كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

تحرّر المرأة وتمكينها مسؤولية من؟!

محمد سعيد حسين- فينكس

ثمة خبر تناقلته بعض وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية في مصر عام 2009 مفاده أن أكثر من ثلاثين بالمئة، من الفتيات القاصرات في مصر ممن لم يتعدّين الثالثة عشرة من أعمارهن، يتم تزويجهنّ لرجال كبار السنّ قادمين من دول عربية أخرى..!! ويؤكّد الخبر أن هذه الزيجات تدر على ذوي أولئك الفتيات عوائد مادية مغرية قياساً إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشون، علماً أنّ أغلبها زيجات مؤقّتة غالباً ما تنتهي مدتها بانتهاء إقامة ذلك الرّجل "السائح" في البلاد!
ليس غريباً على أحد أن تتناقل وسائل الإعلام العربية أخباراً كهذه، بهذه الحيادية المريبة، ولم يعد خافياً خلو أغلب البلدان الناطقة بالضاد، من مراكز أبحاث ومنظمات فاعلة تعنى بدراسة ظواهر من هذا النوع، ومحاولة معالجتها أو محاربتها أو السعي للحدّ منها، كما أصبح من نافل القول أنّ القوانين التي أباحت تزويج الطفلات بهذه الطريقة، إنّما منحت ترخيصاً قانونياً للوليّ الشّرعي "الرّجل"، أن يتّجر بما ملكت أيمانه من نساء قُدّر لهنّ أن يقعنَ تحت رحمة "وصايته".
بيد أن تحديد نسبة مئوية "30%" يشي بوجود جهة ما، عنت بهذه الإحصائية، وهذا يعني ـ بغض النظر عن مدى دقة الإحصائية ـ أنّه ثمة في مصر من يهتم لواقع المرأة بشكل عملي، هذا على افتراض أن الجهة إياها التي أشرفت على تلك الإحصائية، هي جهة تعنى بالشّأن الوطني المصري، وتسعى لفعل ما يمليه عليها الواجب الوطني والإنساني بهذا الشّأن، بينما يفتقر بلدنا لوجود أيّ نشاطٍ رسميّ أو شبه رسميّ أو مدنيّ جادّ في هذا الشّان ـ الإحصاء أعني ـ
الحقيقة أنّ الأسى الّذي يمكن أن يعتري المرء، على "التسليع" الرخيص للمرأة الّذي تظهره هذه الإحصائية، يقابله أسى أكثر مرارة وأشد وطأة عندما نعلم أن ظاهرة "بيع" الفتيات القاصرات في سورية، متفشية منذ أمد بعيد، وبكثافة قد لا تخطر في بال عاقل، وليس ثمة من يهتمّ لا بدراسة ولا بإحصاء، والأمرّ من هذا كله، هو الخطاب الرّسمي الّذي لا يفوّت فرصة ليتحفنا بكل الشعارات التي من شأنها أن تبرز اهتمام الدولة بالمرأة وضرورة تمكينها، في الوقت الّذي تحفل قوانيننا "المدنيّة" بمختلف أشكال التمييز والاحتقار لها، وللتأكّد ما علينا سوى مطالعة مواد من قوانين العقوبات و الأحوال الشخصية و الجنسية والميراث، لنكتشف أنّ هذا الخطاب إنّما هو مجرّد ذرّ للرّماد في عيون الرّأي العام المحلّي والعالمي لا أكثر، ولعل في مطالعة مرسوم تصديق سورية على اتفاقية القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة "سيداو" والتحفّظات العديدة التي تضمّنها، ما يبرز البون الشاسع بين الخطاب الرّسمي، وبين النوايا الحقيقية بهذا الخصوص، وهنا يحضر التساؤل الأهم:
هل ثمة إمكانية حقيقية لتحرر المرأة وتحريرها من القيود الاجتماعية والقانونية التي لا تزال ترزح تحتها في ظل خطاب كهذا؟!
ثمة من يقول أن تحرر المرأة يبدأ من تمكينها اقتصادياً، ومن ثم اجتماعياً، فسياسياً وحقوقياً، هذا كلام لا غبار عليه، ولكن؛ هل يمكن أن يتمّ هذا دون تحرر الرجل ذاته من موروثه الأخلاقي والعقائدي والاجتماعي؟!
هذا الموروث الّذي يبيح ويتيح له التّحكّم بالمرأة كما يحلو له، خصوصاً في ظلّ الحضور القوي والمخزي للقوانين المدنية المجحفة بحقّ المرأة، والتي تساهم في تكريس هيمنة العقلية "الذكورية" على مجتمعنا برمته رجالاً ونساء.
إنّ تحرّر المرأة يبدأ من هنا، حيث الرّجل الذي يسيطر على كلّ شيء، بدءاً بسنّ وتشريع القوانين، وليس انتهاءً بالمقدّرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية..
فعندما نقول تحرّر المرأة، يحضر إلى الذّهن فوراً سؤال: تحرّرها ممّ وممّن؟!!
ويحضر الجواب أيضاً: من تبعيتها التّاريخية "المزمنة" للرّجل، ومن إيمانها هي بأنّ هذه التّبعية قدر لا بدّ منه، لدرجة أنّها أصبحت تؤمن أكثر من الرّجل بضرورة انسحاقها أمامه، وتنشئ بناتها على هذه العقلية، وتعاقبهن على عصيانها.
وتحرّر الرّجل لن يتمّ بالنّوايا، إذ لن يتخلّى الرّجل بهذه السّهولة عن "مكتسباته التّاريخية"، وعليه فإنّ التّحرّر المنشود يبدأ من القوانين الّتي تخلو من التّمييز ضدّ المرأة، مروراً بحملات التّوعية الاجتماعية والحقوقية والأخلاقية، وليس انتهاءً بتكريس مبدأ المساواة في العقول كما في القوانين..
إنّه عمل مضنٍ وشاق، ولن نحصد نتائج مباشرة وسريعة، وإيماننا بعدالة ومشروعية ما نسعى إليه هو الأساس، وتوريث هذا الإيمان لأبنائنا ما أمكن.