كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ما معنى أن تكون مدرساً من أصل سوري في جامعة فرنسية وأوربية؟

د. جوليان بدور:

يوم الجمعة الماضي (٧/٤/٢٠٢٣) أعطيت آخر محاضرتين للعام الدراسي الحالي. فبدلًا من أكون فرحاً وسعيداً بسبب التعب والإرهاق الذي عانيت منه في هذا الفصل (كوني قمت بإعطاء ٨٠٪؜ من نصيبي الدراسي فيه)، كنت حقاً مكتئباً وحزيناً. كئيب لأن قسماً كبيراً من طلابي سيغادرون الكلية أو الجامعة، ولن ألقاهم في السنة الرابعة. أيضاً أنتابني شعور الشجى والحزن، لأني كنت أشعر بأنهم، وهم ليسوا مجبرين على الحضور، ولديهم المادة وعندهم برنامج كثيف جداً، يأتون الى الكلية للمشاركة والاستماع الى الشرح والأمثلة العملية التى كنت أقدمها لهم خلال المحاضرة.
ظني لم يخب، لأن طلابي آثروا في نهاية آخر محاضرة أن يأخذوا صورة تذكارية معي، كما لو كانوا تلاميذ في المدرسة الابتدائية. ثم قالوا لي: دكتور جوليان، أنت حقاً من بين النادرين إن لم تكن الوحيد من الأساتذة، الذي أشعرنا بأنك تحب وتحترم وتقدر المهنة التدريسية والتعليمية. فالبسمة لا تغادرك، ملتزم وجدي، متواضع وانساني، تحترم طلابك وتشعرنا بالراحة وتسهب بالشرح واعطاء الأمثلة الحية من الواقع ولا تتوقف عن محاولة رفع معنويتنا. ففي مادة الاقتصاد البيئي والموارد الطبيعية مثلاً، وهي من موادنا المفضلة، علمتنا على حب الطبيعة وضرورة احترام وفهم قوانينها. شرحت لنا بأن قوانين الطبيعة هشة جداً وهي في خطر ويجب العمل على الحفاظ عليها. وَعَيْتُنَا على ضرورة أن نتطلع الى السماء الزرقاء وألوانها البهية، وأن نتأمل شروق الشمس وغروبها. زودتنا بضرورة أن نتوقف ونتمعن المناظير الطبيعية بمختلف أشكالها وألوانها، بعد أن لم نكن نوليها أي إهتمام في الماضي. وَعَيْتُنَا على أن نتأمل وننظر الى النباتات والورود والزهور ونتمعن بجمالها ونتنشق عطرها وعبقها. أطلعتنا على ضرورة غرس الأشجار والعناية بها وعدم قطعها لما لها من دور في إنتاج ونشر الاوكسجين والهواء النقي الضروري للصحة الجيدة والحياة الهنيئة. وَعَيْتُنَا على أهمية الطيور والفرشات وغيرها من الكائنات الحية ودورها الهام في التوازن الطبيعي والبيئي وأن ننصت ونستمع الى زقزقة العصافير وغنائها، ورقص ولهو الفراشات وغيرها من الكائنات الحية. من قبل لم نكن نكترث لمثل هذه الامور ولم نكن نعرها أي إهتمام. الآن بدأنا ننظر ونتأمل هذا الكون ونفكر كيف العمل على الحفاظ على البيئة والطبيعة والمناخ والطيور والفرشات وكل ما لها من علاقة.
كما أنك أطلعتنا على اهمية الطاقة ودورها واحْطتْنا بالاجراءات الواجب القيام بها من أجل توفير الطاقة وتقليل إنبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري (أن لا نترك لمبة أو شاشة شغالة بعد الخروج من الغرفة أو المنزل، أن نطفئ الكهرباء وشاشة التلفزيون او التلفون بعد الانتهاء منها، أن نقود السيارة بطريقة مرنة وسلسلة، أن نقلل من استهلاك اللحوم والوجبات السريعة، أن نقوم بطهي الطعام في المنزل وأن لا ننجر وراء عادات وتقاليد المجتمع المفرط بالاستهلاك، ان لا نهدر المياه وان نستخدمها بطريقة عقلانية خلال الاستحمام والجلي والتنظيف والري… أن لا نفرط باستخدام المنظفات والمبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية والمواد التجميلية. نبهتنا وأصررتْ على ضرورة أن لا نرمي العبوات والاكياس وكاسات البلاستيكية وعواقب السيجارة في الطبيعة… وأن نعمل كل ما يمكن في الحفاظ على نظافتها وجمالها…
لا أنكر عليكم، لم أكن اتوقع ذالك، وتفاجأت وسررت كثيراً عندما فهمت وسمعت بأن طلابي فهموا وتعلموا الكثير، وبدأوا يدركون دور وأهمية البيئة والطبيعة وضرورة الحفاظ عليها وعلى قوانينها.
وأخيراً سألوني: من أين لك هذه الصفات والطِباعْ والتربية يا دكتور؟ قلت لهم، وكما تعرفون أنا من أصل سوري، وكل هذه الصفات والطباع هو بفضل التربية التى تلقيتها من أبي وأمي والمدارس في سورية. فرحت كثيراً لأن ما عاشوه وسمعوه مني، مخالف تماماً ، لما سمعوه أو قرأوه عن بلدنا الحبيب خلال العشر سنوات الماضية.
وأخيراً: على عكس زميل لي قال بأنه سيكون مسرور وسعيد جداً لأن محاضرته في الاسبوع القادم ستكون الأخيرة قبل الذاهب الى التقاعد، فأنا لا أتصور قط في أي حالة نفسية ومعنوية سأكون فيها، عندما سأقوم بإلقاء آخر محاضرة لي هنا في الجامعة. ألا تَرون أصدقائي، بالرغم من قلة الراتب وضعف البرستيج، بأن مهنة المعلم والتدريس، هي من بين أنبل المهن واكثرها رقى ومعنى.
د جوليان بدور
هامش: أرجو من أطفالنا وتلاميذنا وطلابنا، بالرغم من الصعوبات الحالية، القيام ومنذ الصغر بمثل هذه الإجراءات للحفاظ على البئية والطبيعة، لأن لا حياة ولا هناء ولا حتى وجوّدْ بدون بيئة نقية وطبيعة خضراء وهواء نقي ومناخ معتدل.