إذا لم تكن ذئبا فلا تذهب مع الذئاب
2024.06.19
نبيل صالح
اختلف القوم في المرحوم فؤاد حميرة حتى خلطوا الثقافي بالسياسي فغطوا على أخطائه السياسية بنجاحاته الدرامية، لذلك رأيت أن أكتب ما أعرفه عن الراحل خلال بدايات حرب العالم في سورية وعبر السوريين..
كان عشاءنا الأخير في بيتنا: أنا وفؤاد حميرة وعادل حديدي وزوجاتنا أواخر الشهر الثالث من الفوضى السورية، وقد احتد نقاشنا وعلت أصواتنا واختلفنا على السياسة رغم الصداقة القديمة التي تجمعنا.. هكذا افترقنا بلا وداع هادرين عقدين من الصداقة والمحبة بيننا..
فبعد مؤتمر سميراميس طلّقتُ تجمع المعارضة ووقعوا بيانا ضدي نشرته تنسيقياتهم بعد تصريحي الشهير لوكالات الأنباء قبل انعقاد المؤتمر بأننا إصلاحيين لاإنقلابيين، وقد وقعه ضدي أغلب الذين كانوا يجتمعون في بيتي، ثم في بيت عباس النوري وبسام كوسا لاحقا، فقد كنا نجتمع أسبوعيا بقصد التأسيس لتيار إصلاحي والحوار مع السلطة للوصول إلى حكومة وحدة وطنية، كما ورد في البيان الذي تلاه منذر حلوم في فندق سميراميس، وتكلم بعده عدد كبير من الحاضرين بما فيهم فؤاد حميرة، مشكلين فوضى تنظيمية وسياسية وفكرية تجلت فيما بعد في أعمال "الإئتلاف غير المؤتلف" كما سميته وكانت سببا في فشله رغم الدعم الدولي غير المسبوق في تاريخ المعارضات. وكنت خلال حواراتنا قبل المؤتمر أدوّن أهم الأفكار الواردة فيها بحيث صغت منها بيانا يشتمل على خطة عمل وطنية لتلافي الخراب السوري الذي كنا نشهد فصوله في ليبيا، وكان أول بنوده حماية السلطة من إعادة إنتاج نفسها لأنها بذلك ستعيد إنتاج أخطاءها وأعداءها.. وقد افترقنا عن المجموعة أنا وعباس النوري وبسام كوسا بعدما اكتشفنا خيانة ميشيل لنا باجتماعه مع (الجيش الحر)، وقد تلا عباس النوري بياننا في مؤتمر صحارى للحوار الوطني بالإشتراك مع بسام كوسا، وكنت قد نشرته على موقعي "الجمل" للإستئناس برأي السوريين، لكن بياننا العقلاني لم يلق صدى عند السلطة ولا المعارضة، لأنهما كانتا في حالة كباش ومناطحة ولم يكونوا مؤهلين للمصالحة..
مازلت أذكر: بعد تمرد المهربين في درعا واصطدامهم مع الشرطة، زارني المرحوم فؤاد في مكتبي برفقة شبان حوارنة، زعبية وحريرية، كوني "مصدر ثقة لدى جميع الأطراف" حسب توصيفه لي، وقال الشبان أن أهاليهم يريدون التفاوض والوصول إلى تفاهم مع السلطات.. وقد طرحت الأمر في اجتماعنا الدوري الذي كنا نعقده في الساعة الرابعة من كل يوم أربعاء، وأخذنا وقتها برأي اللواء المرحوم محمد إبراهيم العلي كونه خبرة قديمة في المفاوضات مع العشائر والإخوان المسلمين أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد، ورأى ميشيل أن نعرض اقتراحنا على مؤسسة الرئاسة لتتبنى طرحنا قبل أن نذهب كوفد محايد إلى درعا (وكان ميشيل قبلها قد التقى الدكتورة بثينة شعبان وقال لنا أن حوارهما لقي رضا من الرئيس بشار الأسد حسب ما أخبرته الدكتورة بثينة)، وقد جاءتنا الموافقة الشفهية على مبادرتنا مساء اليوم نفسه عبر الوزير منصور عزام مع الموافقة على تقديم ديات القتلى والتعويض للجرحى والإفراج عن الموقوفين (لم يقدم لنا الأهالي اسم أي طفل ممن قيل أن عاطف نجيب اعتقلهم).. وفي مساء ذات اليوم أخبرنا الأهالي بالأمر، وكان يوم أربعاء، فماطلوا واعتذروا عن استقبالنا إلى مابعد يوم الجمعة، لنفاجأ بأول مظاهرة مسلحة في الجامع العمري، حيث تبين فيما بعد أن الأمر كان مرتبا منذ 2010 بالتنسيق مع معاذ الخطيب، حسب الوثائق السرية التي نشرتها في كتاب "يوميات الحرب على سوريا".. ومنذ تلك اللحظة بات الأمر واضحا بالنسبة لنا بأنها ثورة إخونجية على غرار ثورتهم في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وأن ماتبقى من مشاركين شيوعيين وبعثيين واشتراكيين منشقين هم مجرد إكسسوارات لتزيين التمرد وإعطائه وسم الثورة!
