كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

رحلة قصيرة الى ماضينا الجميل والنقي: بيتي الترابي وطفولتي السعيدة

د. جوليان بدور- فينكس

شاءت الأقدار أنني ولدت عند عائلة ريفية تعمل بالزراعة وتعتمد عليها كمصدر للدخل ونمط عيش وحياة. بيت العائلة، الذي وِلدتُ وترعْرعتُ فيه، ليس كغيره من البيوت وخاصة الحديثة منها. ما يميزه عن غيره من المنازل ليس فقط كونه موجوداً في قرية نائية وصغيرة وبدون طريق مُعَبدْ وبدون كهرباء، ولا لكونه منصهراً في طبيعة بكر وفتانة ومناخ صاف وهواء نقي وقرية مُسُورةْ بالجبال من جميع النواحي، ما يميزه حقيقة عن غيره هو كونه شُيّدَ من حجر وتراب وخشب القرية الذي ولدت بها، بالإضافة الى منظره الخارجي الجميل ومحتوياته البسيطة. كبقية بيوت القرية، البيت كان له أربعة حيطان سميكة من الحجر، وسقفاً مصنوعاً من الخشب والتراب. له مدخلان وثلاثة نوافذ صغيرة، ومجهز بمدفأتين (تفية) محفورتين في وسط الحائط. مستطيل الشكل.
البيت كان عبارة عن صالة ضخمة بطول ٢٠م وعرض ٨م لا تحتوي على غرف للنوم أو غرفة للحمام. الحمام كان يتم في اسطيبة الدار شتاءً (الواقعة على مدخل الدار مبلطة بالحجر وتسمح بخروج الماء خارج البيت) أو في وادي نبع القرية صيفاً.
والأنقى من كل ذالك هو إن البيت لم يكن يحتوي على تواليت. مما يعني بأننا كُنْا مضطرين عند الحاجة للخروج خارج البيت مهما كان نوع الطقس السائد خارج البيت (برد، ثلج، مطر، حرّ، عتمة، ليل، نهار) لقضاء حاجتنا في الهواء الطلق.
البيت كان مقسماً الى قسمين بفضل وجود عنبر كبير من الخشب (مخصص لحفظ المؤنة) في وسط البيت.
القسم الشرقي من البيت كان مخصصاً للطبخ وإعداد الطعام والحمام والغسيل. كما أنه كان يحتوي على عرزال من الخشب بارتفاع متر ونصف عن الأرض (من أجل تفادي الرطوبة) مخصص لتخزين البصل والثوم والبطاطا وما الى هنالك من مواد غذائية مجففة تستخدم خلال فصل الشتاء.
أما القسم الغربي فكان مخصصاً للاستقبال الضيوف ودراسة الأطفال وتناول الطعام والخلود للنوم. محتوياته كانت قليلة وبمنتهى البساطة: حصيران من القش وصندوق متوسط الحجم، يوضع عليه الفرش واللحاف والمخدات، وسرير للأطفال الرضع. لم يكن في البيت خزائن، لترتيب الألبسة، ولا طاولة لتناول الطعام، ولا كنابايات لاستقبال الضيوف.
في حال زارنا ضيف، كانت الوالدة تفرش له فرشة على الأرض مع مخدة وسنادة لكي يتكئ عليها. كما كان في البيت رف على ارتفاع مترين وبعرض ٢٥ سنتمتر (توضع عليه القطارميز وبعض الأشياء الصغيرة والهشة) لتكون بعيدة عن متناول الأطفال. كما كان هناك سمندرة مغلقة أو أثنيتن (فجوة تحفر بالحائط بعمق ٣٠ سنتيمتر وعرض ٥٠ سنتيم وطول متر) مخصصة لحفظ الكتب والدفاتر والأقلام وغيرها من المواد الأخرى…. على الحائط المقابل كان هناك عليقات توضع عليها ثياب العائلة.
إضاءة البيت كانت تتم بفضل قنديل على الكاز وسراج. القنديل كان يوضع على تكية صغيرة وعالية مثبتة على الحائط في وسط البيت. وبما أن ضوء القنديل كان خافتاً وضعيفاً كان مسموح لنا باستخدام السراج وجلبه الى جانبنا لكي نتمكن من قراءة دروسنا والقيام بوظائفنا (مما تسبب ببعض المشاكل عندما كان يقع السراج فتندلع النار).
