وكثرة العوانية حتى صارت أرض الشام مشغولة بالظلم, وتمادى هذا الحال وقلّ المسعف حتى بالقال... اما أهل البلد لم يبق لهم جلد وحارت عقول المحلات, من قول هات هات وهم رعايا بادية بين ذياب عارية" . 2
* وعلى منوال ابن جمعة وصف البديري الحلاق الحالة في دمشق عام 1725 م بالجمل التالية:
 "...غير انه ما فيه من يفتش على الخلق بالرحمة والرأفة من الحكام والوجوه. والخَزّانة كثيرون, والأكابر ساكتون, والحكام يأكلون, فإنّا لله وإنا إليه راجعون..." . 3
* المعاصر للأحداث بريك يصف قدوم الوالي العثماني الجديد إلى دمشق عام 1171 هجرية – 1758 ميلادية على النحو التالي:
"...و معه عساكر كثيرة مثل جراد زحاف أشكال وألوان, فخافت دمشق اكثر من الأول... دخل على الوزير (أي الوالي) في مدة سبعين يوما نحو أربعة آلاف كيس من ظلم أهالي دمشق من الموالي والرعية والحرف, ومن النصارى والإفرنج واليهود, ومن البساتنة, ومن أهالي الأراضي, ومن أهالي القرايا, التي حوالي الشام, على أن فُقد القرش من الشام بالكلية. وعساكر الوزير طافت على القرى والضياع التي حوالي الشام ونهبوها نهبة خفية وخربوا البلاد والزراعات ودور الفلاحين...". 4
* والي عكا أحمد باشا الجزار وهو من التلاميذ النجباء "لمدرسة المؤامرات والاغتيالات والسلب والنهب والغدر والمكائد", مدّ نفوذه إلى ولاية الشام. ويصف المؤرخ مخائيل الدمشقي حالة الناس, التي لم تأخذ أي قسط من الراحة بسبب مظالم الجزار وهي:
 "طلب القرش ظلما, نهب البضائع من جهة وطرحها في الأسواق بأسعار مرتفعة, حوادث كثيرة مقهرة ومغمّة من أنواع كثيرة". 5
وكانت النتيجة كما ذكر الدمشقي نزوح أعداد كبيرة من الشام هربا من الظلم 6 في ايام حكم أحمد باشا الجزار في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وبعد قرن من الزمن اشتد النزوح من بلاد الشام والهجرة إلى أمريكا تخلصا من الفقر وهروبا من استبداد السلطان عبد الحميد وظلم ولاته وموظفيه.
* وهكذا نرى أن الاستبداد أيام حكم السلطان عبد الحميد ليس إلّا استمراراً للاستبداد السلطاني من أيام السلاجقة إلى العثمانيين مرورا بالمماليك. والاستبداد الحميدي (والمقصود استبداد السلطان العثماني عبد الحميد) بزّ انظمة الاستبداد السلطاني السابقة له بأنه أوقف عجلة التطور في اواخر القرن التاسع عشر وأوجد مناخا فكريا متحجّراً متزمتاً ومتزلفاً للسلاطين وبطانتهم, ومغلِقاً الأبواب أمام التقدم العلمي والانفتاح الحضاري، وهو يستخدم منجزات الحضارة لتدعيم استبداده.
* تعكس ترجمة الشيخ راغب الطباع ( الحلبي ) لأعيان القرن التاسع عشر أحد جوانب الحياة في المجتمع الراكد لتلك الفترة . فقد صنّف الشيخ راغب الطباع الأعيان على النحو التالي: 7
" أعيان اشتهروا بالخوارق، أو عرفوا بالجذب وهم خلفاء الأولياء ، أو فقراء خدموا السلك (الطريق) بأمانة وصدق ، أو تجّار ومعلمو حرف ، أو علماء ( والمقصود بالعلم هنا هو العلم الديني، لأن العلوم الأخرى كانت مجهولة لديهم )، وأخيراً أعيان على صلة بالسياسة " .
وهؤلاء "الأعيان"، الذين عملوا في السياسة أيام السلطان عبد الحميد مثّلوا الاتجاه المحافظ المناهض للتقدم والتطور والعلم ، واعتبروا كل اجتهاد مخالف لرأيهم من البدع. ووصل الأمر بأحدهم الشيخ سعيد الغبرة أن استصدر إرادة سنية من السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل الروايات في دمشق ، مما اضطر رائد المسرح السوري أبا خليل القباني إلى مغادرة دمشق والإلتجاء إلى مصر، مأوى جميع الأحرار ( الشوام ) والمناوئين للاستبداد في أواخر أيام الدولة العثمانية. 8
* وهكذا يتبين أنه لم يكن من السهل على رواد النهضة نشر أفكارهم في أجواء القهر والظلم والعسف السلطاني :
- فمؤرخ الشام محمد كرد علي يلخص الوضع بالجملة التالية : " كان المرء سرياً في ثلاثة أمور: في ذهبه وذهابه ومذهبه " 9..
