كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: دير الزور والدولة العربية في مذكرات ابنها ثابت العزاوي

أولا: دير الزور بعد الحرب كمقدمة
في 6 تشرين الثاني 1918 غادر أركان متصرفية دير الزور الأتراك البلدة، التي انتخبت مجلسا أهليا لتصريف الأمور اتفق أعضاؤه أن يتولى رئاسته بالتناوب يوميا أحد رؤساء الأحياء الثلاثة، التي تألفت منها المدينة حسب طبيعتها العشائرية. ثم جرى الاتفاق على تسمية أعضاء الحكومة من واحد وعشرين عضوا يمثلون أحياء المدينة وبالتالي عشائرها. وفي عهد هذه الحكومة، التي عاشت ثلاثة وثلاثين يوما شهدت المدينة نشاطا قوميا ووطنيا بين الشباب وتأسس ناد عربي برئاسة ثابت العزاوي المعروف بثقافته الواسعة وغيرته الوطنية، والذي تطور فيما بعد في اتجاه معاد للاستغلالين الاقطاعي والرأسمالي.
وفي 4 كانون الأول 1918 وصلت قوة صغيرة تابعة للأمير فيصل حلّت "الحكومة الأهلية" وألفت مجلسا أهليا جديدا. ولكن الانكليز سرعان ما احتلو دير الزور في 11 / 9 / 1919 دون اعتراض الحكومة العربية الفيصلية بدمشق. وقد أثار الاحتلال الانكليزي نقمة الأهالي في دير الزور وبخاصة الشباب المثقف، الذين أخذوا يتصلون بالقوى المناهضة للاحتلال داخل الدولة العربية الفيصلية بدمشق. وهذا مما دفع رمضان أشلاش، وهو من موظفي الحكومة الفيصلية، إلى استنفار عشيرته البوسرايا لمهاجمة دير الزور وتحريرها من الانكليز في 12 / 12 / 1919 وجعلها جزءا من الدولة الوطنية العربية (الفيصلية) دون موافقة حكومة دمشق . ولكن حركة رمضان شلاش لم تدم طويلا وبخاصة أن سكان دير الزور نظروا بقلق إلى تحركات البدو والشوايا وأخطار نهب المدينة من قبلهم.
***
ثانيا - دير الزور والدولة العربية في مذكرات ابنها ثابت العزاوي

