كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

اليوغا، فلسفة وطبابة

مروان حبش- فينكس

لقد اشتدت في الهند الرغبة في الفلسفة، باعتبارها لا غنى عنها في التعلق بالحياة وفي معيشة تلك الحياة، وكان يحتفل بالأعياد بمناظرات ينازل فيها زعماء المدارس الفلسفية المتنافسة بعضهم بعضاً.
يبوب الهنود مذاهبهم الفلسفية في صنفين: المذاهب الأستيكية التي "تُثَبتْ"، وسميت بأنها مؤمنة بأصول الدين لأنها سلَّمت بصواب الفيدا "الكتاب المقدس للديانة الهندوسية"، كما قبلت بنظام الطبقات. والمذاهب الناستيكية التي "تنفي"، وسميت بأنها كافرة هدامة لأنها شكَّت وأنكرت أو تجاهلت الفيدا، واللافت أن تلك المذاهب بصنفيها، لم تقيد الحرية الفكرية.
لقد آلت السيادة الفلسفية لستة من المذاهب المؤمنة بأحكام "الفيدا"، وهي: نيايا، وفابشيشيكا، وسانخيا، وبيرفا- ميمانسا، والأفيدانتا، واليوغا. وأصبح لزاماً على كل مفكر هندي ممن يعترفون بسلطان البراهما أن يعتنق أحد هذه المذاهب المجمعة على (أن الفيدا هبط بها الوحي، وأن الهداية إلى الحقيقة والصواب تأتي من الإدراك والشعور لا من التدلبل العقلي، وأن الزهد والطاعة لأعوام بغية تهذيب النفس غاية الفلسفة، وأن المعرفة هي الخلاص من العالم لا السيطرة عليه، وأن هدف الفكر هو التماس الحرية من الألم المصاحب لخيبة الشهوات والتحرر منها).
يُعَبر قديسو اليوغا عن الفلسفة والديانة الهنديتين، تعبيراً واضحاً فيه كل الغرابة، فهم لا يتحركون ويستغرقون في تفكيرهم، ومنهم من يلبس خرقة بالية على كتفيه، ومنهم من يضع قماشاً على ردفيه، ومنهم من لا يستره إلا الرماد ينثره على جسده وشعره، يجلسون القرفصاء وقد لفوا ساقاً على ساق يحدقون في الشمس ساعات وأياماً متعاقبة، أو يحيطون أنفسهم بألسنة حامية من اللهب في قيظ النهار، أو يمشون حفاة على جمرات النار أو يصبونها على رؤوسهم، أو يرقدون عرايا الأجسام لعقود من السنين على أسِرَة من حراب الحديد، أو يدحرجون أجسامهم على الأرض مئات الأميال حتى يصلوا مكاناً يحجون إليه، أو يصفدون أنفسهم بالأغلال في جذوع الأشجار، أو يحبسون أنفسهم في أقفاص مغلقة حتى يأتيهم الموت، وغير ذلك من وضعيات، ويأكلون مما يأتيهم به الناس من أغذية نباتية بسيطة جداً. وهم في ذلك يتعمدون قتل الشهوات، وتركيز كل تفكيرهم بغية أن يزدادوا علماً. ولكن أغلبهم يبحث عن الحقيقة في سكينة ديارهم ويجتنبون تلك الطرائق التي تستوقف الأنظار.
إن هذا المذهب الفلسفي "اليوغا" في التأمل الزائد الذي تعود جذوره إلى زمن بعيد، ازدهر في عصر بوذا، حتى أن الاسكندر المقدوني قد استوقف انتباهه قدرة هؤلاء الناس على رياضة أنفسهم في تحمل الألم صامتين. وحوالي العام 150 ق.م، جمع المؤرخ "باتانجالي" أفكار المذهب في كتابه المشهور (قواعد اليوغا) التي تُعدُّ من أقوى الظواهر تأثيراً وأوقعها في النفس.
تعني كلمة يوغا "الاتحاد"، وليس المقصود أن يدمج الإنسان نفسه في الكائن الأسمى، بل الخضوع لقواعد النظام التقشفي المتزهد ليبلغ ما يريده لنفسه من طهارة الروح من كل أدران المادة وقيودها، ويحقق ما يسمو على الطبيعة من ذكاء وقوة. لأن المادة في مذهب اليوغا هي أسُّ الآلام والجهل، لذا يجب تحرير النفس من كل ظواهر الحس وكل ارتباطات الجسد بشهواته لبلوغ "التنوير الأعلى والخلاص الأسمى في حياة واحدة، والتكفير في وجود واحد عن كل الخطايا المقترفة في التجسدات الماضية كلها".
إن السبيل إلى بلوغ اليوغا "الاتحاد أو التنوير" يكون بدرس ورياضة للنفس طويلين، ومراحلها ثمانٍ، هي:
1- موت الشهوة "ياما"، والامتناع عن كل سعي للنفس وراء مصالحها، وأن تتحرر من كل الرغبات المادية، وتتمنى الخير للكائنات جميعاً.
2- الالتزام الأمين "نياما" لبعض القواعد المبدئية، مثل القناعة والتطهر والدراسة والتقوى.
3- وضع معين للجسد "أسانا" بهدف إيقاف كل إحساس، وأفضل شكل، هو وضع القدم اليمنى على الفخذ اليسرى، والقدم اليسرى على الفخذ اليمنى، وأن يتصالب الذراعان، ومسك الاصبعين الكبيرين "الإبهامين" في القدمين، وحني الذقن على الصدر، وتوجيه النظر إلى طرف الأنف.