في بداية الأحداث كان فؤاد معتدلا في طروحاته غير أنه بعد توقيفه عام 2012 أصبح مستفزا وخرج عن طوره، وكان فراس طلاس يعمل على استقطابه وتحريضه، وقد نصحته بالإبتعاد عنه ولم يستمع لي كونه صنفني من (جماعة النظام) وهذه تهمة كانت توجه لكل من لايوافقهم الرأي..
غير أن فؤادا منذ مغادرته البلاد فقد وزنه الحقيقي ككاتب سيناريو بدأ نموه مع المسرح الشبيبي بالتدرج وصولا إلى شاشة كل الناس، أي أنه تشكل برعاية مؤسسات الدولة ورقابتها التي رفعت له السقف حتى تجاوزت نفسها، بينما لم تفعل معنا نحن الكتاب والصحفيين! وكان فؤاد مرحبا به عند القيادات والمسؤولين الذين لم تكن جلساتهم تخلو من الفنانين، حتى أنه سألني في بداية الأحداث فيما إذا كنت أرغب بمقابلة الرئيس معه بعدما طُلب منه اقتراح أسماء خلال لقاءات الرئيس مع المعترضين على السياسات الداخلية. بمعنى أن هذه المؤسسات الوطنية، رغم استبدادها السياسي وفسادها المالي وديماغوجيتها الحزبية، هي التي فتحت الباب لموهبة فؤاد للتأهل والصعود، من مرتبة بائع فول نابت على عربة في حي الدحاديل البائس إلى نجم يملك سيارة وبيتا في مشروع دمر وعملا يدر عليه الملايين، فقد كان باستطاعة الفقير المجتهد في سورية أن يصبح مخرجا وممثلا ومديرا ومحافظا ووزيرا وجنرالا، صالحا أوفاسدا، بغض النظر عن عائلته وطائفته وعشيرته.. غير أن فؤادا لم يكن حاذقا في السياسة كما في الدراما، وتم استغلاله من قبل أطراف المعارضة الذين صنفوه طائفيا واستخدموه ثم رموه، ذلك أن التمثيل الطائفي والقومي والقبلي والعشائري كان معتمدا وظاهرا في توزيع مقاعد الإئتلاف المعارض وفي تقدير جعالاتهم المنفوحة لهم من بلدان البترودولار والعم سام، فقد كان حجم الدعم المقدم لهم كافيا لتفكيك أعتى دولة في العالم، ومع ذلك فشلوا، لأن المعارضة التي تشكلت في الخارج كانت تحمل نفس بنية السلطة الإستبدادية، بل أن العديد من قياداتها تربوا في أحضانها حتى أني كنت أسمي الوزير رياض نعسان آغا في مقالاتي بخادم الأسدين!؟
كانت حياة فؤاد درامية حتى آخر جملة كتبها، إذ راح يتنقل من منصة إلى جماعة إلى حزب إلى تيار فتجمع حتى وصل به المطاف إلى "قسد" بعدما تخلى عنه جماعة أنقرة.. فهو كمعارض لم ينتج أي سياسة مؤثرة أو خطاً مميزا حتى نذكره له، فقد أضاع وقته في البحث عن دور خارج تصنيفه الطائفي بين إئتلاف المرتزقة ومات وحيدا على الفيسبوك، وكل ماتبقى منه هو ما أنجزه في ظل الدولة التي انقلب عليها وذهب مع ذئاب الغابة من دون أن يكون له مخالب وأنياب، حيث أكلوا الذبيحة من دونه وتركوه يبحث عن ثمن حقنة أنسولين.. رحمة الله عليك يافؤاد وليغفر لك كما نغفر نحن من أجل الوصول إلى مصالحة وطنية تعيد لنا عشاءاتنا وسهراتنا بعدما بات غالبية السوريين ينامون من دون عشاء..