كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

اللون الشعبي الغنائي بين فؤاد غازي و علي الديك

 مفيد عيسى أحمد - خاص فينكس:

يطرح طغيان اللون الشعبي الغنائي في العقدين الأخيرين تساؤلاً هو: هل أفلست الألوان الغنائية الأخرى و قصرت، و بالتالي صار المجال مفتوحاً أمام اللون الشعبي و أغنية الفيديو كليب، أم أن المزاج العام لم يعد مزاج أغنية طربية أو حتى خفيفة؟

فالمتابع للانتاج الفني الغنائي، يلاحظ أن هذا الانتاج ينقسم في أغلبه إلى قسمين أساسيين؛ قسم اتجه نحو الأغنية الحديثة القائمة على كلمات فقيرة أقرب إلى الكلام العادي، و المرتكزة على حضور المغني أو المغنية، إضافة إلى الفيديو المرافق، و القسم الثاني اتجه إلى الأغنية الشعبية، و التي تعتمد على الكلمات الخفيفة الصالحة لتكون أساساً للحن إيقاعي مناسب للفرح (الهيصة) الرقص و الدبكة.  علي الديك

من الملاحظ أنه سابقاً كان يبرز في كل جيل عدد قليل جداً من المغنين الشعبيين، ففي مصر كان (أحمد عدوية، محمد طه..) ثم أتى ( شعبان عبد الرحيم) و آخرون ممن اختلف على تصنيف أغانيهم بين أن تكون شعبية أم لا، أمّا في العراق فهناك مصطلح (أغينة الأرياف) و هي بشكل ما غناء شعبي. هذه التجارب كانت قبل أن (ينفلش) الغناء بأغنيات هابطة سميت بالشعبية، في كل أنحاء الوطن العربي، و قد ساهم في ذلك وسائل التواصل و القنوات الفضائية و الإذاعية التي يصعب معرفتها.

في سورية برزت تجربتان في الأغنية الشعبية في العقود الأخيرة؛ تجربة (فؤاد غازي) و تجربة (علي الديك). إضافة إلى تجارب أخرى، و هما تجربتان متقاربتان في البيئة و مختلفتان في السمات.

بدأ غازي، مغنياً شعبياً، يغني في المناسبات و الحفلات، كحفلة حماة الشهيرة، و كان اسمه حينذاك (فؤاد فقرو) ثم كانت له فرصة أن يعتمد مغنياً في الإذاعة، حيث اعتبرت أغنيته (لزرعلك بستان ورود) التي لحنها عبد الفتاح سكر؛ و لاقت نجاحاً كبيراً نقطة الانطلاق الهامة له.

فؤاد قبل أن يكون (غازي) أدى اللون الشعبي بمختلف أنواعه، الأغنية و الموال، كأغنية (طوالو.. طوالو) و مووايل كثيرة اتصفت بقوتها و جزالتها، و بالصور الجميلة التي قدمتها، حيث نظمها اثنان من الشعراء الشعبيين يعتبران من أشهر من نظم في هذا المجال، و هما (جميل جنيد و أسد فقرو)، و لم تخرج تلك الأغاني و المواويل عن إطار التراث الفني لبيئة فقرو القادم من الغاب في حماه.

أدى غازي بعد ذلك العديد من الأغاني لملحنين مختلفين، منهم عبد الفتاح سكر، سعيد قطب، سهيل عرفة.. و غيرهم، تلك الأغاني توزعت بين الشعبية و الخفيفة، و الأغنية الطربية، و كانت في الغالب أغان جيدة، بكلماتها و ألحانها، و أدائها بصوت غازي الجبلي القوي، المفعم بالإحساس، بمساحته الجيدة و قدرته على التلوين.

خبت تجربة فؤاد غازي لظروف خاصة به، و ربما لأنها استنفدت وسعها الجمالي، و برزت بعد ذلك أصوات أدت الأغنية الشعبية بإحساس جميل؛ منها: عيسى نعوّس، سليمان الشعار، جعفر محمد، نعيم الشيخ، مفيد الشيخ و غيرهم.. غير أن التجربة الأشهر كانت تجربة علي الديك.

بدأ علي الديك بالغناء عام 1997 و ذلك في اللون الشعبي المعروف، مواويل و أغنيات، و هي لا تخرج عما هو معروف في حينه، و انطلق مع أغنيته (سمرا و أنا الحاصودي) التي اختلف عليها مع المطرب البناني (محمد اسكندر)، تتالت أغاني الديك فيما بعد فغني ( طل الصبح، راحت تقمقش حطب) و هي لصيقة بالبيئة الزراعية، أدى بعد ذلك أغاني بمواضيع مغايرة (ما بيطلعك واحسنا، و أبو شحادة، طفران و عايف حالي، كرمالك لعمل ناطور)  يجمع تلك الأغاني النزوع الدرامي للحالة التي تتناولها الأغنية، فأغاني الديك كلها تلتصق بحالة حسية منظورة و عاجزة عن التجريد و الارتقاء إلى حالة جمالية منبتة متخيلة و واسعة.

قامت أغاني الديك على كلمات عادية تصلح لألحان إبقاعية متماثلة، بجمل موسيقية فقيرة، و قد لاقت صدى واسعاً قد يكون مرده السأم من الأغنية الطربية الطويلة الميلودرامية، و الحديثة المبتذلة، و الأهم هو الحاجة إلى نفس جديد، رغم أنه كان موجود سابقاً، و علينا ألا نغفل الدعم و التعويم الاعلامي، و الملاحظ أن الديك لم ينوّع في الأغنيات التي أدّاها، من ناحية اللحن و الأداء.

لم يستند الديك في أغانيه إلى الموروث الفني، كانت قاعدته بيئية في البداية، فيما يخص الحالة التي تقوم عليها الأغنية و الصورة و اللهجة، و قد خرج منها دون أن يتخلص من علائقها، فقد بقي أينما ذهب ذلك الريفي العابث نوعاً ما، المتباهي نوعاً ما، و المحب للحياة.

تفتقر أغلب مواويل الديك للجزالة و القوة، و السبب هو كلماتها، بخلاف مواويل غازي، كذلك يختلف أداء الديك عن غازي في هذا المجال، فصوت غازي أعمق إحساساً و أكثر سعةً.

رغم أن أغاني الديك شعبية من ناحية السمات و الانتشار، إلا أن لا علاقة لها بالموروث و الفلكلور الساحلي إلا من ناحية البيئة المقدمة، فلم يعمل الديك على استلهام هذا الموروث و العمل على تطويره و التنويع الإبداعي عليه، و عندما غادر الديك هذه البيئة لم ينجح في تقديم أغنية شعبية شاملة، أي على مستوى سورية. كما فعل غازي الذي استلهم الفلكلور و الموروث و نوّع عليه، ثم في مرحلة لاحقة أدى أغنيات يمكن اعتبارها شعبية على مستوى سورية و خارجها.

بالتأكيد للأغنية الشعبية دورها و هي موجودة في كل ثقافات العالم و موروث الأمم، لكن إن لم يُعمل على تطويرها مع الحفاظ على خصوصيتها و روحها، ستكون عاجزة عن المساهمة في الارتقاء بالذائقية الجمالية.