كان ثابت عزاوي 1900 - 1978 من أبرز المشاركين في الأحداث، التي مرت على بلدته دير الزور في النصف الأول من القرن العشرين. وله عدد من المؤلفات ما يهمّ موضوعنا هو: مذكراته عن ديرالزور والفرات من عشرينيات القرن العشرين إلى منتصفه. وهذه المذكرات نشر مقاطع منها الدكتور قاسم عزاوي, الذي أهدانا مشكورا نسخة منها. وسننقل حرفيا ما له علاقة بموضوعنا من المذكرات :
" بعد انسحاب العثمانيين الأتراك من دير الزور في خريف 1918، تألفت في الدير "حكومة مؤقتة سُميت بمجلس الرؤساء الثلاثة... وكانت هذه الحكومة ترتكز على مجلس مؤلف من وجهاء الدير. وخلال حكم الرؤساء الثلاثة كانت المدينة معزولة عن القرى وبحالة استنفار ضد الطوارئ. وكان الديريون يتطلعون إلى الراية الفيصلية المرفرفة على حلب فراحوا يتصلون بحكومتها برئاسة الأمير فيصل بن الحسين ومركزها دمشق".
لدى وصول مرعي باشا الملّاح في أوائل ربيع عام 1919 خَرَجَتْ المدينة بأسرها إلى غربي الجورة لاستقباله بصفته ممثلاً للحكومة العربية بدمشق. وقد ألقى ثابت العزاوي في حفلة تكريم الملّاح متصرفا للواء موقع دير الزور - الباحث والمفكر والمترجم... ثابت رشيد العزاويدير الزور خطاباً هاجم فيه "النزعة العصبية والعشائرية".
***
ومرعي باشا الملاح 1853 - 1930 من أعيان حلب، الذين تعاون معهم الأمير فيصل. كان عضو مجلس إدارة حلب 1908 وعضو مجلس الشورى في العهد الفيصلي، ومتصرف دير الزور معيّنا من الأمير فيصل ونائب رئيس المؤتمر السوري، وأخيرا دخل في السلك الاداري للانتداب الفرنسي. وهكذا خدم اربعة عهود، كما هي حال معظم الأعيان الباحثين عن مصالحهم.
***
في عهد الملّاح حصل ثابت عزاوي وتوفيق الفنوش في خريف 1919 على إجازة تخوّلهما فتح فرع للنادي العربي الذي مارس نشاطه في حلب، وأصبح عزاوي رئيساً للنادي العربي.
أواخر عام 1919 عمل ثابت عزاوي بصورة سرية مع تحسين الجوهري "على انتشال الدير من واقعها المشحون بالانقسامات العشائرية، والنهوض بها إلى مستوى أعلى. واشتد الشعور الوطني بعد وصول لجنة الاستفتاء برئاسة المستر كراين الأميركي". وبعد الاتصال بأحد قادة الحركة الوطنية بحلب. "نظّمنا" - والكلام لعزاوي - "مضبطة تطلب العودة إلى أحضان سورية، وتمّ توقيعها من الديريين وقام بتسليمها إلى اللجنة الأميركية ملا عيسى العزاوي بصفته رجل دين..."
" عام 1920 حاول القائد التركي في ماردين كنعان بك احتلال الدير وضمّها إلى تركيا. وقدّم كنعان بك نسخاً من القرآن الكريم إلى وجهاء الديريين يستنفر شعورهم الديني ويحثهم على طرد الفرنسيين الكفرة والرجوع إلى أحضان الحكم التركي المسلم. وقد لعبْتُ (تاء المتكلم تعود للعزاوي) مع تحسين الجوهري دوراً هاماً في مقاومة ذلك التيار الخطِر، الذي كنّا نبغضه كما نبغض الاحتلال الفرنسي..".
***
عام 1919 انضمّ سرا إلى حلقة عزاوي – الجوهري, لانتشال الدير من الانقسامات العشائرية, اثنين آخرين "فأصبحت منظمة سرية مؤلفة من أربعة أشخاص موحدين فكرياً وسياسياً في إطار مثالي هدفه المصلحة العامة والنهوض بالمنطقة". ويستأنف عزاوي قائلاً: "ثم أصبحت حلقتنا نواة لدائرة أوسع من المواطنين، الذين أذكر منهم..."

***
*
أخيرا: لا بد من الاشارة أن ثابت العزاوي كان من مؤسسي عصبة العمل القومي في دير الزور. وبعدها أخذ يسير باتجاه الماركسية مناديا بالاشتراكية. وفي لقاء لي مع جلال السيد في دير الزور قال حرفيا "ثابت العزاوي شيوعي فكر" أي انه لم يكن منظما في الحزب الشيوعي. ولكن مخابرات عبد الحميد السراج وزير الداخلية في ج ع م اعتقلت العزاوي في حملتها ضد الشيوعيين و أودعته سجن المزة عدة أشهر. وعندما زار عبد الناصر الاقليم السوري ولمس استياء أهالي الدير من سجن العزاوي أمر باطلاق سراحه.
***
كاتب هذه الاسطر أمضى في دير الزور صيف 1958 قرابة الشهرين في مهمة تثقيقية للشيوعيين في ديرالزور لمس خلالها شعبية ثابت العزاوي وأخلاقه الرفيعة وجلس على مائدته أكثر من مرة. وما تزال ذاكرتي تختزن صورة هذه الشخصية الانسانية المتواضعة ذات التطلعات النهضوية العربية.

 

 1932 الصورة الأولى: من سجن ثابت العزاوي في دير الزور عام

الصورة الثانية, للعزاوي في شيخوخته