4- تنظيم التنفس "براناياما" لنسيان كل شيء ما عدا حركة التنفس، بغرض فراغ العقل من كل شواغله، واستغراق التفكير في تأملاته.
5- التجريد "براتياكارا" لسيطرة العقل على جميع الحواس، بغية الابتعاد عن كل المحسسات.
6- التركيز "ذا رانا" لملء العقل والحواس بفكرة واحدة، أو موضوع واحد، وصرف النظر عن كل ما عداه لتحرير النفس من كل إحساس، وكل شهوة أنانية، ليصبح العقل حرَّاً بحيث يحس بالجوهر الروحي للوجود على حقيقته.
7- التأمل "ذا يانا" وهو حالة تكاد تكون تنويماً مغناطيسياً تنتج عن التركيز "ذا رانا" يمكن استحداثها من الدأب، للوصول إلى المرحلة النهائية.
8- الغيبوبة "سامازي" حيث يُمحى من الذهن كل تفكير، وبذلك يفقد الإنسان الشعور بنفسه على أنه كائن مستقل بذاته وينغمس في مجموعة الوجود، ويجمع كل الأشياء في كائن واحد، وهو تصور إلهي مبارك.
لا ينشد "اليوغي" الاتحاد بإله، لأن فلسفته تقوم على أن الله "اشفارا" ليس هو خالق الكون أو حافظه، وليس هو من يثب الناس أو يعاقبهم، بل هو لا يزيد على كونه فكرة من فكرات كثيرة مما يجوز لنفس أن تركز فيها تأملها وتتخذها وسيلة لمعرفة الحقيقة. لكن الغاية المنشودة هي فصل العقل عن الجسد وإزاحة كل العوائق المادية عن الروح حتى يتسنى لها كسب ادراك وقدرة خارقتين للطبيعة لتصبح "براهما" نفسه، إذ أن "براهما" عند "اليوغي" هو الأساس الروحي الخبيء، والروح اللامادي الذي لا ينفرد بنفس، والذي يبقى بعد أن تطرد بالتريض كل أعلاق الحواس، وتتحرر الروح من بيئتها وسجنها الماديين لتكون "براهما"، وتمارس ذكاؤه وتتمتع بقوته، وتعبد القوى التي هي أسمى من الإنسان.
كانت اليوغا فلسفة صوفية خالصة، ثم اختلطت بالسحر وأخذت تشغل نفسها بالتفكير في المعجزات أكثر مما تفكر في سكينة المعرفة، وأصبح "اليوغي" يعتقد أنه يستطيع تخدير أي جزء من أجزاء جسمه بتركيز فكره فيه ويجعله نحت سلطانه، كما يمكنه إذا أراد أن يختفي عن الأبصار، أو أن يحولَ بين جسده وبين الحركة مهما كان الدافع إليها، أو أن يعرف الماضي والمستقبل.....
واليوم، أصبح لليوغا ناحيتها الطبية، من خلال نظام جسدي صارم، كطريقة عملية فضلى للحفاظ على صحة جسدية ونفسية جيدة، ولها قدرة علاجية مدهشة لبعض الأمراض كمرض الربو، وضغط الدم، وآلام المفاصل وفقرات الظهر، وتحسن القدرة على التنفس، ومرونة الجسم كله، مع تأثيرها الإيجابي على كل الأعضاء الداخلية (الكليتين، والبنكرياس....)، وهي عملية تحويل الاحتقانات الراكدة "الدم مثلاً" إلى احتقانات جارية، وهي سلوك يلزم بالتركيز الداخلي المثمر للحالة النفسية، وتصون الجسد، وهي تحافظ على الهوية الشخصية وعلى الشخصية الفريدة.
لا سبيل إلى معرفة اليوغا إلا عن طريق ممارستها، بما فيها من تأثير على الفكر والسلوك وسيطرة على الذات، واندماج الفلسفي بالديني، كخطوة أولى نحو اكتساب نظرة ما ورائية مشبعة بفهم الكون وبتوق شديد إلى ادراك الروح الكونية. إن اليوغا فلسفة قائمة بحد ذاتها، إنها علم المعرفة، والسلوك المنزه عن أي غاية، وهي التعبد، والتأمل.
من كتاب الأنشودة السماوية (3)
في مكان ساكن جميل/ ألقى عصاه ليستقر، ولم يكن المكان موغلاً في الارتفاع/ ولا مكاناً موغلاً في الانخفاض، وهناك فليسكن/ متاعه، قماشة وجلد غزال وحشيشة "الكوشا"/ هناك ركز فكره تركيزاً في "الواحد"/ ممسكاً بزمام قلبه وحواسه، صامتاً، هادئاً/ هناك فليمارس "اليوغا ليخلص إلى طهارة الروح/ ويضبط جسمه فلا يتحرك/ منه عنق ورأس، ونظرته مستغرقة كلها/ في طرف أنفه محجوباً عن كل ما حوله/ هادئاً في روحه خالياً من الخوف/ مفكراً في نذر "البراهما كاريا"(1) الذي نذره على نفسه/ مخلصاً مفكراً "فيَّ"، تائهاً في تفكيره "عني"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)براهما كاريا: أي نذر العفة الذي يتعهد به طالب الزهد.
(2)المقصود بكلمتي "فيَّ" و "عني" الإله كرشنا، وهو أحد آلهة الديانة الهندوسية الكبار.