كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

محاولة لفهم التردي الخطير الذي آل إليه الوضع العالمي

نصر شمالي

كي نفهم كيف آلت أوضاع العالم إلى هذا التردي الخطير الذي هي فيه اليوم ينبغي أن نعود إلى مرحلة ما بين العامين ١٩٧٠ - ١٩٨٠، حيث حينئذ سيطرت الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات والقوميات على أسواق العالم عموماً، فهي صارت تحتكر تسويق ٩٠ بالمائة من أهم السلع الأساسية في العالم أجمع، بما فيها تلك التي تنتجها بلدان الجنوب، ومن جهة ثانية صارت الحكومات الرسمية الاستعمارية تسيطر بدورها على معظم نصف التجارة الدولية الثاني، فإذا ما علمنا أن الحكومات الصناعية الإمبريالية هي الواجهات الرسمية للشركات متعددة الجنسيات، وإذا ما علمنا أن الشركات هي الوجه الخفي غير الرسمي للدول الثرية، أدركنا مدى خطورة المأزق الذي وقعت فيه أمم العالم حينئذ..
ومنذ ذلك التاريخ أسفر النظام العالمي الفاسد عن وجهه الربوي الشايلوكي القبيح، فعلى سبيل المثال كانت نسبة الصادرات العالمية في الأعوام ١٩٥٠- ١٩٧٧ على النحو التالي: ٦٥ بالمئة من الصادرات العالمية كانت في قبضة البلدان الصناعية الرأسمالية، و٢٥ بالمئة من الصادرات الإجمالية كانت إسمياً لبلدان جنوب العالم، و١٠ بالمئة فقط لا غير كانت للاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية بما فيها الصين! فإذا ما أضفنا نسبة ال ٢٥ بالمئة التي تخص إسمياً بلدان الجنوب إلى ال ٦٥ بالمئة التي تخص فعلياً بلدان الشمال الثرية أصبحت سيطرة بلدان الشمال تشمل ٩٠ بالمئة من صادرات العالم عموماً!
لقد كانت البلدان الثرية والشركات الربوية في ذلك التاريخ تسترد أكثر من دولارين اثنين مقابل كل دولار واحد توظفه في الخارج، وبخاصة في جنوب العالم، أما الأميركيون فكان لهم شأن آخر حيث كانوا ينتزعون أكثر من أربعة دولارات مقابل توظيف كل دولار واحد!
وقد استمرت هذه الوتيرة من النهب حتى العام ١٩٧٩، ثم بدأت تزداد ضراوة منذ العام ١٩٨٠، حيث المردود ارتفع أكثر فأكثر إلى أن بلغ ٧ دولارات مقابل توظيف كل دولار واحد!.. الخ الخ ..
 ******
في عقد الستينيات الماضي بدأت الظواهر تشير إلى نهاية زمن الأزمات الروتينية التقليدية التي هي من طبيعة النظام الرأسمالي العالمي السائد، وإلى بداية ظهور الأزمات التاريخية النوعية التي تتناقض مع وجود واستمرار هذا النظام وتهدد وجوده من جذوره وبرمته..
وفي ذلك العقد أعد المسؤول الأميركي المعروف زبيغنيو بريجنسكي كتابه المعنون "بين عصرين"، مشيراً فيه بوضوح إلى نهاية عصر وبداية عصر، لكنه تحدث عن العصر البديل بالصورة التي تتفق ومصالح الاحتكاريين العالميين..
وقد كتب المفكر الفرنسي جان بيير كوت عن الكتاب قائلاً أن "هدف بريجنسكي ما يزال الحفاظ على الموقع المتفوق للغرب الرأسمالي الصناعي في العالم، والحفاظ على الموقع المتفوق للولايات المتحدة ضمن هذا العالم الصناعي الرأسمالي المتقدم"!..
لقد هرب بريجنسكي من جوهر المأزق التاريخي المصيري للنظام العالمي الفاسد، ملخصاً فكرته عن العالم بجملة واحدة هي: "إن عالم اليوم هو مدينة واحدة"! وبناءً على هذا التلخيص رأى بريجنسكي أن من هو موجود في هذه "المدينة العالمية" مضطر للتعايش مع غيره فيها، لكن هذا التعايش لا ينفي وجود "نخبة حاكمة" و "نخبة اقتصادية" و "نخبة أرستقراطية"! وفي المقابل وجود أحياء مغلقة وأحياء من التنك وجماعات دينية مختلفة وعصابات جريمة، ونظام مركزي يحكم كل ذلك! أي أن بلدان العالم في رأي بريجنسكي تحولت في المدينة العالمية الواحدة إلى مجرد حارات وشعوبها إلى مجرد سكان حارات، فيقول: "لذا تصبح عملية مواكبة النزاعات الدولية شيئاً فشيئا مشابهة لتلك المواكبة المطلوبة من السلطات في تعاملها مع التنافر والتناقض بين سكان وحارات المدينة العادية، وذلك بالتعامل مع النزاعات بينها كأمر طبيعي روتيني!
يقول بريجنسكي: "إن الأسلحة ذات القدرة التدميرية الشاملة التي يمكن استخدامها ضد أية نقطة على الكرة الأرضية خلال بضع دقائق سوف تحقق أهدافها في زمن يقل عن الزمن الذي تحتاجه الشرطة لتلبية نداء طارئ في حارة من حارات مدينة كبيرة.. لقد أصبحت الكرة الأرضية كلها في متناول اليد"!