آب روسيا اللّهاب من كورسك الى كورسك
2024.08.16
سلام مسافر
مع أنها لم تكن مناسبة يوبيلية أو "مدورة" كما في التعبير الروسي، إلا أن الذكرى 24 لغرق بحارة الغواصة النووية كورسك يوم 12 آب/ أغسطس 2000 ألقت بظلال قوية على العناوين الحزينة للأخبار بالتساوق مع الأنباء السيئة المتواترة من مقاطعة كورسك المحاذية للجبهة مع أوكرانيا بفعل الاقتحام المفاجئ لقوات كييف وتوغلها مسافات تصل إلى 70 كيلو مترا في العمق وفق تقارير صحفية متباينة.
يتذكر الروس شهر آب/ أغسطس/ بأنه من الشهور السيئة في حياة البلاد على تخوم القرنين العشرين والواحد والعشرين. ففيه اهتزت روسيا والاتحاد السوفيتي بمحاولة أراد لها الحرس القديم تقويم ما اُعتبر انحرافا عن خط الحزب الشيوعي على يد غورباتشوف فانتهت الحركة الهزيلة بتفكك وانحلال الدولة السوفيتية العظمى خلال ثلاثة أيام هزت العالم في العشرين من آب 1991. وكادت المحاولة المتعثرة أن تشعل حربا أهلية في بلد كان يملك حينها أكثر من ثلاثين ألف رأس نووي وترسانة من السلاح التقليدي تعد الأضخم في العالم.
يرتبط هذا الشهر في الذاكرة الروسية بحوادث مأساوية مختلفة عدا عن الكارثة الكبرى بموت الاتحاد السوفيتي، منها انهيار أكبر شركة مضاربات (ام ام ام) في آب 1994 وخسارة مئات ألوف المواطنين ودائعهم في أخطر عملية احتيال قادها أفّاق يدعى سيرغي ماورودي باستغلال مغفلين باحثين عن الربح السهل السريع فخسروا كل ما يملكون وقادت الكارثة البعض الى الانتحار أو الإدمان.
وشهد آب خلال التسعينيات وفي الربع الأول من القرن الحالي أحداثا خطيرة كانهيار الروبل وإعلان افلاس الدولة الروسية عام 1998 على يد حكومة سيرغي كيريينكو الذي يشغل حاليا منصب نائب مدير ديوان الرئاسة الروسية.
وتوالت الكوارث والعمليات الإرهابية وسقوط الطائرات بفعل الإهمال والفساد ومقتل المئات في كوارث تقنية وأخرى طبيعية وقعت في آب على مدى سنوات.
في آب نشبت الحرب الشيشانية الثانية عام 1999 وهلك فيها ما يزيد على العشرة آلاف عسكري من مواطني روسيا الاتحادية في أقل التقديرات وآلاف الانفصاليين الشيشان ارتكبت قياداتهم المتطرفة عمليات احتجاز رهائن وخطف حافلات وطائرات وتفجير أسواق وساحات عامة وقع بعضها في شهر آب.
وشهد آب حرائق الغابات في موسكو وضواحيها عام 2010 وبسببها فقد عمدة موسكو الراحل يوري لوجكوف منصبة و كان يقضي عطلته الصيفية في سويسرا ولم يقطعها ليكون قريبا من سكان العاصمة المختنقين بدخان الغابات المشتعلة فأقاله دميتري ميدفيديف وكان ذلك في التاريخ يتبادل الرئاسة مع فلاديمير بوتين.
بيد أن غرق بحارة الغواصة النووية كورسك في آب من العام ألفين ومعها ساعات الأمل القاتلة في انتظار عملية إنقاذ تنتشل 118 بحارا في جوفها من الموت ترك غصة لا تمحى في وجدان الملايين من بينهم كاتب السطور وكنت بحكم عملي مراسلا لإذاعة دولية ووكالة أنباء عالمية أتابع ساعة بساعة أنباء غرق كورسك وأشعر باختناق وضيق في التنفس يرافقني حتى اليوم كلّما استعدت في الذاكرة وقائع تلك الأيام. وكيف أن الأوكسجين في الغواصة الغريقة ينفد.
كانت روسيا تنام وتصحو على تقارير حول طرقات استغاثة تأتي من جوف الغواصة الغارقة بفعل انفجار غريب حطم مقدمتها وقيل إن بحارة أحياء كانوا يطرقون الحديد بإشارات معروفة طلبا للنجدة وإن استمرار الطرق يعني أن القلوب تنبض وأن الأمل في الحياة مايزال يخترق صمت البحر الرهيب.
لا تقارير مؤكدة تأتي من بحر بارنتس باستثناء أن مركز الأسطول الحربي فقد الاتصال بالغواصة النووية كورسك الساعة الحادية عشرة و26 دقيقة صباح السبت 12 آب ولم يعلن عن الكارثة رسميا إلا صباح الاثنين في خبر مقتضب بثته وكالة تاس الرسمية الروسية.
لم يبّلغ بوتين الذي بدأ إجازته السنوية في اليوم نفسه إلا بعد عشرين ساعة وقطع الإجازة عائدا من منتجع سوتشي إلى موسكو بعد أربعة أيام للقاء أرامل وثكلى بحارة الغواصة المنكوبة.
خلال تلك الأيام أدمن الملايين على تخيل طرقات آتية من أعماق بحر بارنتس البارد ليتضح بعد نفاد الأمل في العثور على أحياء أنها كانت وهما وبدعة إعلامية لتهدئة الخواطر لكن وقعها على الملايين كان كابوسا يخنق الأنفاس.
