كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حلّال المشاكل

كتب احسان عبيد: 

عندما كنت أعمل في الصحافة السورية بقسم التحقيقات، اعتاد بعض المواطنين الذين تتقطع فيهم السبل أن يأتوا إلى الجريدة، لينشروا شكواهم، آملين أن يأخذوا حقوقهم التي عجزوا عن أخذها.. وأول ما يصعد الشاكي، يصل إلى الاستعلامات ويسأل : أريد مقابلة رئيس التحرير.
.
جماعة الاستعلامات يعرفون شغلهم.. يسألونه: ماذا تريد؟ فيحكي لهم قصته، يرفع موظف الاستعلامات الهاتف ويقول: يوجد فلان الفلاني يريد مقابلة السيد رئيس التحرير، ومشكلته كذا وكذا.. وغالبا ما يقول له رئيس التحرير دعه يقابل إحسان عبيد.. ربما لأنه يعرف نشاطي أو كثرة غلبتي خاصة وأنني أعمل في قسم التحقيقات.. ومع المدة، صار جماعة الاستعلامات يأتون إلي بالشاكي دون أن يخبروا رئيس التحرير حتى أعالج المشكلة.. وصار الزملاء يصفونني مازحين بعبارة: حلاّل المشاكل.
.
ذات يوم دخل مكتبنا ثلاثة رجال، أحدهم يلبس بيجاما، والاثنان الآخران يساعدانه على المشي.. سألوا: من فلان؟.. استقبلتهم.. جلس الرجل المريض وبدأ يشرح قصته.. قال:
.
(دخلت المشفى لإجراء عملية البواسير، ولما صحوت من التخدير، وجدتهم قد أغلقوا شرجي وفتحوا شرجا مضادا للطبيعة في خاصرتي اليمنى.. بعد أسابيع التهب الجرح، فأغلقوه ونقلوه إلى الجهة اليسرى، وبعد شهر أخرجوني وأنا على هذه الحالة.. وبعدها راجعت أكثر من مشفى ولم يستقبلوني) . ثم قال لي انظر: رفع بيجامته عن خصره وأراني جرحا ملتهبا بحجم صحن السيجارة.. ولم أطق النظر إليه .
.
سألت: ما اسم الدكتور الذي أجرى العملية؟ وفي أي مشفى؟ قال: الدكتور هو محسن الأسود وأجراها في المستشفى الوطني.. هنا استغربت.. فالدكتور محسن الأسود من أشهر جراحي سورية وعمل بروفسورا في فرنسا.. قلت: عُد إلى بيتك الآن، وأعطني رقم هاتف للتواصل، وسأبدأ التحقيق بموضوعك فورا.. قال أحد المرافقين: هذا هو الرقم، والعم (مرسل) يقيم حاليا عند ابنته المتزوجة في حي المجتهد.
.
ذهبت من فوري إلى عيادة الدكتور محسن الأسود وسألته عن الموضوع: فقال: منذ أن رأيت مكان الشكوى عند مرسل شككت بالموضوع، وبعد التحاليل تبين أن عنده سرطانا بالشرج، وضميري المهني يمنعني من مصارحته بمرضه، وهناك الكثير من الناس يعانون المشكلة ذاتها وقد تعايشوا معها.. قلت: وما هي مشكلة الالتهاب: قال: إن في دمه جرثومة عجزت عن تشخيصها جميع مختبرات وزارة الصحة وهي التي تسبب هذا الالتهاب؟ 
.
قلت: لماذا لا ترسلونه إلى الخارج، شأنه شأن أهل المسؤولين وأقاربهم؟.. قال هذه ليست مهمتي، بل هي شغل وزارة الصحة.
.
ذهبت من فوري إلى وزير الصحة، وقصصت عليه حكاية مرسل، وقلت له: بصراحة.. هذا المريض تتبناه الجريدة، ويجب أن يرسل إلى الخارج.. قال: يا أستاذ، أنا ما عندي مانع، وأصدقك القول أنه تأتيني وساطات كثيرة من بعض المسؤولين لإيفاد مرضاهم، وهذا الأمر بات يحرجني كثيرا ، ولكي لا أمرر غير المستحق على حساب المستحق، فقد شكلت لجنة أطباء اختصاصيين، لدراسة مثل هذه الحالات، فإذا رأت اللجنة وجوب علاجه بالخارج سنوفده فورا هو أو غيره.. وأضاف: هذه اللجنة تجتمع نهار الأربعاء ( وكان لقائي به يوم السبت ووقتها كان السبت دواما رسميا).
.
