كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الريحان تحت اللسان

صفوان زين:

فجر اليوم الاول لامتحان الشهادة الابتدائية في شهر حزيران من العام ١٩٤٨، كنتُ على موعدٍ مع الصديقَين الحميمَين الشقيقَين سمير وسليم داية (أبعث لهما بتحياتي الى المانيا حيث يقيمان منذ العام ١٩٥٧بصورة متواصلة) كي يمرّا عليّ في منزل الأهل في حي العوينة للصعود سوياً الى جامع المغربي لتأدية طقوس ما قبل الامتحان وفقاً لتقاليد تلك الأيام، الصلاة وقراءة الفاتحة وبعض الآيات القرآنية على ضريح المغربي واختتامها بالشعيرة التي قدمنا من أجلها وهي قطف ورقة الريحان من فوق الضريح ووضعها تحت اللسان كي تساعدنا على اجتياز الامتحان بنجاح!
ما إن فتحتُ الباب للصديقَين في الموعد المتفق عليه حتى فوجئتُ بعدهما بخطواتٍ معدودة بأحمد الخادم التركماني في بيت خالي مصطفى الصوفي، توجستُ من قدومه في ذلك الوقت المبكّر، طلب رؤية والدتي على الفور ممّا زاد من توجسي، كرر الطلب فبلغ توجسي الأوج، في هذه الأثناء قدمت والدتي كي تودعنا على الباب وتشيّعنا بأدعيتها، امتقع لونها بمجرد ان وقع نظرها على احمد، لقد توقعَت نبأً سيئاً انما ليس الى درجة ان شقيقها مصطفى قد فارق الحياة وهو لم يتجاوز الثامنة والأربعين ربيعاً. حاولَت ان تتمالك نفسها أمامي وأمام صديقَيّ إلّا انها فشلت، انفجرت بالبكاء، شاركتُها بكاءها رغماً عنّي، ألحّت ان نغادر على الفور، ففعلنا، انما كنتُ في حالة يُرثى لها من الحزن والاكتئاب، ليس هيّناً ان يكون مشهد الأم الملتاعة هو آخر مشهد تقع عليه عينا ولدها المتوجّه الى الامتحان.
حاول صديقاي ان يسرّيا عني طيلة الطريق الى المغربي، هنالك الى جوار الضريح دفنتُ حزني واكتئابي الى جانب العشرات من الطلاب الذين قدموا لنَيل بركة صاحب المقام. كانت خاتمة الطقوس وضع الريحانة تحت اللسان.
هبطنا من المغربي في القلعة زرافاتٍ ووحدانا الى مركز الامتحان في مدرسة التجهيز في الشيخضاهر. الجميع كما أتصور كان يمضغ الريحانة المُباركَة!
مرّ الامتحان بسلام، أُعلِنَت النتائج بعد مدة، كنتُ والصديقان سمير وسليم بين الناجحين، لقد اشتغلت معنا الريحانة السحرية! لم تشتغل مع الجميع على ما يبدو فقد كانت نسبة الرسوب في ذلك العام عالية!
بعد أربع سنوات تماماً وكنّا نتقدم الى امتحان الشهادة المتوسطة (البروفيه) كانت شعيرة الريحان تحت اللسان الرومانسية قد بدأت في الانحسار كي تحل محلها شعائر وطقوس المدرسة الواقعية المتمثلة في مرحلة أولى بالروشيتات وما على شاكلتها وفي مرحلة ثانية بالموبايلات ومايماثلها، لكي تأتي بعدهما المدرسة السوريالية عندما اختلط حابل النجاح بنابل الرسوب.
ألا ليت الريحانَ يعود يوماً.