تبين لاحقا ان 95 بحارا غالبيتهم في عمر العشرين قضوا في اللحظآت الأولى من انفجار طوربيد مقدمة الغواصة. ومن بقي على قيد الحياة كتب رسائل وداع للأحبة منها رسالة البحار كوليسنيكوف الى أحبته يطمئنهم أنه بخير! وتحولت الرسالة المبللة المرسومة بحروف مرتبكة في الظلام الدامس إلى مادة للشعراء والمغنين يخلدون فيها ذكرى البحار الشاب المفعم بالأمل وهو يختنق.
لم يعثر إلا على أشلاء 12 بحار فيما ابتلعت أسماك وأعشاب وأملاح البحر.. وفساد الأزمنة والأمكنة الأجساد الغضة للبحارة.
كانت الغواصة كورسك ووقودها النووي تشارك في مناورات حية داخل بحر بارنتس شمال روسيا وسط حشد من غواصات حلف الناتو التي كانت تراقب مناورات القطعات الروسية.
حينها كانت علاقات روسيا مع الناتو تعيش شهر العسل بدأ مع سلف بوتين بوريس يلتسين. ولم يمض على تسلم العقيد السابق في جهاز( كي جي بي) فلاديمير فلاديمروفيتش غير مئة يوم رئيساً للدولة الروسية المنهكة الممزقة المنهوبة بفعل برامج الخصخصة.
وما كان بوتين قد فتح الشراع الروسي نحو شاطئ القطبية المتعددة ولا اختط نهجا لاستعادة هيبة روسيا العظمى الغارقة في النهب والفساد.
حينها ترددت تقارير عن أن دولا بحرية كالنرويج عرضت على موسكو فور وصول خبر انقطاع الاتصال بالغواصة المساعدة في عمليات الإنقاذ لكنها جوبهت بالرفض القاطع.
لعل إخفاء خبر الكارثة عن بوتين لأكثر من عشرين ساعة لعب دورا حاسما في رفض المساعدة الغربية لأنه قرار رئاسي، او أن المزاج السائد في المؤسسة العسكرية التقليدية يرى في اليد الغربية مخلبا حتى لو امتدّت بيضاء للمساعدة.
وحده مسحوق الطرق كان يخدر مشاعر الملايين الى أن استيقظت على عويل الأرامل والثكالى يقابلهن بوتين ببدلة كالحة وبلوزة سوداء بدون رباط عنق وتعابير وجه قاسية يغلفها الغضب ويقول" غرقت الغواصة"!
فارتفع الصراخ الهستيري وماتت الآمال.
لم تجب لجان التحقيق حتى بعد مرور ربع قرن تقريبا على الأسئلة المحيرة، لماذا انفجر طوربيد مقدمة الغواصة ولماذا لم تهرع القطعات المشاركة في المناورات لإنقاذ بحارتها إضافة إلى لواعج أسئلة كثيرة اخرى.
تزداد الحيرة حين يشار في التقارير الى أنه لم يكن في سيناريو المناورات بالذخيرة الحبة ان تطلق كورسك طوربيدا فيما أكد مهندسو النوابض المكلفين بالصيانة أن أجهزة الغواصة قبل نزولها البحر كانت تعمل كالساعة.
لكن من يصدق تلك التقارير في فترة تفشي خلالها الفساد كالأرضة في مؤسسات الدولة المنهارة وجعل من الجيش خردة.
في الذكرى العشرين لغرق الغواصة صرح الجنرال فيتشيسلاف بوبوف القائد السابق لأسطول بحر الشمال أن غواصة أو سفينة حربية أمريكية تصادمت مع الغواصة النووية الروسية التصريح المدوي الذي زاد ضبابية الحادث وتضاعفت العتمة ببيان حاد صدر عن النيابة العامة الروسية يدحض أقوال الجنرال المتقاعد ومشددا على أن التحقيقات في ملف كورسك لم تنته وأنه لا يوجد حكم نهائي على أسباب الكارثة.
يستعيد الروس الذكرى المؤلمة لبحارة كورسك وهم يتابعون بقلق أخبار التوغل الأوكراني في مقاطعة كورسك وتقفز إلى الأذهان لا إراديا ظاهرة الإهمال في حالتين متباعدتين زمنيا ونوعيا لكن المخيلة الشعبية تميل دوما لطرح الأسئلة الأزلية لماذا وكيف ومَن المسؤول؟
تبرز الأسئلة بقوة على خلفية حملة مكافحة الفساد في وزارة الدفاع التي أطلق بوتين عنانها ربيع العام الجاري باعتقال كبار الجنرلات بينهم نواب الوزير السابق سيرغي شويغو وتكشف التحقيقات عن فساد بمليارات الروبلات في وقت تخوض روسيا مع حلف الناتو على الأراضي الاوكرانية حربا مدمرة.
المفارقة أن الحلف الأطلسي يتابع بارتياح اليوم الهجوم الأوكراني على أراضي مقاطعة كورسك ولعل خبراءه يشاركون في إدارته فيما عرض قبل ربع قرن المساعدة لإغاثة بحارة كورسك فرفضت موسكو التي تهدد باللجؤ إلى خيارات صعبة في حال لا يفك حلف شمال الأطلسي تحالفه الآخذ بالتوسع مع نظام كييف.
ويلوح الكرملين باحتمال استخدام الأسلحة غير التقليدية ومنها قطعا سلاح الغواصات حاملة الرؤوس النووية شبيهات كورسك الشهيدة.