سأحدثكم عن لينا..
2024.06.22
شعبان عبود
سألتها منذ الأيام الأولى، ماذا يعني لينا؟ قالت: "إنها شجرة النخيل الصغيرة".
في أواسط الثمانينيات كنا طلاباً في "قسم الصحافة" بجامعة دمشق، وهناك كنا نحو خمسين طالباً وطالبة، شبانا وشابات صغار أتينا من كل الجغرافيا السورية، حاملين معنا أحلاماً كبيرة وكثيرة من بينها تغيير العالم ربما وكل شيء. هناك في الجامعة، اكتشفت أن العالم كبير جدا ومتنوع ومختلف، وأن سوريا جميلة و ملونة مثل قوس قزح.
"لينا" كانت لوناً جميلاً، مختلفة عن الجميع، وبعيدة من الجميع وقريبة منهم جميعاً، بعيدة لأنها كانت تسبقهم جميعا في الوعي والحضور والثقافة وجينات التمرد حيث كان يظهر كل ذلك من خلال الضحك والسخرية. كانت منفردة ولا تحب أن تُحسب على القطيع.
هذه المواصفات الشخصية جذبتني اليها، لذلك صرنا أصدقاء بسهولة وسرعة، كنا نجلس سوية في مقعد واحد في كل المحاضرات، ولأن المحاضرات والمحاضرين عموما كانوا مملين ولا يفيدوننا بشيء يذكر كنا نختار المقاعد الخلفية، ولتبديد وقتل وقت المحاضرة كنا نتواصل عن طريق الكتابة على الدفاتر والأوراق التي أمامنا، كنا نقول كل شيء من خلال الكتابة والرسوم التعبيرية ونضحك كثيرا بصوت خافت.
مشينا كثيرا في دروب وحدائق المدينة الجامعية، كانت تسكن في الوحدة السكنية رقم واحد. لم أذكر مرة واحدة أني زرتها دون أن تستقبلني بابتسامة، وجهها، عينيها، كل شيء فيها كان يضحك.
كنا نجول على المراكز الثقافية، نحضر آخر العروض المسرحية، الأفلام السينمائية الرصينة، نتبادل الكتب والروايات، ونمشي تحت مطر دمشق.
أربع سنين كنا معاً، وحين تخرجنا، ابتعدنا، وكل مضى في طريقه..
ذات مرة حصل معي شيء نادر، لا أجد تفسيراً علمياً له، وهو أني وبعد نحو عام على التخرج، وبينما كنت أستقل سيارة النقل العام قرب كلية الحقوق في منطقة البرامكة، كنت شارد الذهن وأفكر بصديقتي لينا متمنياً لو أني أراها ثانية، ربما المكان والشوارع هي من ذكرتني بها، تمنيت خلال لحظات شرودي لو أني أراها مجدداً، بعد ثوان قليلة فقط نظرت من زجاج السيارة وإذ بـ"لينا" تقطع الطريق!! صُعقت، تجمدت ..لم يكن لدينا أجهزة هواتف في أيدينا بذلك الوقت، لم أفكر في النزول من السيارة، كنت متجمداً في مكاني أحاول تفسير ما حصل.
تمضي الشهور والسنين، كل يمضي بطريقه، تزوجت لينا فيما بعد من "عابد"، وهو شخص لم يتسن لي التعرف عليه، لكن من خلال حديث لينا عنه شعرت كما لو أني أعرفه، فيما بعد زارتنا لينا مع طفلها الأول في بيتنا، تعرفت على زوجتي وشعرتا بالود المتبادل، كانت لينا تمتلك هالة من الطيبة والبساطة والنقاء ما يجعل كل من يلتقيها يحبها.
سافرتُ إلى الولايات المتحدة، وقبل ذلك كنت قد زرتها أكثر من مرة في مقر صحيفة الثورة حيث تعمل، كانت وقتها تكتب في قضايا المرأة والمجتمع والشباب.. كانت كعادتها متمردة وتبوح لي بمعاناتها مع رؤسائها في العمل وكثرة الخطوط الحمراء في الإعلام الرسمي.
بعد 2011، تواصلنا من جديد، تحدثنا كثيراً عما يجري، عن بلدنا الذي بدأ يغرق في الدم والعنف للتو، اتفقنا كثيراً واختلفنا كثيراً، وكانت تبوح لي بلغة مختلفة عما تكتبه وتعلنه في العلن، لا أقصد أنها كانت تتخذ مواقف سياسية ضد النظام، لكنها كانت حاسمة في معارضتها لكل أشكال القتل والقمع، وفي الوقت نفسه لمست لديها مخاوف كبيرة من المستقبل.. قالت لي حرفيا: "أموت من الرعب لو تخيلت للحظة أن سوريا ستصبح يوما مثل الصومال أو العراق".
ليس الخوف على مستقبل سوريا ما كان يخيفها فقط، بل المستقبل الذي قد يأتي به المتطرفون والمتحدثون باسم الله، كانت قلقة من كل ذلك، وكنت أشاطرها تلك المخاوف.
وداعاً لينا،
وداعا يا شجرة النخيل الصغيرة، وداعا أيتها الطفلة الكبيرة، القوية، الطيبة، النقية، المتمردة "التي ظلت تضحك حتى الساعات الأخيرة" كما أخبرني وكتب الصديق يعرب العيسى.