كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

قلب دافئ

نهلة سوسو
لا أعوّل كثيراً على معرفتي بالناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليس لأن هذه الوسائل موصوفة بالافتراضية فحسب، بل لأنها تستخدم ضمير الأنا بكل راحة، وتعطي صاحبها مساحة واسعة دون حقائق واقعية ملموسة، وما سُمّي بالصداقة عليها، مختلفٌ عن تجاربنا الواقعية التي تبلور الصداقة بمواقفَ وفعل وردَّة فعل، ولكن حصل معي على هذا "الفيس بوك" ما جعلني أتأثر جداً وأحاول توصيفه والتعبير عنه!
صديقٌ افتراضي، مغتربٌ في بلد أوربي، يروي في أحد منشوراته قصة بعيدة في الزمان، عن حياته في قرية سورية صغيرة كان عملُ سكانها رعيَ الأغنام والأبقار ويتميز مناخها بالقسوة الشديدة، وكذلك حياتُه حين كان يستيقظ في الأصباح الباردة، التي يمضي فيها إلى المراعي بمؤونة قليلة من خبز البيت وما تيسّر من قطارميز أمِّه وكيف واصل هذا الخروج إلى المدرسة ليتعلم هذه المرة، ثم يشبُّ عن الطوق ويُختار بسبب تفوقه للسفر في بعثة دراسية وجد فيها خياراً مريحاً ومحبباً هو الهندسة الزراعية، ولسبب ما بقي في بلاد الغربة، وشغل منصب مدرّس في كليات الزراعة!
صرتُ أتابع منشورات الدكتور، كلما أُتيح لي الوقت، لأنني اعتبرتها نزهة في الطبيعة، فهو يصوّر الحقول والبساتين كأنه لم يغادر أرياف الوطن ولم يعرف حياةً جديدة يتفاخر بها كثيرون متنكرين لذواتهم وماضيهم وثقافتهم، ويوم وجدته في صورة جماعية مع طلبته في نهاية العام الدراسي، لم أستغرب لأن ملامحه في عمره الراهن تشي بطيبة فائقة وأبوّةٍ كلها حنوّ (بدا ذلك في تحلق الطلبة حوله وسعادتهم بوجوده بينهم) ويوم الزلزال المشؤوم كان معنياً بالتفاصيل كأن بيتَه هو الذي هُدم، وأهلَه هم الذين لبثوا تحت الأنقاض، وجاءني صوتُه مع مئات الأصوات التي هبّت للنجدة والدعم والإنقاذ فقلت لنفسي: المروءة لا تتجزّأ وطبيعيٌّ أن يكون موقفُه تجاه بلده هو التعاطفَ والدعمَ المعنويّ، حتى فاجأني (كلمة فاجأني هنا تحمل كل معانيها) بأنه يرغب بإرسال مبلغ متواضع من المال بعد أن ساهم بتبرعات من أجل ضحايا الزلزال، لأحتفي بالعيد وهذا كل ما باستطاعته! أذهلتني مبادرة المغترب النبيل خاصة حين وضعني في قائمة أسماء أقرب المقربين إليه، كأنني عشتُ معه عمراً. وقبل أن أشكره وأنبس بأي كلمة، كان يوافيني بإشعار التحويل حسب اشتراطات القوانين الأوربية الجائرة في حصارنا، ويبدي سعادة فائقة بمرونة هذه القوانين بعد حلول مصيبة الزلزال في بلدنا!
عرّفني الصديق المغترب ذو الأصل والانتماء الطيب على تجربة جديدة لم أخضها من قبل وهي التواصل مع شركات التحويل، حيث استلمت المبلغ لأوزعه فوراً على عائلات أَحِنَت عليها سنوات الحرب والفَقد والغلاء، مع محافظتي على وصيته بأنه لا يريد أن يشيع اسمُه ومبادرتُه على أسماع أحد!
بصعوبة بالغة سأحافظ على السرّ الذي استودعني إياه، رغم إخباري من وضعتُ المبلغَ بين يديه أنه من مغترب أراد أن يترك فرحاً، أو ابتسامة، أو دمعة امتنان، لدى آخرين يعرفهم بقلبه ولم يرَهم بعينه!
لم أستطع إيصال كل امتناني لهذا الإنسان السوري، لكنني أوصلتُه لكم مستمعيّ الأعزاء لأننا جميعاً عائلة واحدة، ومهما طال موسم القحط، هناك وردة تتفتح على شباكنا تبث الأمل بأن ربيعنا لا ييبس وأن غدَنا أفضل. طابت أوقاتكم بكل الخير والمسرّة.
*******
د. جوليان بدور

هامش: عندما عدت لقراءة هذه الخاطرة الصباحية التي أرسلتها لي الصديقة الحميمة نهلة سوسو منذ عدة أشهر بالصدفة، شعرت بالبهجة والسرور والفرح وبأن قلبها يحمل في طياته كل هموم الوطن ومواطنيه.

أقتبس: "ومهما طال موسم القحط، هناك وردة تتفتح على شباكنا تبث الأمل بأن ربيعنا لا ييبس وأن غدَنا أفضل".