- والاهتمام بتوافه الأمور والاعتقاد بالخرافات والأساطير والخوارق يختصرها الشيخ المستنير محمد بهجت البيطار واصفاً عصر جده (1253 – 1335 هجرية) بالجملة التالية: "كان عصره عصر جمود على القديم وتلقي الأقوال بالتسليم من دون تمحيص للصحيح من السقيم".. 10
- وفي ذلك الجو الفكري السقيم كان من الطبيعي "أن تَقِلَّ", كما كتب القساطلي سنة 1879, "بضاعة المعارف لرواج بضاعة السيوف والعصي" 11..
- وتقرير الوالي المصلح مدحت باشا عن أحوال سوريا عام 187912 يبين مدى الإرهاب والفوضى السائدة آنذاك. جاء في التقرير:
"...فالأوامر التي ترسل من الأستانة قاصرة على طلب المال والجند. وهذه الحالة تفتح للأجنبي باب الاستعمار وخصوصاً بعد أن اشتغل موظفوا الولاية بمصالحهم الشخصية وتركوا المصلحة العمومية فأخلوا بواجباتهم وفسدت أخلاق الأهلين بسبب أعمالهم وكثر القتل والنهب واختل الأمن العام.. ويوجد في سجن طرابلس "الشام" قوم قد سجنتهم الحكومة إحدى عشر سنة بلا حكم قانوني وقد أخلينا سبيلهم. وأن ضريبة الاعشار قد خرّبت بيوت الأهالي... " . 13
* الدكتور عبد الكريم غرايبة الاردني المولد واستاذ التاريخ الحديث في الجامعة السورية بين عامي 1955 و 1961 14 نقل عن الاسحاقي ( ص196) الحوار الذي جرى بين عبدين وجماّل وهما سائران في إحدى القوافل:
"...وتحادثا مع الجمّال في ليلة مقمرة من شهر رمضان, فقالوا لعل هذه الليلة النيّرة ليلة القدر, ولعلّ الدعاء فيها مستجاب, فليدْعُ كلٌ منّا بما يحبه. فقال أحد العبيد: أنا أطلب سلطنة مصر من الله تعالى. وقال العبد الثاني: وأنا أطلب ان أكون أميراً كبيرا. والتفتا إلى الجمّال وقالا له: أي شيء تطلب أنت, فقال: أطلب من الله حُسن الخاتمة".
يعلّق عبد الكريم غرايبة على هذا الحوار بالآتي: "نعم لقد كان حكم العالم العربي قرونا طويلة من قبل أمراء ليلة القدر, الذين بدأوا حياتهم أجانب ومماليك ثمّ دانت لهم رقاب الأحرار دون أن يفقدوا صفة العبيد. ولم يكن ما تمناه هذان العبدان أمراً غير عادي".
وحول الحكم العثماني كتب عبد الكريم غرايبة: 15
"وسعى سلاطين بني عثمان إلى إضفاء هالة من القدسية حول أنفسهم. فهم حماة الشريعة الذائدين عن دار الإسلام وخدّام الحرمين الشريفين. واستغلّوا بدهاء العديد من الآيات الكريمة وفسّروها وفق مصالحهم. وغدو حكاما مطلقي الصلاحية لا يحدّ من سلطانهم وسطوتهم إلا الشريعة الإسلامية, التي فسروها وفق اهوائهم, و اصدروا الفتاوى المؤيدة لسياستهم". ويمضي غرايبة قائلا:
"ولم يكن بالإمكان على أية فئة, في ظل هذا الوضع الشرعي للسلطان, أن تقوم باي تحرك دون أن تُتَهَم بالخروج على "أهل السنة والجماعة". ولهذا فإن كل الثائرين في الولايات العثمانية حرصوا على إعلان ولائهم للسلطان عند قيامهم بأي تحرك ضد ولاة السلطان".
* ينقل لنا الشيخ محمد وفا القصاب من ديرعطية ما عاشه في صباه وما سمعه عن والده الشيخ عبد القادر القصاب حول العهد العثماني. وفي معرض حديثه عن الظروف التي عاشها والده كتب الشيخ وفا:
"القرن هو التاسع عشر، والبلاد بلاد الشام، والعثمانيون ما برحوا في الحكم يفعلون ما يفعلون، يدهم الثقيلة على العنق، وظلهم الطويل يكاد يحجب النور... واتصلت ليالي الجهل وارخت ذوائبها على مشرق العالم الاسلامي ومغربه... ونجوم قليلة العدد بقيت رغم كل الأعاصير، تدفع الظلمة المطبقة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا... في هذا القرن وفي هذه الأحوال ولد الشيخ عبد القادر القصاب في قرية من قرى القلمون هي ديرعطية، وكانت ولادته سنة1264" 16
وكان للشيخ عبد القادر القصاب دور بارز في نشر التعايش يين المسلمين والمسيحيين ونشر الوية التسامح ونبذ التطرف والتحجر.