طاولة السفرة كانت عبارة عن طبق كبيرة من القش. بعد طهي الطعام، كانت الوالدة تسكبه في "طبسية (وعاء أو صحن معدني كبير نسبياً)" كبيرة وتضعها على طبق من القش، مع إبريق مي وكاسة شرب واحدة لجميع أفراد العائلة. تجلس العائلة حول طبق القش (أنا وأربع بنات، مع الأب والأم) ونبدأ بالأكل. ما لفت انتباهي هو أن والدتي كانت تأكل ببطء شديد أو أنها تنتظر حتى نشبع. فإن بقي شيء في "الطبسية" كانت تتناوله، وإن لم يبق شيء كانت تعوضه بأكل سندويشة خبز مع زيت الزيتون أو بصلة دون أن تنطق كلمة سوء واحدة، أو أن تتذمر وتلعن هذه الحياة وعيشتها كما يفعل بعض الناس في مثل هذه الأيام.
والحقيقة لم نكن ننام بدون طعام، ولم نكن نعاني من الجوع المدقع. صحيح لم يكن هناك تنوع في الطعام، إذ كٌنا نأكل الأكلة ذاتها شهرين أو ثلاثة، ولكن الصحيح لم نكن ننام ومعدتنا فارغة، وكان هناك من الغذاء ما يكفينا لإشباع حاجاتنا الأساسية على الأقل. أي انه لم يكن هنالك هَدرْ ولا تبذير كما في الوقت الحاضر.
خلال فصل الشتاء وبعد العشاء، كان والدي يذهب أحيانًا الى عند أصدقائه لقضاء السهرة معهم، ويتركنا وحيدين مع والدتي الحنونة. بعدها كانت والدتي تفرش لنا ثلاث فراشات على الأرض وتبدأ بسرد قصة الزير الهلالي وعبلة طوال السهرة أو أنها كانت تغني لنا أغان متنوعة من الفرح والحزن. لا تسألوني كيف استطاعت هذه المخلوقة حفظ هذه الأغاني والقصص الطويلة وهي التى لا تعرف القراءة والكتابة لأنها لم تضع رجلها يوماً في أي مدرسة. أنا لا أعرف السبب الحقيقي، لكن كانت تقول لي بأن أحد الأقرباء كان يأتي إلى بيتهم ويروي عليها وعلى أخوتها هذه القصص. والسؤال كيف استطاعت هذه المخلوقة حفظها عن ظهر قلب دون أن تنساها! في الحقيقة لا أملك جواباً؟
ما بين قصص الوالدة الحنونة وبرد الشتاء القارس وعويل الكلاب والخوف من الضبعة) كان النوم بسرعة شيء مؤكد.
في أحد الأيام لم يتوقف كلبنا عن النباح، وشعرنا بأنه كان يلتمس مِنا المساعدة من خلال ضعف صوته واحتمائه بباب الدار. مما اضطر والدي إلى تلقين الجفت واطلاق عيار من النار في وسط الليل من أجل إبعاد الضبعة أو الوحش المفترس عن البيت.
- هكذا كانت سيرورة طفولتي بيت بسيط من التراب والحجر، طبيعة جميلة وبيئة نقية، أمٌ حنونة وأبٌ عطوف، طعام بسيط، عيشة صافية ونبيلة لا يشوبها ضجيج السيارات ولا يعكر هواءها ثاني أوكسيد الكربون، دنيا سعيدة وهنية، سعادة بسيطة وحقيقة.
- والسؤال ما هو الأثر الذي تركه هذا النمط من العيش والحياة على شخصيتي ونظرتي الى الحياة؟ مما لا شك فيه بأن ولادتي وقضاء طفولتي وشبابي عند أسرة ريفية تعمل بالزراعة وتعتمد حصرياً على الزراعة كمورد دخل نقدي ومعيشي، أغنى حياتي وأسعدها وزرع في نفسي والى الأبد حب الحياة البسيطة والطبيعة والبيئه والدفاع عنهما، وصقل شخصيتي وأدخل في نفسي حب التسامح ومحبة الآخرين وتمني الخير الى الجميع. فإن شاء الله صباحكم جميعاً صباح الخير والمحبة والسعادة والتفاؤل وحب الحياة.
-
- هامش: لا تؤاخذوني على احتمال وجود أخطاء إملائية أو نحوية، ٤٢ سنة من الغربة أضعفت مخزوني من الكلمات وإلمام قواعد النحو.
هامش ٢: الصورة مأخوذة من صفحة الصديقة وفاء حسن.