قلت: مبدئيا لي طلبان: الأول أن تأمر بعقد اجتماع استثنائي للجنة غدا أو بعد غد لدراسة حالة مرسل، والثاني: أن تعطيني ورقة تسمح بدخوله مشفى المجتهد ريثما ينتهي تقرير اللجنة ويتضح لنا الإيفاد من عدمه.. قال: لك هذا.. وعمل اتصالاته وأنا موجود. 
.
اتصلت بأهل المريض، وأخبرتهم بما جرى (ولكنني لم أخبرهم عن السرطان).. وبعد ساعة أدخلوه المستشفى الذي رفض استقباله سابقا.
. نهار الإثنين ذهبت لزيارة المريض حاملا له بعض الفاكهة، وهناك سأطلع على تقرير اللجنة.. رأيته يضج، وقالت لي ابنته: إنه يريد أن يخرج ويعود إلى القرية فهناك يتسلى مع الزائرين.. انتظرت حتى انتهت اللجنة من اجتماعها.. طلبت التقرير، قال مدير المشفى، ممنوع أن تستلم التقرير، وغدا سنرسله بالبريد إلى السيد الوزير.. أبديت إصراري لأخذ التقرير الآن.. قال مدير المشفى: أنت صحفي أم رئيس مخفر؟ قلت له: أنا صحفي ورئيس مخفر.. وطلبت الهاتف لأكلم الوزير.. قال الوزير: ارسلوا موظفا مع سيارة ليأتينا بالتقرير صحبة الصحفي الآن.. 
.
في مكتب الوزير، وبعد قراءة التقرير قال لي: إن المريض يفتك به السرطان، ولو أرسلناه للخارج ستضحك علينا الحكومة الفرنسية وتعتبرنا أغبياء لأن لا دواء له عندهم، وسوف يموت خلال مدة أقصاها أربعة أشهر.. هكذا يقول التقرير.
.
صمتُّ لحظة. كان كلام الوزير منطقيا، خاصة أنني لمست منه مقدارا كبيرا للتعاون.. قلت: طيب: هذا المريض يذهب كل أسبوع مرتين من قريته إلى مستوصف صلخد للتغيير عن الجرح، وهذه المراجعة مجهدة.. أعطني ورقة لو سمحت تطلب فيها من أي مستوصف يراجعه أن يعطيه من القطن والشاش والدواء لمد شهر كي نوفر عليه عناء السفر والمراجعة.. قال: لك هذا: وكتب إلى كافة ومشافي القطر لتزويد حامل هذه الورقة بكذا وكذا.
.
أخذت الورقة وذهبت إلى المريض.. قلت له: إن بين سورية وفرنسا تعاونا طبيا توفر فيه فرنسا لنا خمسة أسرّة، وعندما يفرغ أول سرير، سيجري إيفادك، لكننا لا نعرف الموعد بالضبط.. وانتحيت بابنته جانبا وأخبرتها حقيقة ماسمعت.. دمعت عيناها وقالت: يا أخي نتمنى من الله أن ينقله حتى يرتاح من عذاباته.
.
بعد شهرين ذهبت إلى القرية لمشاهدة الأهل، قالت لي الوالدة: اسكت.. قبل ثلاثة أيام تقطع خشب رجلي، وكدت أقع على الأرض.
- لماذا؟
- قالت: توقف باص فيه رجال ونساء أمام الدار.. نزل الرجال حوالي 15 رجلا دون النساء.. استقبلهم أبوك.. رحب بهم.. صب لهم القهوة.. ثم صاروا يتكلمون بالمديح والثناء عن بيتنا وعن تربية أولادنا وعنك بشكل خاص.. هذا الكلام أصابني بالهلع، واعتقدت أنه حصل لك مكروه وجاء هؤلاء الجماعة ليعتذروا لأن مديحهم زاد عن الحدود.
.
وأضافت: قلت لهم: ياغانمين أنا تقطع خشبي.. شو القصة؟ هل أصاب احسان شيء؟ قالوا: ليش ما معكن خبر؟.. ثم سردوا لنا قصة المرحوم مرسل الذي توفي قبل أيام، وبعد رجوعه من دمشق لم يكن حديثه لزائريه إلا عنك.. هنا انفرجت الوالدة والوالد، وتبين أن أقاربه – ركاب الباص - جاؤوا لتهنئة قريب لهم في قريتنا كان عائدا من فنزويلا بعد غياب 35 سنة، وقرروا أن يزورونا ويشكرونا قبل أن يزوروا قريبهم طالما أنهم جاؤوا إلى القرية.
رحم الله مرسلا، وشكرا لأهله وأقربائه على هذه الالتفاتة، وشكرا للذي ألقى كلمة أهل الفقيد وشكرني أمام محفل الجنازة.
.
من يفعل الخير لايعدم جوازيه / لايذهب العرف بين الله والناس