كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قصة حقيقة وتجربة علمية بتصرف

د. بدر بيشاني

كان الطقس شتاء، وكانت منطقة جديدة محط رحالنا في عملنا الميداني، إنها مدينة خان شيخون القادمة لحضن الوطن منذ أيام قليلة خلت، ومازالت آثار شراسة القتال بادية على محياها. أول ما يلفت المرء في هذه المدينة بردها القارس الذي يحل مبكرا ويدخل العظام في وقت الظهيرة، وشمسها ذات الأشعة الباردة جدا غبر الدافئة أبداً.
بدأنا بتجهيز معداتنا، وبدأنا التحضير مبكراً لمواجهة البرد القارس؛ كانت لنا أولويات ومبادئ لن نحيد عنها: لا لقطع الأشجار ولا لحرق المعدات في البيوت. إبّان تجوالنا في المدينة اكتشفنا كنزاً دفئيا مغر جداً، إنها آلاف الكتب التي رميت وبللت ومزقت على مدار السنوات منها كتب من إصدارات وزارة الثقافة في الثمانينات، كتب تربوية من اصدارات وزارة التربية، مطبوعات هائلة العدد والحجم من ذكريات وإصدارات دار رادوغا السوفييتية، وكل هذه الكتب أُعدمت ورميت من قبل ارهابيي الفكر التكفيري، مضافاً إليها خلاصة الفكر التكفيري بشكل كتيبات مغلفة ومزركشة ومجلدة بحفاوة شديدة، من نواهي الدبموقراطية الى موانع الاختلاط بالنساء وأدعية مع تشكيلة من الهلوسات الايمانية والمعجزات الجهادية وغيرها..
طبعاً نضيف إلى ماسبق بعضاً من الكتب الحزبية والعقائدية التي وجدناها أبضاً لعدة احزاب في هذا البلد الجميل.
د. سمير محب للأدب والشعر بطبعه، ومحب للأرشفة، فقام مشكوراً بتصنيفها وتحضيرها، ومن هنا بدأنا تجربة علمية فريدة لا أعتقد أن أحداً قد سبقنا إليها،
فمع توالي عمليات التدفئة، واشتداد البرد، بدأنا الحرق، وكم كانت دهشتنا عظيمة، إذ أن الكتب السوفييتية القديمة ورغم سماكتها لم تكن تعطينا من الحرارة ماكنا نرجوه، للصراحة كان دفئها بارداً؛ عسيرة الهضم على النار، نارها قليلة القوة ولكنها أكثر ديمومة.
جربنا كتب الشعر الحديث، فكان دخانها يعمي مع دفء خفيف وحكة جلدية وحساسية وسعال.
استخدمنا الروايات العربية الطويلة منها والقصيرة، لاتغيير في معدل الحرارة والاحتراق.
ومن هنا كان لابد من استخدام الكتيبات الجهادية، بين قوسين طبعاً، وكان دفئها سريعاً لكنه لايدوم، نيرانها شديدة، لكنها تخمد بشكل أسرع.
إن أكثر ما أدفأنا كان كتب جبران والعقاد ونعيمة والسياب والقباني.
إن هذه الكتب حتى في مماتها كانت حنونة علينا، كريمة على أجسامنا، كما كانت كريمة على وجداننا وعقولنا عندما قرأناها لأول مرة.