كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

معادلات الردع لم تعد حكراً لأمريكا

يوسف غانم:

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي تحول العالم إلى نظام عالمي جديد، أبرز السمات فيه أن أمريكا وحدها من تستخدم القوة لفرض شروطها وتحقيق مكتسبات جيوسياسية وبقية أوروبا هي مجرد ملحق أمريكي لزوم الظاهرة الصوتية لا أكثر ولا أقل ومن يحيد عن التوجهات الأمريكية يُضرب بالعصا ليتأدب، و أبرز مثال على العصا الأمريكية كان تأديبها لفرنسا التي شقت عصا الطاعة في حرب العراق وخرجت عن الإجماع الغربي المحتشد خلف أمريكا و(الواقفين بالصف)، المشاغَبَة الفرنسية كان ثمنها غالياً فعادت فرنسا الى الصف كالطفل المؤدب ولم تعد تحيد عن الكلام الأمريكي.
تشكيل العالم الجديد بعد انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي بدأ بحرب العراق الأولى ليكمل مساره باتجاه شرق أوروبا وحروبها وتم تجزئة يوغسلافيا ومسحت مدن وقرى صربية من الوجود، و بدأ الحلف الاطلسي يقرع أبواب روسيا التي كادت أن تتحول الى دولة فاشلة "الجميع يتذكر السطوة الغربية في موسكو وكيفية شراء الأصول الروسية ومحاولة حتى تقسيم روسيا الفيدرالية ".
ذروة الصعود الإمبراطوري الأمريكي كانت حربي أفغانستان والعراق وغزو البلدين بمئات آلاف الجنود بدون إقامة أي وزن لسيادة الدولة وحقها في اختيار توجهاتها وكيفية حكم بلدها وكانت الولايات المتحدة تجرب كل أنواع أسلحتها وتهدد كل من يتفوه بصوت مخالف لتوجهاتها، وكانت عبارة بوش الشهيرة التي أظهرت الوجه الأمريكي الحقيقي "من ليس معنا فهو ضدنا"، وكان المحافظون الجدد ونظرياتهم حول مكانة أمريكا في القرن الجديد وأنه قرن أمريكي تتصدر الساحة الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية، و هؤلاء المحافظين نفسهم كانوا يجتهدون في وضع خرائط جديدة للعالم تُفصَّل على حجم المصالح الأمريكية وكانت الدول تُقسم وتُفتت وتُستباح جغرافيتها قياساً على المصالح الأمريكية دون أي اعتبار لحقوق البلدان في تقرير المصير و دون أي التفات لحقوق الإنسان، فصارت السجون الأمريكية حديث العالم وعلى رأسها سجن أبو غريب سيء الصيت.
بقي الحال على ما هو عليه طيلة عشرة أعوام من القرن الحالي دون أي مقاومة للتمدد الأمريكي في العالم، ولكن كانت قد بدأت إرهاصات مقاومة للنظام العالمي الجديد مع استكمال روسيا لترتيب أوضاعها الداخلية ومع صعود الصين الإقتصادي المستند إلى معدلات نمو ثابتة فوق 5بالمئة سنوياً وبداية التقارب الروسي الصيني وتحالف الضرورة الجيوسياسية الذي فرض نفسه عليهما.
وتمظهر بشكل كبير بعد غزو الناتو لليبيا ووضوح الأهداف الجيوسياسية الغربية من استثمار الموجة العربية من الثورات والتي كانت استكمالاً للثورات الملونة التي جعلت الناتو يتمدد بشكل كبير والحقيقة رغم أنه تحت اسم الناتو إلا أنه بالجوهر تمدد أمريكي متكامل مع التمدد في مناطق مختلفة من آسيا بما يمنع تلاقي قواها تحت تشكيل سياسي أو اقتصادي ذو وزن حقيقي حتى ظهور منظمة شنغهاي للتعاون والتي شكلت فضاء اقتصادي سياسي واعد بعيداً عن الهيمنة الغربية عام 2016 وكانت روسيا قبله قد اتخذت قرارها بالعودة إلى المياه الدافئة في سورية لاسيما بعد الخديعة الأمريكية الغربية لها في ليبيا هذه العودة كانت ضمناّ بموافقة صينية دعمت روسيا بوضوح في مجلس الامن في وجه الغرب من خلال ما بات يعرف بالفيتو المزدوج.
اللافت أنه مع الصعود الصيني الروسي بدأت ملامح عالم متعدد الأقطاب ما زاد من تمسك الولايات المتحدة بقطبيتها الأحادية رغم خروج بعض الأصوات في الولايات المتحدة نفسها و على رأسها مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الذي قال في مؤتمر أسبين للأمن في شهر تشرين الثاني من العام الماضي بأن العالم اليوم أصبح عالماً متعدد الأقطاب ولم يعد ثنائي القطبين كما كانت عليه موازين القوى الدولية في الماضي مؤكداً على دخول الصين كقطب فاعل في موازين القوى إلى جانب روسيا و الولايات المتحدة .وهذا يعني ما يعنيه في مؤسسات النخبة في الولايات المتحدة
العالم البازغ من رحم فشل الاستراتيجيات الأمريكية والنتائج الكارثية لحروبها بدأ يفكر بمصالحه الجيوسياسية والأمن العالمي المشترك والمتوازن بعد أن كان العالم السابق يتميز بأنه لا يراعي سوى أمن الولايات المتحدة وحدها في عالم لا يمكن تجزئة الأمن في.
ما يمكن أن يتميز به العالم الجديد أن استخدام القوة لم يعد حكراً على الولايات المتحدة وليست وحدها من يصيغ معادلات الردع وأن القوى الناهضة تمتلك القوة والموارد التي تعززها، وبالتالي فإنها تملك القدرة على تعزيز أمنها مع قدرتها على تحمل تبعات ذلك كما أن انكفاء الولايات المتحدة من أماكن مختلفة بالعالم وامتلاك القوى الناهضة القدرة الاقتصادية والموارد الكافية قد ساعد هذه القوى في ملئ الفراغ لتبدأ ملامح عالم جديد بالتشكل ميزته الأساسية أن موارد الغرب لم تعد تدعم تمدده وموارد القوى الناهضة تدعم قدرتها كما أنها تمتلك الإرادة والقوة لإجراء جراحات جيوسياسية تقابل القدرة الامريكية وهذا يعني أن العالم أمام يالطا جديدة أو فوضى بدون حدود.