كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحكومة و"والرشتاين".. و"الليبرالية الجديدة الرثة"

أحمد حسن- فينكس

مفارقة أولى: فيما الحكومة تمنع طباعة "المفكرات السنوية" لتقليل الانفاق، وتطلب ترشيد هذا الأخير في الدوائر العامة، وتلغي، عملياً، الدعم عن مئات ملايين السوريين، أقامت في واحد من أهم المنتجعات السورية مؤتمراً حاشداً -يتطلب حكماً مصاريف هائلة- ليس هناك من توصيف مناسب له سوى أنه لزوم ما لا يلزم، إضافة إلى أنه يفتقر إلى الحد الأدنى من "الملائمة السياسية، مع ما فعلته الحكومة ذاتها قبل أيام قليلة جداً.
معلومة: السياسة الأميركية الاستراتيجية قامت، ومنذ زمن طويل، بالعمل "على اختلاق طبقات رأسمالية ليبرالية مهووسة بالاستهلاك في دول الجنوب، على افتراض حتمية ميلها بشكل ذاتي في نهاية المطاف إلى المركز الرأسمالي الأمّ في أوروبا والولايات المتحدة".
نظرياً، تقف البلاد، والحكومة على رأسها، ضد "النيوليبرالية"، ففي عام 2021 حذّر الرئيس بشار الأسد، في كلمة له أمام رجال الدين، من خطرها على المجتمع السوري وطالب بمواجهتها وإن كان قد حدّد خطرها، حينها، "من خلال استهدافها المباشر للأسرة والقيم والعادات والحقوق الوطنية".
عملياً، فصلت الحكومة بين ما لا يمكن فصله إلا بخسارة كما يقال، "الليبرالية الاجتماعية" و"السياسية" وقد عمدت إلى مواجهتهما، و"الليبرالية الاقتصادية" التي طبقت -وهذا ما يفضحه مسارها وقراراتها- "أوامرها" وتوجهاتها لكن بصورة مشوهة، وهو ما أنتج لدينا ما يمكن تسميته بـ"النيوليبرالية الرثة". كيف ذلك؟
لنقرأ مثلاً هذا الاقتباس المطوّل من عالم الاجتماع "إيمانويل والرشتاين" وهو يتحدث عن تحليل النظم العالمية:
"حوّل الليبراليون الجدد الإطار التحليلي الذي طبّقوه على النظام العالمي من «التنموية» (Developmentalism) التي سادت في الفترة بين عامي 1945 و1970، إلى شيء ما أطلقوا عليه العولمة. لقد استخدموا هذا الإطار الجديد لفرض برنامج عملي أُطلِق عليه إجماع واشنطن، وذلك بشكل أساسي من خلال وزارة الخزانة الأميركية وصندوق النقد الدولي. لقد طالبوا جميع البلدان التي لم تكن «متقدّمة» بوضع برنامج يعطي الأولوية للنمو الموجّه نحو التصدير في الوقت نفسه الذي تفتح فيه تلك البلدان أبوابها أمام الاستثمار الأجنبي المباشر، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، والحد من برامج الرعاية الاجتماعية، وتقليص حجم بيروقراطياتها".
حكومتنا، التي اعتادت على تطبيق كل نظرية بصورة مشوهة أو "رثة" كما أسلفنا، طبقت، دون أن تعلن ذلك، إجماع واشنطن لكن بصورة مبتسرة، أي خصخصة الشركات المملوكة للدولة تحت مسميات براقة مثل التشاركية، وقامت بالحد من برامج الرعاية الاجتماعية، وبالأحرى إلغائها، تحت ذريعة "عقلنة الدعم"، لكنها من ناحية أولى لم تقلص من حجم بيروقراطيتها، بل وسعتها وعززتها بالتعقيدات القانونية والإدارية حتى لكل "ورقة"، ثم إنها وبدلاً من وضع برنامج يعطي الأولوية للنمو الموجّه نحو التصدير كما يطرح اجماع واشنطن وضعت برنامجاً يعطي الأولوية للاستيراد وهو ما يعني فعلياً كبح جماح الإنتاج الزراعي والصناعي ومحاصرته، وفي الوقت الذي منعت فيه واشنطن ذاتها أي محاولة سورية لفتح أبوابها أمام الاستثمار الأجنبي المباشر بحجة الحلّ السياسي واشتراطاته، قامت البيروقراطية الحكومية وبرنامجها "الاستيرادي"، المنحاز موضوعياً وفعلياً للتجار، بالمساهمة في إغلاق البلد أيضاً أمام الاستثمار الأجنبي المباشر، كما أنها بهذا الانحياز أغلقت الباب أمام " تعزيز التنافسية على مستوى السوق والمجتمع والأفراد" وهو أحد أهداف "النيوليبرالية" النظرية على الأقل.
"والرشتاين" ذاته قال إن ""وعود الليبرالية الجديدة بالإنعاش الاقتصادي العالمي تحولت إلى سراب"، والحق فإن "السراب" هو تحديداً ما نجحت حكومتنا في تحقيقه لنجد أنفسنا اليوم على ما نحن عليه، برنامج ونموذج سيدرّس لاحقاً كما قال رئيس الحكومة في افتتاح "المؤتمر المذكور"، لكن بوصفه نموذجاً للفشل "الرّث" لا للنجاح. 
مفارقة ثانية وأخيرة: قامت الحكومة بتقسيم الاقتصاديين السوريين -وهم من يفترض بهم تناول هذا الموضوع وأمثاله- إلى قسمين، الأول، دجّنته، بعد أن كان صوتاً واعداً، بمنحه منصباً ما فاختار لاحقاً المباركة والتهليل، أو الصمت –على مبدأ من بعدي وليكن الطوفان- كونه أسلم وأفضل، وهؤلاء، أي الصامتين، عادة ما يخرجون لاحقاً ليقولوا: لقد كنا ضد هذه السياسات وعادة أيضاً ما يستلمون منصباً آخر في ظل سياسات جديدة وسيخدمونها، أيضاً وأيضاً، مهللين أو صامتين، والثاني وهو بعض من لا زال يتكلم ويفسر ويطالب استبعدته من كل مكان وتركته مجرد صوت صارخ في البرية.